- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الشعبوية المتعصبة هي بداية النهاية للبنان كدولة حداثية
يعيش لبنان اليوم معركة وجودية حول شخصيته وهويته ومستقبله. ليس من المبالغة القول بأن حصيلة هذه المعركة تقرّر نجاح لبنان كمشروع حداثي أو فشله. وحيث أنه لهذا الوطن مكانة هامة في الوعي العربي. وكما أن مسار لبنان في المراحل الماضية كان إذعاناً بما شهدته المنطقة، فإن تداعيات الفشل المحتمل قد تطال جواره.
ذلك أن الصيغة التعددية التي يعيشها لبنان كانت ولا تزال اختباراً في إمكانية تشكيل هوية ذاتية عربية لا تنطلق من التأطير الديني. يوم التأمت جامعة الدول العربية للمرة الأولى عام ١٩٤٥، دفع حضور الوفد اللبناني بأحد المشاركين إلى أن يسأل متندراً «لماذا لم تُوجّه الدعوة لليهود؟». فالوجه المسيحي للبنان كان ولا يزال يشكل تحدياً للبعض في المحيط العربي، فيما يرحّب به آخرون كملاذ من طغيان الأحادية.
واعتماد لبنان بمجموعه الوطني لنمط عيش يقترب من النموذج الغربي يجعل منه استثناءاً في جوار يرى بعضه في الحداثة، فيما يتعدى تلقف منتجاتها المادية، تجاوزاً لنظامه الاجتماعي القائم على الدين. والمجتمعات اللبنانية بعمومها، وإن بأقدار متفاوتة، تندرج في أطر ثقافة واستهلاك تحاكي تلك القائمة في دول الجنوب الأوروپي، أكثر منها لتلك السائدة في العمق البري للمنطقة، وتشكل متنفساً لدعاة التغيير فيها بعيدا عن التناقض المفترض بين الأصالة والحداثة.
على أن هذه السمات التي تجعل من لبنان وطناً على حدة هي اليوم في دائرة الخطر.
قدر كبير من الازدهار الذي شهده لبنان في منتصف القرن الماضي كان عائداً لاستفادته الناجعة من مصائب المنطقة. إذ وفّر لجوء الأرصدة والنخب من القاهرة ودمشق وبغداد، والتي عانت من الفوضى المتواصلة وغير الحاسمة، فرصة للبنان مكّنته من الارتقاء المادي والثقافي إلى مستويات عالمية. غير أن سياسة الانفتاح هذه قد أفسحت المجال كذلك لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بتشكيلات فصائلها، للقدوم إليه والإقامة فيه على حساب استقراره وأمنه.
وبعد سلسلة حروب مدمّرة، أظهر لبنان في التسعينات ومطلع الألفية الجديدة ملامح الاستعداد للعودة إلى مكانته الطليعية في المنطقة. غير أن ثمة عاملين اعترضا ولا يزالان بشكل خطير، وربما دائم، قدرته على تحقيق هذه العودة.
أول هذين العاملين السيطرة الإيرانية المتقنة على لبنان كدولة وكمجتمع، والمتحققة من خلال وضع اليد المكشوف والمحكم والقريب من الكامل، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، على الطائفة اللبنانية الشيعية، والاختراق الدقيق لسائر الطوائف فيه.
أما العامل الثاني، وهو أكثر خفاءاً وإن وازى الأول أو تجاوزه من حيث المفعول، فهو التخلي المتصاعد داخل لبنان عن مشروع التحديث السياسي الذي قام هذا الوطن على أساسه.
ذلك أن لبنان، والذي يلامس مئوية تأسيسه، جاءت صياغته قبل قرن على أساس توافق بين فرنسا، بصفتها الدولة المنتدبة، والبطريركية المارونية، ونخبة اجتماعية ثقافية محلية، مسيحية بمعظمها ولكن ليس بتمامها، أن مسيرة التاريخ هي نحو الحداثة. فبدلاً من إقامة الدويلة ذات اللون الديني الواحد، والتي كان من شأنها توفير المأوى لمسيحيي المشرق، إنما الهشّ والمعرّض للأخطار، اعتمدت فكرة «لبنان الكبير» القادرة على إدارة التحولات السكانية المرتقبة، والتي كانت للتوّ واضحة على أنها لن تكون لصالح المسيحيين، من خلال دمج غيرهم (من المسلمين والدروز) في كيان سياسي مشترك قائم على الحداثة وقيم الأنوار.
