- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الصحافة الجزائرية: على شفا الهاوية
بعد اندلاع ما يعرف بـ "احتجاجات الزيت والسكر" التي انطلقت في الجزائر بالتزامن مع انطلاق ثورات "الربيع العربي"، سارع الرئيس بوتفليقة إلى إصدار حزمة من الإصلاحات السياسية الواسعة في البلاد، وذلك في محاولة استباقية لمنع أي احتجاج أو تظاهر. ومع ذلك، فإن حالة الصحافة في الجزائر لم تتحسن كثيرًا منذ الربيع العربي، حيث احتوت محاولات الإصلاح على محاذير كبيرة استمرت في تقييد حرية التعبير بشدة، وفرض ضغوط مالية وترخيصية أدت إلى إغلاق العديد من المؤسسات الصحفية. كما دفعت القرارات التي اتخذت في العقد الماضي الصحافة الجزائرية إلى حافة الهاوية، وإذا لم يتم علاجها بسرعة، فإن وعود الإصلاح التي قطعتها الحكومة على نفسها في عام 2011 لن تؤدي إلى شيء.
وبالعودة إلى عام 2011، واستجابة لمطالب المتظاهرين، سارع الرئيس عبد العزيز بو تفليقة إلى تقديم قوانين جديدة، وإدخال تغييرات على الدستور وتعديل القوانين الأساسية. ومن بين القوانين التي تم إقرارها، كان قانون الإعلام الجديد أو ما يسمى ب “القانون العضوي" في يناير/كانون الثاني 2012. وقد أثار هذا القانون آنذاك جدلا واسعا من قبل الصحفيين الجزائريين حول ما إذا كانت السلطات حقا تعتزم الاتجاه نحو الانفتاح الحقيقي في مجال حرية الصحافة. نظريًا، كان الغرض من القانون تسهيل إنشاء هيئات تنظيمية مثل سلطة الضبط السمعي -البصري، التي تهدف إلى تحسين الظروف المهنية والاجتماعية للصحفيين.
وبعد مرور عامين من وضع قانون الإعلام الجديد حيز التنفيذ، جرى في يناير/جانفي 2014 طرح قانون مكمل خاص بالجانب السمعي- البصري أنهى احتكار الدولة من خلال السماح بإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة. ومع ذلك، أثبت هذا القانون أيضًا أنه مثير للجدل نظرًا لإدراجه بعض البنود والشروط المجحفة التي ترهن وتعيق عملية الانفتاح الإعلامي في البلاد.
ورغم المآخذ السابقة إلا أن القانون قد لقى ترحيبا واسعا من قبل الكثيرين، وسارع بعضهم إلى إنشاء قنوات فضائية، لكن اللافت أن كل القنوات التي برزت في المشهد الإعلامي كانت من الناحية القانونية قنوات أجنبية ولها تراخيص صدرت من دول أجنبية.
والسرّ في ذلك تماطل الحكومة في منح التراخيص المحلية للقنوات الفضائية، ما تسبب في فوضى كبيرة، مع بروز نحو 60 قناة فضائية في ظرف وجيز تمارس عملها دون قوانين منظمة.
وقد دفعت تلك الوضعية بالوزير الأول عبد المالك سلال إلى الإعلان في مايو/ أيار 2016 عن غلق 50 قناة بحجة عدم امتلاكها تراخيص عمل في الداخل الجزائري، وكشف أن خمسة قنوات فقط تمتلك تراخيص قانونية للنشاط، وطلب من وزير الإعلام تقديم بعض اللوائح التنظيمية التي تحدد الحقوق والواجبات للقنوات التي سيتم إنشاؤها.
ومع ذلك، ومن الناحية العملية، لا يزال الحصول على رخصة للبث في الجزائر مستحيلاً وذلك على الرغم من إعلان الحكومة فتح باب التقدم للحصول على رخص بث القنوات الفضائية الخاصة، في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وحتى الساعة لم يتم منح تلك التراخيص، وظلت جميع القنوات الفضائية ما عدا خمسة منها تشتغل في إطار غير قانوني.
أدى عدم تنظيم قطاع الإعلام، إلى خلق فوضى كبيرة في المشهد الإعلامي، ومما زاد الأوضاع سوء هو عجز هيئة الضبط السمعي- البصري عن القيام بمهامها، ما سمح ببروز تجاوزات عديدة. ويتذكر الجزائريون جيدا ما حدث العام الماضي مع الروائي المعروف رشيدة بوجدرة حيث تعرض لمسألة غير مسبوقة وبشكل مهين عن توجهاته الدينية والفكرية خلال إحدى برامج الكاميرا الخفية، ما أثار موجة استنكار واسعة وقام مجموعة من المثقفين بتنظيم وقفة احتجاجية شارك فيها شقيق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تنديدا بما جرى. ومع ذلك، لا تزال صناعة الإعلام تفتقر إلى مبادئ توجيهية واضحة تساعد على تجنب تلك المشكلات.
