- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
السردية «المستقبلية» تتشكل كبديل عن «الإسلامية»، وهي بحاجة إلى حمايتها من الدعاة إليها
تقترب منظومة الدول الوطنية في الشرق الأوسط من مئويتها الأولى، قرن كامل شهدت خلاله تتالي البروز والأفول لأربع «سرديات كبرى»: العصرية النهضوية، القومية العربية، الثورية الإشتراكية، الإسلامية. كل سردية كبرى فرضت نفسها في آنها إطاراً لاستيعاب الواقع السياسي والثقافي ولرسم سبيل السير لتحقيق رؤية هادفة. جميعها اتفق على وجوب تحقيق الأساس من الرفاه والكرامة والحرية، وكل منها أضافت ما اختصت به في تصورها لمفهوم النجاح على المستوى العام. وقد تأرجحت هذه السرديات بين النخبوية والشعبوية من جهة، وبين «الترابية» (أي تغليب الانتماء المحلي والريبة من خلافه) والعالمية من جهة أخرى، وهي كثيراً ما تداخلت وتزامنت، حين توافق صعود إحداها مع انحدار الأخرى. وكل من هذه السرديات الكبرى عند أوجّها كانت هي السيدة على الخطاب العام والسائدة فيه، ملزمةً سابقتها بالردود الدفاعية. واليوم تنضمّ سردية كبرى جديدة إلى السلسلة، ألا وهي السردية المستقبلية.
السرديات الكبرى في القرن العشرين
أولى السرديات الكبرى التي شهدتها المنطقة كانت الأرخى من حيث الاتضاح الذاتي والمجاهرة، وكانت المتابعة السياسية للنهضة الأدبية التي تحققت في القرن التاسع عشر. خطابها كان جهاراً نخبوياً أبوياً، ملتزماً بالعالمية المتفائلة التي تلت الحرب الكبرى (العالمية الأولى).
يمكن الإقرار موضوعياً لهذه السردية الكبرى بقدر من الإنجاز، إذ هي أطّرت بناء الدول الحديثة، وإن انطلاقاً من جهود الإصلاح التي كانت قائمة قبل الحرب في مصر وفي الولايات العربية للدولة العثمانية، وبإشراف القوتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، بعد إعادة تعريف دورهما ضمن خانة الانتداب من عصبة الأمم. وقد تطورت في هذه الدول الناشئة، في إطار هذه السردية، مفاهيم جديدة للعلاقة بين المجتمع والحكومة، بعيداً عن الريبة التخاصمية بين الجانبين والتي كانت سائدة قبلها. إلا أن هذه الإنجازات، والتي لم تصاحبها رؤية ناجحة لتعزيز الهوية الوطنية، تمّ تجييرها لصالح التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للنظام المستجد. بل إن عجز هذه الدول عن التفسير الناجع لقيام دولة إسرائيل أو استيعاب الحدث شكل حكماً قاضياً على المنظومة المستحدثة في المنطقة وعلى سرديتها الكبرى غير المتجانسة. ومع «النكبة» التي المّت بالمجتمع الفلسطيني، مقابل إعلان استقلال دولة إسرائيل، برز إلى السطح التباعد الخطير بين النخب الحاكمة في منظومة الدول العربية الجديدة والقوى السياسية الصاعدة المتحدية لها.
البديل عن خطاب العصرية النخبوي العالمي جاء ردّاً شعبوياً و «ترابياً». استعارت «القومية العربية»، وإن مع التدليس، المنهجيات والقوالب من القوميات الأوروپية، وصولاً إلى إشهار القناعة بأنها إحياء لجوهر ذاتي ضاع نتيجة التلوث من الخارج، الاستعمار الغربي منه أو الانحطاط الشرقي، ولا سيما التركي. وقد سعت هذه السردية إلى التقليل من أهمية النجاح في محاكاة العصر، باعتباره من باب تحصيل الحاصل، وأدخلت مقومات خطابية جديدة حول المجد والوحدة، مع الوعد المفصلي بالنصر في فلسطين. والطبيعة الخارجية لهذا الإنجاز العتيد أتاحت للنخب الريفية الجديدة، والتي أهّلتها البنى المتشكلة في الدول المستحدثة، ولا سيما في قطاعات الجيش والإدارة، أن تبدد المصالح المتضاربة في الداخل خلال مرحلتي تحدي السلطة ثم الإمساك بها. وسقوط هذه السردية الكبرى، دون تهاوي النخب الجديدة التي أوصلتها إلى سدة الحكم، جاء من خلال الكشف عن التباعد بين مزاعم السردية ومساعي أصحابها، وصولاً إلى «النكسة»، بل التحدي الوجودي الجديد والذي شكلته الهزيمة في حرب حزيران ١٩٦٧.