أي أن لبنان، خلال القرن الكامل من وجوده المعاصر، قد شكّل إرهاصاً واختزالاً للإشكالية التي تفرض نفسها على الواقع العالمي بكامله اليوم، والمتجسدة بتجاور تطورين مستقلين قديرين: الأول هو التمدد المعنوي للقيم العالمية ومعايير الحداثة، وإن بأشكال متقطعة وغير مكتملة، والثاني هو التبدل السكاني الموهن لنفوذ الفئة الأكثر قابلية لاحتضان هذا التمدد المعنوي المتحقق.
وبشكل أولي، جرى اعتماد التوزيع الطائفي كأساس للحياة السياسية في لبنان الجديد بُعيد إعلان قيامه، بما يمنح المسيحيين أفضلية طفيفة. وكان الاعتبار، المفرط بالتفاؤل ربما، أن يكون هذا التوزيع مرحلياً، بانتظار استتباب تدريجي للنظام التمثيلي الصادق غير المميِّز. أما الواقع، فإنه بعد انقضاء القرن على قيام لبنان، يبدو هدف إقامة النظام السياسي المتساوي المنفتح أصعب منالاً اليوم مما كان عليه ساعة إعلان دولة لبنان الكبير.
غير أنه يمكن التقدم بالطرح المتماسك بأن فشل لبنان الحالي كمشروع حداثي ليس نهائياً ولا حاصل لذاته، بل عائد إلى عوامل طارئة عليه وعرضية على جوهره، سواء كانت داخلية أو خارجية، من قصوره على مستوى المؤسسة السياسية الحديثة واستمرار الأنماط الإقطاعية في نظام حكمه، إلى الأعباء الثقيلة الناتجة عن الصراعات في جواره. بل إن كل مراحل التاريخ اللبناني المعاصر - الانتداب والاستقلال والجمهورية الثانية - قد حفلت بتوجهات الاندماج الأفقي، أي المتجاوزة للطوائف والقائمة على اعتبارات ثقافية واقتصادية وسياسية، والمتحدية للإقطاعية الجديدة المستتبة في لبنان، بما يفتح المجال أمام قيام دورة وطنية جامعة. كما يمكن الإشارة إلى شخصيات قيادية بارزة سعت إلى كسر القيود القائمة، مثل الرئيس الأسبق فؤاد شهاب، ورئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.
ولا شك أن ترسّخ الإقطاعية الجديدة، والقائمة على عامودية العلاقة الزبائنية والخدماتية بين الزعامات وقواعدها الشعبية، وعلى شرعنة تقاسم الموارد والمواقع بين هذه الزعامات، يجعل منها للتوّ خصماً صعباً للتوجهات الأقل ثباتاً والتي تعبّر عن المصالح الأفقية المشتركة للجمهور اللبناني ككل. ويأتي العبء الإضافي المنهك للاحتلال الإيراني الملتبس للبنان، والقائم على تبعية علنية للولي الفقيه لدى البعض، ليضاعف من الشعور باليأس من إمكانية قيام لبنان متطور.
على أن الضربة القاضية لاحتمالات نجاح المشروع الحداثي في لبنان قد تكون في التخلي الصريح والمتعمد عن الصيغة التعددية والتي قام هذا الوطن على أساسها لصالح صيغة «ائتلاف الطوائف»، بما يشكل إعلاناً سافراً لفشل فكرة «لبنان الكبير»، في سعي عقيم لتطبيق حلول غير قابلة للدوام.
فكل من رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، وزير الخارجية الحالي والخلف العتيد بالرئاسة، قد يأتي أحياناً على إشهار أدبيات خطابية وطنية، غير أنهما قد برهنا عن اندراج ثابت ضمن منطق لبنان كائتلاف للطوائف، ولا سيما في إصرارهم المتواصل على التأكيد على «حماية حقوق المسيحيين». واقع الحال هو أن اللبنانيين المسيحيين قد أمسوا أقلية عددية في المجموع السكاني العام، ما أدّى، ضمن نظام المناصفة الذي يمنح المسيحيين والمسلمين حصة متساوية في المجلس النيابي، إلى فوز عدد من النواب المسيحيين بمقاعدهم بأكثرية من أصوات ناخبين مسلمين. وهذا في اعتبار عون وغيره يشكل تعدياً على حقوق المسيحيين، ويستوجب التصحيح من خلال انتخاب كل طائفة لنوابها، بما يمنح وزناً مضاعفاً لأصوات الناخبين المسيحيين بالمقارنة مع المسلمين.