وإلى جانب التحديات التي يشهدها القطاع الإعلامي السمعي- البصري، فإن واقع الصحافة المكتوبة يمكن وصفه بالسيئ، حيث يعاني الصحافيون من آفاق مسدودة في ظل تدني الأجور، وأوضاع مهنية مهينة، إلى جانب معاناة المؤسسات الإعلامية من أزمات مالية عصفت بالكثير منها ودفعت العديد منها إلى تجميد عملياتها بشكل كبير أو حتى إغلاق أبوابها. ففي أغسطس/ آوت الماضي، وبعد مرور 22 عاما من صدورها قررت إدارة صحيفة "لاتريبون" الناطقة بالفرنسية غلق أبوابها، وتسريح جميع عمالها بسبب الأزمة المالية التي تعيشها في ظل المتاعب المالية الناتجة عن الضرائب، وديون المطابع، وتراجع عائدات الإعلانات.
وعلى الرغم من أن غلق الصحيفة العريقة شكل صدمة في الوسط الإعلامي الجزائري، إلا أنه في حقيقة الأمر، كان متوقعا، حيث أن قطاع الإعلام هو واحد من العديد من القطاعات الأخرى التي عصفت بها الأزمة الاقتصادية التي تجلت في حالة التقشف وتراجع مداخيل البلاد، إثر تهاوي أسعار النفط في السوق الدولية بداية من 2014. وبعد اندلاع الأزمة، أعلن وزير الاتصال السابق، حميد قرين، تقليص حجم الإعلانات الصادرة من المؤسسات الحكومية بنسبة 65 % خلال عامي 2015 و2016. ونتيجة لذلك، أعـلنت 6 صحف قرار الغلق خلال عام 2016، وتم تسريح عدد كبير من الصحفيين. ومنذ ذلك الحين، استمر الوضع في التصعيد، حيث كان لغلق بعض الصحف مثل صحيفة "لا تريبيون" تأثيراً سلبيا على جودة وسائل الإعلام المكتوبة في الجزائر.
وبالنظر إلى أحداث السنوات الماضية، من الواضح أن تعهدات الحكومة بترتيب فوضى المشهد الإعلامي بالجزائر تعتبر مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي. ولضمان استمرار العمل الإعلامي في الجزائر، ينبغي على الحكومة الإسراع بإصدار القانون الأساسي الخاص بالصحافة والذي من خلاله يتم تحديد حقوق وواجبات الصحفي بدقة، مع ضرورة الإسراع بتنصيب سلطة ضبط الصحافة المكتوبة، التي وعدت الحكومة بتشكيلها في عام 2012، على أن يكون اختيار أعضائها عن طريق الانتخاب من طرف الصحافيين أنفسهم وألا يتم تعيينهم من قبل الحكومة.
وعلى الحكومة أيضا أن تسارع في تشكيل المجلس الأعلى لآداب وأخلاقيات مهنة الصحافة والذي من خلاله يتم منع التجاوزات الحاصلة في المشهد الآن. وبالنسبة لقطاع السمعي- البصري ينبغي الإسراع في وضع دفتر شروط واضح يحدد الحقوق والواجبات مع تفعيل دور سلطة الضبط السمعي- البصري ومنح التراخيص للقنوات الخاصة وفقا لما تضمنه دفتر اللوائح القائم بالفعل.
ومن الخطوات الضرورية التي يجب أن تتخذها الحكومة للحفاظ على وسائل الإعلام الجزائرية وإظهار التزامها نحو وسائل الإعلام، هي مراجعة قانون الإعلان، وإنهاء احتكار الدولة وهيمنتها عليه، نظراً لأن الدولة لم تعد قادرة على دعم الصحافة من خلال إيرادات تلك الإعلانات.
وعوضا عن ذلك، يجب أن تسمح الدولة بقيام سوق حرة للإعلام تكون الاستفادة من عائداته بحسب قوة وانتشار الصحيفة أو المؤسسة الإعلامية، مع إلزام المؤسسات الإعلامية بدفع وتحسين شبكة أجور الصحافيين، وتخصيص نسبة من عائدات الإشهار لبرامج التدريب وتحسين الأداء. ومن ثم، فان إعادة ضخ الإيرادات مرة أخرى في قطاع الإعلام، سيساهم بشكل كبير في حماية الصحافة الجزائرية من المزيد من التدهور.