رغم قمع النظام ، يُظهر المتظاهرون الإيرانيون مرونة ووحدة غير مسبوقة في مطالبهم ، مما يجعل خطوات المجتمع الدولي التالية أكثر أهمية.
مرة أخرى، خرج الإيرانيون إلى الشوارع للاحتجاج على حكومتهم وسياساتها وقادتها. وها هم، مرة أخرى، يواجهون نظامًا أثبت أنه أصمّ لا يتجاوب مع السخط الشعبي الواسع النطاق، بل يرد عليه بالوحشية، والاعتقالات، والمحاكمات الجماعية، والإعدامات. لكن موجة الاحتجاجات الأخيرة مختلفة عن سابقاتها. فالنظام يقف اليوم في مواجهة مع أبنائه أنفسهم، وهم جيلٌ من الشابات والشبان الذين لا يسعون إلى الإصلاح وتخفيف القيود فحسب، ولكن أيضًا إلى تغيير النظام برمته.
وما أطلق شرارة الحركة الاحتجاجية هو وفاة ابنة الـ 22 ربيعًا، مهسا أميني، نتيجة تعرّضها للضرب على أيدي عناصر الشرطة الشرعية في 16 أيلول/سبتمبر لأن شكل حجابها لم يعجبهم. وسرعان ما اندلعت الاحتجاجات فور وفاتها، حتى أصبحت اليوم في شهرها الثالث.
كانت مشكلة الحجاب الإلزامي تقضّ مضجع النساء الإيرانيات منذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية. وعلى مدى أكثر من أربعين عامًا، كانت قيادة الجمهورية الإسلامية مهووسة بشعر المرأة وتبرّجها ولباسها. فالنظام يتصرف من نواحٍ كثيرة كما لو أن لديه مهمة واحدة، وهي إخضاع النساء وقمعهن ومعاملتهن كمواطنات من الدرجة الثانية وحرمانهن من حقوقهن ومساواتهن تحت سقف القانون. ولضمان نجاح هذه المهمة، أطلق النظام يد الشرطة الشرعية على عامة الناس لتعلّمهم "آداب التصرف." لكن الإيرانيات اليوم، وبخاصة الشابات، بدأن بمقاومة هذا النظام. وجاءت وفاة مهسا لتتوج ذروة هذا الغضب والإحباط المتناميين.
وسرعان ما انضم الشباب الذكور وطلاب الجامعات وطلاب المدارس الثانوية وحتى تلاميذ المدارس الابتدائية إلى احتجاجات النساء الإيرانيات. ولطالما لعب طلاب جامعة طهران دورًا مهمًا في الاحتجاجات السياسية، مثلما حدث في حركة تأميم النفط بين عامَي 1951 و1953، والحركة التي أدت إلى الثورة الإسلامية عام 1979. وفي عهد الجمهورية الإسلامية، كان هؤلاء الطلاب في طليعة الاحتجاجات التي نشبت خلال رئاسة محمد خاتمي عام 1999، وفي الاحتجاجات الوطنية ضد الانتخابات الرئاسية المزورة المزعومة عام 2009. وخلال الانتفاضة الحالية، شهدت الجامعات حالة اضطراب مماثلة أيضًا. ففي جامعة شريف في طهران مثلاً، وفي الكثير من الجامعات الأخرى في مختلف أنحاء البلاد، نظّم الطلاب الاعتصامات وتعرّضوا بالنتيجة لاعتداءات بالغاز المسيل للدموع والذخيرة الحية.
وما بدأ كحركةً احتجاجية نسوية تحوّل إلى انتفاضة شاملة يسمّيها البعض، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالثورة، وبقيت الشعارات الرئيسية التي يرددها المتظاهرون هي التالية: "امرأة حياة حرية" و"الموت للديكتاتور" (وهو شعار موجه ضد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي). وحتى آية الله الخميني الراحل ومؤسس الجمهورية الإسلامية لم يسلم من غضب المتظاهرين. فقد مزّق تلاميذ المدارس صور كل من خامنئي والخميني؛ وفي 17 نوفمبر/تشرين الثاني، أُضرمت النار في منزل الخميني الواقع ببلدة الخمين وسط إيران، والذي كان قد تم تحويله إلى متحف تكريمًا له.
ولما وجد النظام نفسه في مواجهة انتفاضة واسعة النطاق، وهو خائف منها بوضوح، لجأ إلى أسلحته المعهودة: أي التهديدات المخيفة، وإرسال شرطة مكافحة الشغب وقوات "الباسيج" شبه العسكرية إلى الشوارع والجامعات والمدارس، والإيعاز إلى قوات الأمن باستخدام الوسائل المتطرفة، بما فيها الذخيرة الحية، لتفريق المتظاهرين وقمع الاحتجاجات. وقرر النظام أيضًا إظهار تماسك جبهته أمام المحتجين.
