- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الشراكات المحلية هي مفتاح المواجهة مع إيران في العراق
إن امتلاك إيران لمصادر القوة الصلبة والناعمة، والعمق التاريخي والثقافي والحضاري، جعلها تستشعر بفائض قوة في العراق. فالمراقب للإستراتيجية الإيرانية، يلاحظ أن هناك تطوراً مهماً قد إدخل عليها، بحيث تحولت من الدعوة للشعوب بالثورة على أنظمتها السياسية، إلى التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، من خلال سعيها إلى التمكين السياسي للأقليات داخل هذه الدول، وعن طريق دعمها للوصول للسلطة والهيمنة عليها. ويعد العراق مثالا بارزا على تلك الاستراتيجية.
لكن رغم ذلك تواجه إيران مشكلة كبيرة في تسويق نموذجها السياسي الثيوقراطي -الطائفي الذي تعتمد عليه في بسط نفوذها الإقليمي في العراق. فرغم اعتمادها على إستراتيجية "التمكين الشيعي" في العراق، لإنجاح مسعاها السياسي، إلا أن هذا النجاح أرتد عليها بالفشل في بعض الأحيان، نتيجة عدم أداء الأدوات الشيعية لأدوارها بصورة تخدم المصالح السياسية الإيرانية.
إن استمرار الشعور بعدم الارتياح بين العديد من العراقيين نتيجة النفوذ الإيراني المتزايد، إلى جانب استمرار الوجود العسكري الأمريكي المحتمل في العراق، يجعل من البلاد ساحة محتملة لمزيد من الصراعات المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. وقد حذرت كلاً من الولايات المتحدة وإيران مؤخرا من تأثير القوة الأخرى المتواجدة داخل العراق. وبالمثل، عكست الزيارات المزدوجة لوزير الخارجية الأمريكي، مايكل بومبيو ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى العراق في كانون الثاني/يناير الماضي، رغبة البلدين في استمرار نفوذهما في العراق. وخلال زيارته للعراق، التقى ظريف بعدد من الشخصيات السياسية والقبلية والمليشياوية لمعرفة موقفهم من التواجد الأمريكي الكثيف في العراق. وفي الوقت عينه، صرح الرئيس الأمريكي ترامب بأن القوات الأمريكية ستبقى في العراق جزئياً لـ "مراقبة إيران".
وعلى الرغم من قيام الرئيس الأمريكي باتخاذ قرار القوات الأمريكية من المناطق المجاورة للعراق، إلا انه رفض أي تكهنات بسحب القوات الأمريكية من العراق، وأكد من جديد على ضرورة احتفاظ الولايات المتحدة بقاعدة عين الأسد الجوية. ومن ناحية أخرى، سعت إيران بشكل خاص لتركيز نفوذها وسلطتها على العراق بشكل متزايد، خاصة وأن العراق يقع في قلب الاستراتيجية الإقليمية الشاملة لإيران. ونظرًا لموقعه الجغرافي، فإن العراق يمثل شريان مركزي تمول إيران من خلاله حملاتها العسكرية في سوريا ولبنان واليمن، سواء على مستوى الدعم المالي أو اللوجستي.
وفي الوقت الذي لم تنفك فيه دوائر صنع القرار الأمريكي بالبحث عن الوسائل المناسبة لمواجهة إيران في العراق، والتي يأتي في مقدمتها خطة إعادة الانتشار الأمريكية، وتحديداً في المناطق الشمالية والغربية منه، إلا أنه يمكن القول بأن الخطة الأمريكية يبدو أنها لم تنضج بعد، فهناك الكثير من المتغيرات المؤثرة حيال التوجه الأمريكي الحالي في العراق. والحديث هنا عن تهديدات تنظيم "داعش" المتصاعدة، وهيمنة الحشد الشعبي، وغياب العناصر السنية المحلية التي يمكن التعويل عليها في المرحلة المقبلة، فضلاً عن عدم وضوح الرؤية الكردية حول مدى التناغم مع الخطط الأمريكية مستقبلاً.
وتخشى الولايات المتحدة أيضا من التهديد المتمثل في الدعم العسكري المحلى الراسخ الذي تتمتع به إيران والذي يمكنها الاعتماد عليه. وانطلاقاً من التهديد الذي يمثله تنظيم (داعش) على المشروع الإيراني، سعت إيران إلى تثوير المجتمع العراقي من خلال عسكرته، عن طريق إنتاج العشرات من المليشيات المسلحة. إضافة إلى ذلك، يمكن لقوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران والتي لديها تاريخ معقد في العراق أن تعمل كحائط صد يحمي إيران من أي تحديات مستقبلية قد تواجهها، إضافة إلى تثوير أحزاب الإسلام السياسي "الشيعي"، وإبعاد سبغة المدنية عنها، عن طريق جعل نشاط هذه الأحزاب مدني وعسكري بنفس الوقت، وهو ما يصطلح على تسميته "بالأحزاب المليشياوية".
