الشرق الأوسط يلتقي الشرق الأقصى: لم لا يستطيع الرئيس الأمريكي المقبل "الالتفاف نحو آسيا"؟
بالطبع، إن ما يقرّب المملكة العربية السعودية من اليابان ويبعدها بشكل متزايد عن الولايات المتحدة هو النفط. فالمملكة العربية السعودية تُعدّ إلى حد كبير أكبر مصدّر للنفط عالميًا فيما تُعدّ اليابان أحد أبرز مستورديه.
كاد اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية يمر مرور الكرام الأسبوع الماضي في أوساط الإعلام الأمريكي. ولكن في اليابان، حيث صودف تواجدي عندها، أوردت الصحف رسائل تهنئة وإعلانات رسمية مبالغة بشكل مثير للاشمئزاز من قبل شركات محلية كبرى. وبدوره، نشر السفير السعودي لدى طوكيو افتتاحية يثني فيها على العلاقة الثنائية بين الدولتين واصفًا إياها بـ "إحدى أهم" العلاقات في العالم، مشيرًا إلى أن اليابان تحتل المرتبة الثالثة بين جميع شركاء الرياض التجاريين في حين ترد المملكة العربية السعودية بين أول عشرة شركاء لدى طوكيو.
شكلت النبرة الحارة صدىً للتعليقات التي وردت في وسائل الإعلام الخاصة بالدولتين وعكست "إعجابًا متبادلًا" في وقت سابق من هذا الشهر، حين قام الأمير محمد بن سلمان بزيارة اليابان. تتناقض هذه النبرة بشكل فاضح مع النبرة الباردة وذات العدائية الصريحة في معظم الأحيان التي طبعت مؤخرًا التعامل بين وسائل الإعلام السعودية والأمريكية. ويبرز هذا التناقض أكثر فأكثر على ضوء ذكر اليابان بوضوح كحليف أساسي من قبل هيلاري كلينتون ودونالد ترامب في نهاية مناظرتهما الأولى في 27 أيلول/سبتمبر.
بالطبع، إن ما يقرّب المملكة العربية السعودية من اليابان ويبعدها بشكل متزايد عن الولايات المتحدة هو النفط. فالمملكة العربية السعودية تُعدّ إلى حد كبير أكبر مصدّر للنفط عالميًا فيما تُعدّ اليابان أحد أبرز مستورديه. في الواقع، يعتمد اقتصاد اليابان، وهو ثالث أضخم اقتصاد عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين، بصورة شبه كلية على واردات الطاقة، خصوصًا تلك الآتية من الشرق الأوسط. وفي حين تعمد بعض الاقتصادات الأخرى الكبرى إلى تنويع مصادر الطاقة الخاصة بها، تزايد اعتماد اليابان على نفط الشرق الأوسط وغازه منذ ابتعادها بشكل مفاجئ عن الطاقة النووية، في أعقاب زلزال/تسونامي/انصهار فوكوشيما منذ خمس سنوات.
ولكن مؤخرًا، ساهم عامل آخر أيضًا في تقريب هذين الرفيقين الغريبين من بعضهما البعض وهو القلق المشترك بأن تكون الولايات المتحدة في صدد الابتعاد عن دورها التاريخي كحامية لمسارات الطاقة الدولية والبنى التحتية الخاصة بها، والتي تُعتبر بالفعل شريان الحياة لصمودها الاقتصادي. ومن خلال محادثاتي مع عيّنة تمثيلية من المسؤولين والخبراء اليابانيين من مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع وجامعات ومؤسسات رائدة، أدركت أمرًا غير متوقع بات أحد قناعاتي وهو التالي: إذا ما أرادت الولايات المتحدة تطوير تحالفاتها ومصالحها في شرق آسيا، عليها أيضًا أن تُبقي على مظلتها الأمنية فوق إمدادات الطاقة الخاصة بالشرق الأوسط.
بحسب مراقبي الشرق الأوسط اليابانيين، لا يستطيع أحد آخر أن ينجز هذه المهمة. وانطلاقًا من هنا، ينضم هؤلاء إلى معظم الخبراء والمسؤولين العرب، الذين يقرّون علنًا أن ضعفهم النسبي وانشغالاتهم الداخلية وخصوماتهم الإقليمية مع إيران ومع بعضهم البعض تجعلهم جميعًا غير مؤهلين لحماية إرث الطاقة الخاص بهم بأنفسهم. والمفارقة هنا أن حتى "الالتفاف نحو آسيا" الذي أعلنته إدارة أوباما يستوجب حضورًا قويًا في الشرق الأوسط، إلا أن الفريق الحالي أدرك ذلك بشكل جد متأخر وعلى مضض. وحري بالإدارة الأمريكية المقبلة أن تتذكر الماضي القريب لكي لا تكرر هذا الخطأ.
فضلًا عن ذلك، يتشارك مخاوف اليابان المتعلقة بالشرق الأوسط بشكل واسع عمالقة آسيويون آخرون، سواء أكانوا أصدقاء أم خصومًا للولايات المتحدة. فمن ناحية الاعتماد الشديد على ناقلات النفط والغاز الخاصة بالشرق الأوسط، لا تتشارك الصين والهند وكوريا الجنوبية الوضع ذاته كاليابان ولكنها توشك على ذلك. ولا تتطوع أي دولة من تلك الدول لتولي الموقع الأمريكي الرائد في حماية صادرات الطاقة الأساسية الخاصة بالشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، في ما يتعلق بإحدى "صادرات" الشرق الأوسط الأخرى وهي الإرهاب الإٍسلامي المتطرف، تجد عدة دول آسيوية أخرى كبرى نفسها متورطة فيه أكثر من تورط اليابان الحالي أو المستقبلي. تبدأ هذه القائمة بالصين والهند وتشمل إندونيسيا والفيليبين وتايلاند وماليزيا وبنغلادش وباكستان وغيرها.
