- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
السيسي وغياب الحكمة السياسية
تقول الفيلسوفة أستاذة العلوم السياسية الألمانية “حنة أرندت" في إحدى محاضراتها: "أن يتخذ السياسي قراراً خاطئاً فهذه مشكلة، لكن ألا يعرف كيف يقدم قراره للناس فهذه كارثة."
وتنطبق هذه المقولة حرفياً على القرار الأخير للرئيس المصري "السيسي"، والذي أدى إلى تخلي مصر عن جزيرتي «تيران» و«صنافير» لصالح السعودية التي كانت - منذ سنوات - تطالب الحكومات المصرية المتعاقبة بتسليمهما لها مدعية أحقيتها بامتلاكهما، إلا أن الطريقة التي أُعلِن بها الخبر وترتيبات زيارة ملك السعودية لمصر خلفت غضباً شديداً لدى قطاعات واسعة من المصريين كان بالإمكان تقليله، لو تمت معالجة الأمر بكيفية أفضل من ذلك. ولقد أدت تلك القضية إلى طرح سؤال مهم حول الكيفية التي يتعاطى بها الرئيس المصري مع الملفات الكبرى للدولة المصرية.
لماذا السرية؟
وبالعودة إلى ظروف انتشار الخبر، فقد طالعتنا صحيفة الأهرام (الجريدة القومية الأولى في مصر) في العاشر من نيسان/أبريل الجاري بـ "مانشيت" يقول: "الحكومة تعلن: جزيرتا «تيران» و«صنافير» سعوديتان، واتفاق تعيين الحدود ينتظر تصديق مجلس النواب".
هكذا دون سابق إنذار أو مقدمات يستيقظ المصريون ليكتشفوا أن حكومة بلادهم تفاوضت مع السعودية، وأنهما اليوم يتوصلان لاتفاق شديد الحساسية حول إعادة ترسيم الحدود، والذي أسفر عن تسليم مصر الجزيرتين للسعودية. ولقد كان بالإمكان إشراك الشعب، واطلاعه على مجريات التفاوض بكل أمانة وشفافية، وحتى إن رأت الدولة، أو ظنت أن هناك مصلحة في منح الجزيرتين للسعودية، كان بإمكانها أن تشرح الأمور للمصريين وتهيئهم نفسياً، حتى تقلل من ردة فعلهم الغاضبة على هذا القرار، بل كان عليها ألا تدبر الأمر في الغرف المغلقة، وألا تهمش الشعب المصري، وكأن هذه البلاد ليست بلاده، أو كأن هذا الشعب قاصر عن الإدراك، وأن الحكومة هي لوحدها الأدرى بالصواب وبما يصلح للبلاد. واللافت للنظر أنه حتى الآن، مازال الجنرال "عبد الفتاح السيسي" يتعامل كرجل مخابرات يدير أموره بسرية، ويتكتم على كل خطواته. لكن ما يصلح للعمل المخابراتي لا يصلح للعمل السياسي، فالشفافية وإشراك الناس في الأزمات جزء لا يتجزأ من مهام منصبه الجديد كرئيس لكل المصريين.
مفاوضات أم صفقة؟
لو أن زيارة الملك السعودي لمصر اقتصرت فقط على المباحثات حول توقيع اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية، وما تلاها من تنازل مصر للسعودية عن جزيرتي «تيران» و«صنافير»، لكان الأمر أهون على الكثيرين. لكن ما حدث أن الزيارة جمعت - دون مبرر- بين توقيع اتفاقية ترسيم الحدود وبين الاستثمارات السعودية في مصر، ليبدوَ المشهد للجميع، وكأن مصر تتنازل عن الجزيرتين في مقابل استثمار سعودي يصل إلى ستة عشر مليار دولار، حيث بدا الأمر، وكأن "السيسي" باع الجزيرتين للسعودية مقابل هذا المبلغ!! وهو الأمر الذي اعتبره المصريون إهانة بالغة.
وهكذا يتضح لنا استمرار غياب الحكمة السياسية لمرة أخرى، فلو أن الرئيس استشار أصحاب الخبرة السياسية، لنبهوه إلى أن ربط التنازل عن الأرض بضخ المال السعودي سيثير حساسية المصريين، مما كان سيجنبه مثل هذه التعليقات الساخرة على صفحات التواصل الاجتماعي، من قبيل هذا السؤال الساخر: "ها والسيسي ناوي يبيع الهرم ليهم إمتى؟" وهذا السؤال الساخر لا يعكس شعوراً بالألم فحسب، بل يلقي ظلالاً حول وطنية الرجل الذي كان في القريب العاجل بطلاً لدى قطاعات واسعة، قبل أن يخلق هذا الإخراج السيئ لتلك القضية انطباعات كارثية بدون مبرر.
ترتيبات الزيارة - أخطاء بالجملة
إن زيارة الملك السعودي للقاهرة وما صاحبها من احتفاء مبالغ فيه، وتزامنها مع اتفاق تسليم الجزيرتين للسعودية، جعلت الأمر يبدو وكأننا أمام لحظة إذعان، لا أمام جلسة تفاوض، إذ أن الرحلة التي استغرقت خمسة أيام كانت محاطة بتصرفات سياسية خاطئة، أهمها عدم نزول ملك السعودية ضيفاً في القصور الرئاسية كما جرت العادة، حيث اختار الإقامة في أحد الفنادق ذات الخمس نجوم على نفقته الخاصة، وهو ما اعتبره الكثيرون إهانة متعمدة. وهذا ما لخصه الباحث السياسي د. عمرو عبد الرحمن على صفحته الفيسبوكية بالقول: "هو لمّا الملك سلمان ينزل في فندق الفور سيزونز، فالمفروض قصر القبة وقصر الطاهرة (القصور الرئاسية) يتأجروا بالليلة ولا إيه الوضع يعني؟!!