ويتبجح عون وباسيل بحالات متكررة من الاستيلاء على المواقع لصالح التابعين لهم على أنه انتصار لحقوق المسيحيين - بالتمثيل غير المتساوي. وقد اعتمد باسيل كذلك، في سعيه إلى منصب الرئاسة خطاب حميه المتعصب والمستفز إزاء اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
وقد أدى هذا الخطاب إلى التصعيد اللفظي في الحوار اللبناني العام، كما في المواقف السياسية، وصولاً إلى الانحدار نحو العنصرية الوقحة. فحين أصدر رئيس إحدى البلديات التي تقطنها أكثرية مسيحية قراراً يمنع بموجبه غير المسيحين من الإقامة في بلدته، وهو محسوب على التيار السياسي للرئيس، لم يواجه بالأدانة. وحين أرادت إحدى الفنانات الإعراب عن امتعاضها لاعتراض اللاجئين الفلسطينيين على توجيهات جديدة أصدرها وزير العمل، فإنها دعت إلى إحراقهم، كما فعل هتلر باليهود، دون عواقب جدية.
وقد أثبتت الشعبوية المتعصبة أنها ظاهرة تتسبب بالعدوى، فالضرر الذي يطال الخطاب السياسي في لبنان اليوم جلي، إذ يعمد خصوم عون وباسيل من السياسيين المسيحيين إلى المزايدة في التعصب، ما يطلق دورة متواصلة من العدائية والتطرف ويدفع الخطاب الوطني إلى الاهتراء.
وبالفعل، يمنح الخطاب الشعبوي المتعصب بعض السياسيين المسيحيين شعوراً بالتمكين، بما ينسجم مع مصلحة إيران في متابعة العصبيات الطائفية في لبنان، لتعزيز إمساكها بالطائفة الشيعية، ولمنع قيام خطاب لبناني جامع متجاوز للطوائف وقادر على مواجهة هيمنتها. على أن التلاقي في المصالح بين عون وباسيل وإيران من شأنه الإضرار العميق بلبنان كدولة حداثية، ومن شأنه تباعاً اعتراض استمرار الوجود المسيحي الفاعل فيه.
فمن يعتنق الشعبوية المتعصبة ويجاهر بالفئوية الطائفية في هويته السياسية، ويتراجع قولاً وفعلاً عن وعد لبنان التعددي الجامع، والذي صاغه المؤسسون لهذا الوطن قبل مئة عام، يتخلى عن السبيل الأنجع لمواجهة النتائج السلبية للتحول السكاني الأكيد - أي تشكيل مجتمع متحد على أساس القيم والحاضن لجميع مواطنيه دون تفضيل للأديان والطوائف. فالشعبوية المتعصبة تستدعي اليوم الاستعلائية الحضارية وتعيد انتاج تاريخ لبنان والمنطقة على أنه صراع بين المسيحية والإسلام. ومن شأن هذا التصوير إثارة العواطف وتحقيق النتائج الانتخابية لأصحابه. ولكنه، بالإضافة إلى أنه تشويه لتاريخ المنطقة، من شأنه للتوّ مضاعفة التوتر بين الطوائف والتسبب في عزل المسيحيين عن محيطهم وتعريضهم للأخطار.
فالصراع الوجودي في لبنان ليس بين المسيحيين والمسلمين، على ما في استعمال هذين المصطلحين من اختزال، بل هو ضمن الأوساط المسيحية بين من يئس من صيغة «لبنان الكبير» ولجأ إلى مقولة واهية بأن الامتيازات الآنية هي حقوق دائمة، وبين من أدرك أن السبيل لحماية حقوق المسيحيين وعموم اللبنانيين هو في الارتقاء نحو هوية لبنانية حداثية مستنيرة قائمة على التعددية والقيم العالمية.
وفي خضم سياق عالمي يجري فيه تطبيع الشعبوية وتتكاثر فيه المواقف المتعصبة والعنصرية، تسير النسخة اللبنانية من هذا الخطاب بخطى وثيقة إلى طرح المزيد من المادة المستفزة، مبتعدة بالوطن عمّا أراد له مؤسسوه. ولا بد بالتالي للأسف، بما يستنزف مصالح كافة اللبنانيين، من المسيحيين وغيرهم، ويحبط جميع المواطنين المستنيرين في سائر الدول العربية إذ اعتبروا أن لبنان هو الشعلة في الليل العاصف، من الإقرار بأن فرص تحقيق الحداثة الصادقة في المنطقة تتراجع.