ثم كانت السردية الإشتراكية الثورية، في عودة إلى النخبوية، وإن تحت مسمّى «الطليعة» الساعية إلى تحقيق الوعي الطبقي الغائب في أوساط الشعب العامل، وفي عودة إلى العالمية، بحلّة جديدة هي «الأممية» الجامعة نظرياً، والمتشظية عملياً إلى أمميات متناحرة. وجاء طرح هذه السردية كبديل بديهي للقومية المأزومة والعاجزة عن الإنجاز. وأقدم العديد من الناشطين القوميين على مراجعات ذاتية وفكرية أوصلتهم إلى إشهار اعتناقهم لهذه السردية السائدة الجديدة، والتي تعيد طرح الصراع على أنه تصدُ لثلاثية من قوى الشر: الإمپريالية العالمية، أي الولايات المتحدة وعموم الغرب، ثم الصهيونية وإسرائيل بصفتعا العدو القومي في محافظة على إنجاز التعبئة والذي حققته السردية السابقة، ثم «الرجعية العربية»، أي الأنظمة المعادية للكتلة السوڤياتية. وفي حين أن هذه السردية كانت عرضة للتوظيف من جانب موسكو، وكثيراً ما جيّرت لمصلحة أنظمة عربية «ثورية» (الجزائر، ليبيا، سوريا، العراق)، فإنها قد تمكنت من تعديل وعد سابقاتها بإضافة مفهوم العدالة الاجتماعية كهدف يحظى بالشعبية الواسعة. هو إنجاز متواضع لهذه السردية الملتبسة، وللفصائل المتضاربة التي اعتنقتها. ولكن يمكن التنويه بأن المدى الزمني القصير نسبياً لهذه السردية كان نتيجة لعوامل خارجية بقدر ما كان عائداً إلى ما فيها من نواقص. ذلك أن كل من الغزو السوڤياتي لأفغانستان والثورة الإسلامية في إيران، هذا كعامل دفع وذاك كعامل جذب، قد أنقص من فرص بقاء هذه السردية.
وكانت السردية العصرية النهضوية، من صعودها الزاخم إلى انحدارها إلى ما دون التأثير الفاعل، قد بلغت مدىً زمنياً يقارب الأربعين عاماً (من عشرينات القرن الماضي إلى الخمسينات). وحصّلت السردية الكبرى التالية، أي القومية العربية، مدىً مشابهاً (من الأربعينات إلى الثمانينات). أما السردية الإشتراكية الثورية فما كادت تتجاوز نصف ذلك، من الستينات إلى السبعينات، غير أن تراجعها اللاحق كان بطيئاً وممتنعاً، بل لا تزال بعض مقومات الإشتراكية الثورية في صلب الخطاب السياسي العربي اليوم. والسردية الإسلامية، أي السردية الكبرى الرابعة، فإنها لم تتجاوز إلى اليوم المدى الذي حققته سابقاتها، إذ امتدت من السبعينات إلى اليوم.
ما استنزف الإشتراكية الثورية هو الغزو السوڤياتي لأفغانستان، ثم تخلي موسكو في المرحلة التالية عن الثورية ثم عن الإشتراكية، فكانت السردية الإسلامية عودة مزدوجة إلى الشعبوية، في زعم متجدد للتعبير عن التوجهات الحقيقية لحاضنتها المسلمة، وإلى الترابية، في ادعائها الأصالة وسعيها إلى الاكتفاء الذاتي الثقافي. وزايدت السردية الإسلامية على سابقاتها، فحافظت على تراكم الوعود حول المجد والوحدة والعدالة الاجتماعية، وأضافت إليها الوعد بـ «النصر الإلهي»، أي أن الهدف المنشود للسردية الإسلامية كان التمكين الشامل المحقّق للأمر الإلهي.