ولكن اليابان حتى قد تكون عرضة لهذا التهديد. فالخبراء الذين تحدثت معهم في طوكيو لا يشعرون بأنهم في منأى عن إرهاب الشرق الأوسط، بالرغم من بعدهم الجغرافي وديمغرافيتهم المختلفة والمتجانسة إلى حد كبير بالإضافة إلى إجراءات تحكم صارمة بالهجرة. وكما أخبرني مسؤول ياباني، تضم دولته 100000 مسلم فقط، وهم بمعظمهم مهاجرين مسالمين من جنوب شرق آسيا، من أصل 127 مليون نسمة. ولكن بما أن اليابان دولة تجارية كبرى، تتنقل أعداد كبيرة من رجال الأعمال والصحافيين وغيرهم من اليابانيين باستمرار في كافة أرجاء العالم، مما يعرّضهم لخطر الإرهاب.
فقد اختُطف مؤخرًا مسافران يابانيان وقُتلا في وقت لاحق على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" في سوريا. آنذاك، حظي المؤلف بفرصة مناقشة المسألة مع مسؤول ياباني معني في المفاوضات العبثية لإنقاذهما. وأشار هذا المسؤول إلى أن هذه الحادثة المأساوية حظيت باهتمام بالغ من قبل الرأي العام والإعلام وشغلت الحكومة بشكل كامل على أرفع المستويات. وكما يعلم الأمريكيون علم اليقين، قد يتسبب عدد صغير من الرهائن أو عمليات الذبح في الخارج بضغوطات سياسية محلية وأزمات أمنية وطنية هائلة.
وعلى غرار الولايات المتحدة، تستضيف اليابان باستمرار أعدادًا مهمة من الزوار الأجانب. بالإضافة إلى رجال الأعمال المسافرين، تُعتبر اليابان وجهة سياحية لافتة على نحو مفاجئ، لا سيما بالنسبة إلى الآسيويين الآخرين أو الأستراليين. ففي آب/أغسطس وحده، على سبيل المثال، بلغ عدد الوافدين الأجانب إلى اليابان حوالي ثلاثة ملايين، ما وضعها في الخانة البارزة ذاتها مع إسبانيا أو أماكن أخرى مخصصة للعطل يقصدها عادةً الغربيون.
نظرًا لتلك الأعداد والشبكات العالمية الحالية، يُعتبر احتمال العدوى الإرهابية واقعيًا. ففي كافة أجهزة النقل العام الضخمة في طوكيو وكيوتو، رأيت لافتات تحمل العبارة التالية: "إذا رأيت أمرًا، بلِّغ عنه"، وهي اللافتات ذاتها التي انتشرت بشكل محبِط في أرجاء الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2011. في هذا السياق، أعرب الخبراء اليابانيون الذين اجتمعت بهم عن قلقهم البالغ إزاء الوضع الأمني خلال الألعاب الأولمبية في طوكيو بعد أربعة أعوام.
في هذا المجال، وبخلاف مجال الطاقة، تنقسم آراء صناع السياسات اليابانيون والآسيويون الآخرون بشأن ما يريدونه من واشنطن. فالبعض يعتبر في السر أن الفعل أو التخاذل الأمريكي، في العراق أو سوريا أو ليبيا مؤخرًا، وفي أفغانستان أو باكستان في وقت سابق، أدى إلى تفاقم التحدي الإرهابي عوضًا عن مواجهته.
يشير آخرون إلى رابط لا يأتي الغرب على ذكره غالبًا وهو أن الإرهاب لا يهدد الأفراد فحسب إنما أيضًا مصادر الطاقة الدولية، كما هي الحال في ليبيا أو العراق حاليًا. بغض النظر عن ذلك، لا يعتقد أحدًا ممن قابلتهم أن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط سيحسن الوضع، بل يأملون التعاون عن كثب مع مقاربة أمريكية ناشطة لمعالجة المشكلة، مدركين تمامًا أن أي دولة لا تستطيع التعامل منفردة مع هذا التهديد الآخذ في الانتشار.
وبالفعل، لا تهتم اليابان ودول آسيوية أخرى بالشرق الأوسط بقدر ما تهتم بقضايا أخرى أقرب منها، بدءًا بصواريخ كوريا الشمالية ومطالبات الصين البحرية وصولًا إلى المعاهدات التجارية الدولية. في الوقت عينه، يعتبر أبرز المفكرين في اليابان على نحو صائب أن السياسة الأمريكية الناجحة تجاه شرق آسيا تفترض قيادة أمريكية قوية في ما يسمونه غرب آسيا أو ما نسميه نحن الشرق الأوسط. فهم يريدون أن تساهم الولايات المتحدة في حماية تدفق مصادر الطاقة وأن تطمئنهم حول التزامها تجاه حلفائها وتتعامل بشكل فعال مع التهديدات الإرهابية المتأتية من الشرق الأوسط. وبالتالي، فهم لا يعتبرون الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط مسألة تصرف الانتباه بل ركيزة داعمة أساسية لعلاقاتهم الأمنية والاقتصادية وغيرها مع واشنطن. إذا ما زالت الولايات المتحدة ترغب بأن تكون قائدة عالمية، حري بها أن تأخذ هذه النصيحة الحكيمة بعين الاعتبار.