في ظل هذه الظروف، أصبح الوجود العسكري يمثل جوهر معركة النفوذ في العراق. ومثلما فعلت إيران، يجب على الإدارة الأمريكية أن تعمل على توجيه جهودها لتحسين وتطوير علاقتها مع الشركاء المحليين المحتملين على الأرض. والحديث هنا عن القبائل السنية، والفصائل السنية المسلحة، والقوى السياسية المعارضة للنفوذ الإيراني في العراق، وتحديداً القوى السياسية المتواجدة في عمان ولندن وواشنطن، كما أن هناك تيار شعبي شيعي واسع في مدن جنوب العراق أصبح ناقماً على سياسات إيران السلبية في العراق، يمكن الاستفادة منه وتوظيفه جيداً لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق. إلى جانب ذلك، هناك أيضا أعضاء البرلمان الذين أبدوا توجهاً للخلاص من النفوذ الإيراني، والحديث هنا عن تحالف "سائرون" و"الحكمة" و"الوطنية" وغيرها.
وفى ظل الوجود العسكري الأمريكي الحالي في العراق، قد تواجه القوات الموالية للولايات المتحدة موقفا خطيرا، فقد يدفع الوكلاء المدعومون من إيران إلى مواجهة عسكرية أمريكية مباشرة - وهو احتمال سيكون مكلف للغاية وذلك في ظل سيطرة القوات الإقليمية الإيرانية واسعة النطاق. كما أن قدرة إيران على تصعيد أي صراع إلى صراع إقليمي أوسع يجعل أي صدام محتمل في العراق خطيراً بشكل خاص. وفى هذا الصدد، أسس الجنرال قاسم سليماني ومعه فيلق القدس الإيراني، علاقات واسعة مع مختلف الحركات المسلحة السنية والشيعية على حد سواء، والتي أظهرت ولاءً كبيراً لإيران خلال المرحلة الماضية.
وعلى الرغم من أن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية التي تنتهجها الولايات المتحدة ضد ايران تبدوا كأنها خياراً إستراتيجياً أمريكياً ناجعاً ومفضلاُ، إلا أنها ستفقد فاعليتها إذا ما امتدت لفترة طويلة دون أن تكون هناك نتائج ملموسة على أرض الواقع، خصوصاً وإننا نتحدث عن إيران التي قامت بإعادة هيكلة اقتصادها لمواجهة تلك العقوبات .ونظرا لان ايران تمتلك تاريخاً طويلا في كيفية التعامل مع العقوبات والأزمات، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين التفكير في اتخاذ تدابير بديلة يمكن أن تساعد في جهود فرض العقوبات للحد من التوسع الإيراني.
إن إعادة بث الحياة والتعاون مع العناصر الوطنية والقومية المناوئة للمشروع الإيراني في العراق، يمثل أمراً ضرورياً لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق. فالسياسات التي تتبعها الميليشيات القريبة من الحرس الثوري والتي تقوم على ابتزاز العناصر غير المنسجمة معها والضغط عليها، يمكنها أن توفر للولايات المتحدة هامش أوسع للمناورة الإستراتيجية أكثر من ذي قبل. وفي حين نجحت إيران في إنتاج مجموعات موالية لها داخل العراق، فإن هذه المجموعات نفسها ساهمت في عزل الكثير من المدنيين العراقيين عن المشروع الإيراني. كما أن هناك رغبة كردية وعربية لاستعادة الحكم الذاتي في مناطقهم، بعد أن تم سلبها من قبل حلفاء إيران في العراق، وتجنب الانضواء تحت المشروع السياسي الإيراني في العراق.
فتلك العناصر المحلية هي الأقدر على التعامل مع إيران في العراق، فهم يملكون خلفية عسكرية وإستراتيجية تمكنهم من مواجهة النفوذ الإيراني، وذلك بفعل خطابهم السياسي الذي يتجاوز الحدود الطائفية والمذهبية الضيقة. علاوة على ذلك، من المحتمل أن تلقى هذه الاستراتيجية دعمًا من قوى إقليمية أخرى - مثل تركيا والأردن والمملكة العربية السعودية -والتي ستستفيد من تحرير العراق من قبضة إيران وسيطرتها.
إن التعاطي مع الحالة الإيرانية في العراق يحتاج إلى رؤية إستراتيجية شاملة، تتخطى نطاق العقوبات أو مجرد الإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي الحالي في العراق. ومن ثم، يجب أن تبدأ تلك الاستراتيجية بعزل إيران واحتوائها مع التركيز على بناء شراكات استراتيجية محلية داخل العراق لمواجهة النفوذ الإيراني هناك. لذلك، يجب التعامل مع تلك الإجراءات على أنها جزء من خطة شاملة؛ خاصة أن إيران ستكون قادرة على الاستمرار في سياستها التوسعية من خلال إيجاد ممرات بديلة تستطيع من خلالها بسط نفوذها إقليميا إذا ما تم أزاحتها من العراق. وإذا ما أرادت الولايات المتحدة الاستمرار في سياستها لمنع التمدد الإيراني، فعليها أن تنظر للعراق على انه خطوة مهمة، وليس التدبير النهائي لسياسة الاحتواء التي تسعى مواجهة إيران.