ولا يختلف هذا الهدف عند خواتمه بين التوجهات المتعددة ضمن السردية الإسلامية. فالتوجه التدريجي، والذي يرى وجوب العمل ضمن المنظومة السياسية القائمة يتوقع الشروع بـ «أسلمة» متصاعدة تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، تحضيراً للدور القيادي العالمي لاتحاد الأمة الإسلامية تحت مسمّى «الأستاذية». أما التوجهات القطعية بمنهجياتها المتباينة - انقلابات «حزب التحرير»، وثورات « تنظيم القاعدة»، وفتوحات «الدولة الإسلامية» - فإنها جميعها تلحظ «دولة الخلافة» في نهاية مطافها. والواقع أن السردية الإسلامية ضعيفة جداً ومفتقرة إلى المضمون الموضوعي بالمقارنة مع سابقاتها. ولكنها نجحت في استقطاب العدد الوافي من الناشطين المعبئين عقائدياً، فيما اعتمدت على الامتعاض في الأوساط الحاضنة إزاء تخلف الحكومات عن التجاوب مع مطالبها، وارتكزت على هيبة الدين الإسلامي الذي تدعي الانتصار له. بل يمكن القول بأن السردية الإسلامية كانت لذلك سائرة حتماً نحو الفشل، ولكن العقود التي تمكنت فيها من تأخير السقوط كلّفت المنطقة والعالم الكثير.
مزايا وعيوب المستقبلية الأبوية
فشل السردية الإسلامية اليوم هو أمر واقع، ولكنه ليس حقيقة لا عودة عنها. لم تتمكن هذه السردية، في كافة توجهاتها، من تحقيق مقنع ومستدام لأي من تصوراتها، وإن بالصيغة المصغرة، ما يكشف عن الخلاء في مزاعمها. ولكن، ما لم يبرز البديل الجدي، فإن بوسع شكل جديد من أشكال هذه السردية أن يعيد تدوير مكوناتها وتجديد طرحها. وثمة بديل جدي يُطرح بالفعل، إلا أنه مثقل بالإشكالات المحتملة.
تستقبل الثقافة السياسية العربية، شاءت أم أبت، حلقة جديدة في سلسلة السرديات الكبرى، هي سردية غير مصرّح بها بالاسم ولكنها قوية ومتينة في التقديم والمضمون، هي السردية المستقبلية الأبوية. فانسجاماً مع توالي التأرجح في السرديات الكبرى، هذه السردية نخبوية، تجاهر معها الشريحة الحاكمة بمقامها في ولاية الأمر، وهي أيضاً عالمية، في اغترافها الصريح للعولمة المادية والثقافية. غير أنه ثمة تحفظ هام لديها في أن تصويرها للعالمية يستثني صراحة جانب القيم العالمية - فمرحلة التنوير ومشتقاتها، من وجهة نظرها، لا تنطبق على المجتمعات العربية، والتي تقدم عوضاً عن ذلك على أنها محكومة بجملة قيم خاصة قائمة على قراءة الزعامة السياسية للمعتقد الإسلامي.
هذه السردية الكبرى الجديدة هي تجديد وتأصيل للعقد الاجتماعي الضمني والذي كان سائداً في معظم العالم العربي قبل «الربيع العربي». وكان المواطنون (أو الرعايا) قد رضوا أو رضخوا بالتنازل عن الجزء أو الكل من حقوقهم السياسية مقابل الوعد بالحصول على الخدمات والدعم. وقد يكون «الربيع العربي» تعبيراً عن استحالة المضي قدماً في هذا العقد، سواءاً لاستنزاف الموارد عبر الفساد والإقطاع، أو لتبدل الموازين السكانية أو الاقتصادية بما يمنع المكافأة بينها وبين الوعود. ولكن «الثورة المضادة» في عموم المنطقة قد واجهت تحفظات الربيع العربي بمضاعفة الوعود السابقة، ورافقت ذلك بمضاعفة موازية لواجب الطاعة لولاة الأمر.
فمن «كاپيتال كايرو» كعاصمة جديدة لمصر، إلى «مارس سيتي ٢١١٥» كمشروع استعمار مستقبلي لكوكب المريخ، مروراً بـ «نيوم» مدينة المستقبل الذكية السعودية، وكذلك «إعادة الإعمار» المطروحة في سوريا، يجري الاستعاضة عن السرديات الكبرى السابقة بالمشاريع الكبرى. فبدلاً من أن تكون السردية إطاراً للاستيعاب والإقدام، يطلب من المواطنين (الرعايا) إيلاء القادة مطلق الثقة والولاء والطاعة، مقابل الوعد بالارتقاء الوطني.