فقد أعلن المرشد الأعلى آية الله خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي دعمهما غير المحدود لقوات الأمن، حتى أن خامنئي قال إن قوات الأمن تعرضت لمعاملة مجحفة. ولام كلاهما إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من العملاء الأجانب و"أذنابهم" المحليين على الاحتجاجات. وفي حين أُسندت مهمة السيطرة على الحشود حتى الآن إلى شرطة مكافحة الشغب و"الباسيج"، هدد قادة "الحرس الثوري" المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم أو مواجهة وحدات الحرس. ولم يخرج أي صوت معارض عندما دعا 227 من أصل 290 نائبًا في البرلمان الإيراني السلطةَ القضائية إلى إنزال أشد العقوبات بالمتظاهرين.
ولكن ماذا نتج عن هذا القرار بالرد على الاحتجاجات السلمية بالقوة الغاشمة؟ وفقًا لمنظمات حقوق الإنسان، تم حتى الآن اعتقال 15 ألف متظاهر يواجهون التهم وربما أيضًا المحاكمات الجماعية، وقُتل أكثر من 326 شخصًا، من بينهم أكثر من 40 طفلًا و27 امرأة أو أكثر. ومع ذلك، لم تنجح هذه الوحشية الجماعية في إخافة الناس وحملهم على الخروج من الشارع، بل على العكس، إذ يوجّه المتظاهرون رسالتهم الخاصة للنظام: نحن باقون هنا. نريد تغيير النظام. نريد إنهاء عهد الجمهورية الإسلامية.
ويُعزى جزء كبير من هذه المثابرة إلى أن جيل الشباب، والشعب الإيراني بشكل عام، قد تحمّلا بما فيه الكفاية. فقد سئم هؤلاء من النظام الفاسد الذي أوقع البلاد في الفقر. وضاقوا ذرعًا بالوضع الاقتصادي المتأزم، والتضخم المتنامي، وارتفاع كلفة المعيشة، والفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء. لقد سئموا من القمع السياسي وتكميم الصحافة وتزوير الانتخابات. سئموا من تدخل الدولة في حياتهم الشخصية. وسئموا من العقوبات والعزلة عن بقية العالم.
لذلك، يبدو أن وحشية قوات الأمن، وما ترتكبه من ضرب وقتل واعتقال، ناهيك عن الاعتداء الجسدي والاغتصاب الذي يحدث في السجون، لم تؤدِّ إلا إلى شد عزم هذا الجيل الشاب على الاستمرار، بدلًا من ترهيبه. إن النظام اليوم يواجه شبابًا، نساءً ورجالًا، متعلمين وفطنين ومتصلين ببقية العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
والجدير بالذكر هو أن "الجيل زد" في إيران اكتسب خلال الأشهر الماضية احترام العمال والتكنوقراط والمعلمين وأصحاب المتاجر والموظفين في القطاعين العام والخاص. وفي مناسبات مختلفة، قام العمال في مصافي النفط في الجنوب، وأصحاب المتاجر في طهران ومدن أخرى، والتجار في البازارات في جميع أنحاء البلاد، بتنظيم إضرابات ليوم واحد تعاطفًا مع المتظاهرين المنتشرين في جميع أنحاء إيران، علمًا أن المعارضة كانت شديدة وثابتة بشكل خاص في محافظتَي كردستان الإيرانية وسيستان وبلوشستان.
وإحدى السمات اللافتة الأخرى لهذه الحركة الاحتجاجية هي أن أعدادًا كبيرة من أفراد الجالية الإيرانية المنتشرة في أربع قارات قد كرروا مطالب "الثوار الشباب" في إيران، بعد أن كانوا منقسمين في السابق. فقد أخذت الجالية على عاتقها نقل الرسائل من داخل إيران إلى العالم الخارجي، ومفادها أن الشابات والشبان الذين خرجوا إلى شوارع المدن الإيرانية، وبعضهم يدفع حياته ثمنًا باهظًا لذلك، يرغبون في العيش في مجتمع حديث يتبنى قيم الديمقراطية، ويريدون أن يكونوا متصلين بالعالم الخارجي وألا يعامَلوا معاملة المنبوذين بعد اليوم.
وفي هذا الإطار، تستطيع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وغيرها من الدول والمنظمات الدولية دعم هذه الحركة بطرق عدة. فقد سبق أن أعربت عن دعمها للشعب الإيراني وأدانت استخدام القوة من قبل النظام الإسلامي، كما طالبت بوضع حد فوري لعمليات القتل والاعتقال والسجن التي يتعرض لها المتظاهرون.
وفي المرحلة المقبلة، يمكن لهذه الجهات الدولية أن تبدأ الآن بدحض شرعية أي محاكمات جماعية والدعوة إلى وضع حد لأحكام الإعدام. كما ينبغي للمجتمع الدولي أن يضغط على المنظمات الدولية المختصة لكي تأخذ اختصاصاتها على محمل الجد وتنفذ مهمتها بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها المتظاهرون، بما في ذلك قتل واعتقال تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات. ويجب عليها أيضًا أن تصرّ على الحكومة الإيرانية ألا تحجب وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت عن الإيرانيين. وهنا يمكن للدول الأوروبية التي تملك علاقات وبعثات دبلوماسية مع إيران أن تبلغ الحكومة أنها لن تواصل التعامل معها بشكل طبيعي طالما أن القمع وانتهاك حقوق الإنسان مستمرّان.