ومن الأخطاء السياسية الأخرى، أن الملك السعودي توجه إلى البرلمان المصري ليلقي كلمة هناك، حيث وُضِعَ له مقعد بجوار رئيس البرلمان، وتلك سابقة لم تحدث من قبل، حتى مع رؤساء مصر. فالرئيس الراحل أنور السادات - وهو من يعتبره المصريون بطل الحرب والسلام - حينما توجه للبرلمان لإلقاء خطابه الشهير بعد حرب أكتوبر، وقف في المكان المخصص للمتحدثين أسفل المنصة. أما الملك السعودي فقد ألقى اليوم خطابه معتلياً المنصة! وفي ذلك رسالة سياسية مفادها أن الرجل أعلى من ممثلي الشعب المصري. وقد أثار هذا المشهد في صفوف الشعب غضباً شديداً من الرئيس المصري، إذ أدى إلى إحساسهم بنوع من الهوان بلا أي مبرر أو مكسب سياسي، فخرجت التعليقات الغاضبة من قبيل: "سلمان اعتلى الشعب حين اعتلى منصة البرلمان".
تفسيرات صادمة
إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الدولة المصرية هو أنها فضلاً عن السرية (غير المبررة) في التفاوض مع الجانب السعودي، تلكأت قبل أن تعلن للمصريين عن أسباب قبولها بتسليم الجزيرتين للمملكة، لكن حين كشفت الحكومة بالمستندات - عبر الصفحة الرسمية لـ "مركز المعلومات" التابع مباشرة لرئيس الوزراء - أن جزيرتي " «تيران» و«صنافير» " تابعتان للملكة العربية السعودية، كانت النتيجة صادمة، فما وصفته الحكومة - عبر موقعها الرسمي – بالمستندات، لا يرقى لأن يكون حتى مجرد قرائن، إذ على سبيل المثال: اعتبرت الدولة المصرية مقالاً منشوراً في النيويورك تايمز - يتحدث كاتبه عن مخاوف لدى إسرائيل من تسليم الجزيرتين للسعودية - بأنه وثيقة! وحتى بقية الوثائق التي تم نشرها لم تكن أقوى من هذا المقال.
وقد أثار ما وصفته الدولة بالمستندات غضب وسخرية أغلب برامج الفضائيات والصحف، فضلاً عن الهجوم العنيف من مستخدمي صفحات التواصل الاجتماعي، فصفحة "الموقف المصري" - أحد أبرز الصفحات اليوم على الفيسبوك - حللت تلك المستندات، وطرحت أسئلة أخرى حول القضية، لتظهر الحكومة في موقف المتواطئ.
إعلام الدولة - نيران صديقة
وتبقى النقطة الفاصلة في المسألة متمثلة في الإعلام "الموالي" للنظام، والذي لم يكتف فقط، بالدفاع المستميت عن قرار الحكومة وإقناع الناس بأحقية المملكة في الجزيرتين، بل ذهب بعيداً ليتهم كل من يعترض على القرار بالخيانة والعمالة، وهذا ما فعله "أحمد موسى" - المذيع المقرب من السلطة - في برنامجه التلفزيوني، حيث لم يكتف بالتأكيد على أن الجزيرتين سعوديتان، بل سخِر من الشعب المصري قائلاً: "خلاص بقي عندنا النها رده 90 مليون جيولوجي وخبير جغرافي."
وقد دفع هذا الموقف الغريب للإعلام المقرب من السلطة، الباحث والبرلماني السابق "عمرو الشبكي" لكتابة مقال في صحيفة "المصري اليوم"، - وهي الجريدة الأوسع انتشاراً في مصر - بعنوان "ألا تخجلون؟" هاجم فيه إعلام السلطة قائلاً: "ما هذا السفه وانعدام الوطنية والنفاق الرخيص الذي يدفعك كمصري لأن تقضى الساعات وتسهر الليالي حتى تثبت أن الجزيرتين ليستا أرضاً مصرية". هجوم "الشبكي" يتماشى تماماً مع حالة الغضب التي استقرت في نفوس الكثيرين من الأداء الإعلامي للمحسوبين على النظام، والذي لم يرسخ شعوراً بالهزيمة فقط، بل بالهوان أيضاً. إذ جاء اليوم الذي لم نعد نفرط خلاله في الأرض فحسب، بل نتهم من يغضب ويثور ضد تلك الخيانة. ولو كانت السلطة أصدرت تعليمات للإعلام المقرب منها بالتعامل بحساسية شديدة مع القضية، لكان حجم الغضب حتماً أقل مما هو عليه اليوم.
كل تلك العوامل تضافرت لتدفع المعارضين للسيسي بشكل عام والغاضبين للكرامة المصرية بشكل خاص، للنزول مرة أخرى للشارع، وهو ما حدث يوم الجمعة الماضي حين انتشرت دعوات للمشاركة في مظاهرات عرفت باسم "جمعة الأرض" في سابقة تعد الأولى منذ تولي "السيسي" مقاليد الحكم في مصر. ومن ثم، فالإدارة المخابراتية - لا السياسية - لملف تسليم الجزيرتين للسعودية، هي المسؤول الأول عن انفجار الشارع المصري، وهذا النهج بالطبع، يمثل خطراً على "السيسي" نفسه قبل أن يمثل خطراً على النظام ككل.
ماجد عاطف هو صحفي مقيم في القاهرة. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"