سجل «المستقبلية الأبوية» والتي اختبرتها القارة الأوروپية في النصف الأول من القرن الماضي ليس ناصعاً. ولكن، وعلى الرغم من التسطيح في الطرح والذي يطفح به الخطاب المستقبلي في المحيط العربي، فإنه لا يمكن الافتراض بأن هذا المشروع في طريقه إلى الفشل، ولا أنه طبعاً محتّم عليه النجاح.
من شأن المنحى الخطابي للمستقبلية الأبوية أن يفسّر على أنه مناورة تضليل وحسب ريثما تسترد المنظومة السياسية العربية عناصر السلطوية والإكراه والتي فقدتها في المرحلة السابقة. والحاجة إلى اعتراض سعي إيران إلى بسط نفوذها، إذ تعتمد على أدوات خارجية ضمن الدول المستهدفة، يدخل كذلك في إطار مسعى هذه الدول إلى استرداد الهيبة وحصرية استعمال القوة. غير أنه يمكن كذلك افتراض حسن النوايا، واعتبار أن المثال القدوة هنا هو أبو ظبي ودبي وسنغافورة كتجارب في تحقيق التقدم والازدهار من خلال السلطوية المنصفة والواضحة.
ثمة جيل جديد من المواطنين أو الرعايا العرب توّاق لمعالجة النقص في مجتمعاته واستغنام الفرص التي تتيحها العولمة المنتجة. مع بعض التعديل الذي يقتضيه السياق التاريخي، هذا الكلام يصحّ اليوم كما يصحّ مع كل صعود زاخم للسرديات السابقة المتتالية. فإذا كان لهذه السردية الجديدة أن تنجح، فلا بد من تجنب الهفوات التي أودت بسابقاتها، بل من الواجب تجنب الأفخاخ التي نُصبت بما يقارب العمد في المراحل السابقة. فالتركيز على الهم الخارجي، سواء كان الأمر فلسطين أو إيران، من شأنه توفير التعبئة الفورية المرغوبة، ولكنه دون شك سوف يؤسس لأشكال من توجيه الموارد على حساب الوعد بتحقيق الازدهار.
وتطويق الحريات الفردية، حرية التعبير، حرية التجمع، حرية الرفض والمعارضة والانشقاق، قد يدرج في إطار ضمان المستحقات العامة، السيادة، الولاء، الوطنية، ولكنه دون شك يستقدم الجديد من التوجهات المتشددة والقطعية.
الظاهر أن دعاة السردية الكبرى الجديدة، المستقبلية الأبوية، قد أكملوا الدائرة وعادوا إلى حيث كان الخطاب السياسي قبل مئة عام. فالازدهار والحداثة والعولمة هي اليوم في صدر الخطاب، بل هي اليوم أقوى حجة وأنشط ترويجاً مما كانت عليه. وفي هذا الزخم قدر من المعالجة لإحدى نقاط الضعف في السردية العصرية النهضوية الأولى في مطلع القرن الماضي.
غير أن مستوى التفصيل في السردية الجديدة يرفع من سقف التوقعات ويعرض أصحاب الطرح لردود الفعل السلبية في حال التأخر أو التخلف عن الإنجاز. وبما أن القيادات الأبوية المجاهرة بهذه السردية تقدمها حاضرة مكتملة لجمهور يتلاقاها ولا يختارها، فهي المسؤولة الوحيدة عن تداعيات أي فشل. وهذه القيادات، في مختلف الدول المعنية، لم تبدِ إلى اليوم الثبات والاستقرار في سلوكها السياسي لما يوحي بأن طروء الأخطاء مستبعد. بل العكس هو الصحيح، فالأخطاء، حتى الخطير منها، تتكرر للتوّ في كل من عواصم المنطقة.
فإذا اختارت هذه السردية الكبرى الجديدة السير باتجاه التركيز على مستقبل من الازدهار، دون المبالغات بوعود الإنجاز ودون التهويل بالمخاطر، فإنه من شأنها أن تشكل سردية بديلة واسعة القبول للسردية الإسلامية المنهِكة والمنهَكة. أما في حال بقي حال القيادات الأبوية المعنية ميالاً إلى المغامرات والارتجال والانفعال، فإن إمكانيات قبول السردية في الثقافة العربية سوف تتضاءل. هذه هي إذن سردية بديلة قد تكون بحاجة إلى من يحميها من الدعاة إليها.