- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعامل مع النفوذ الصيني المتنامي في "كردستان العراق"
حين انتقلتُ إلى مسكن جديد في وسط أربيل، عاصمة "حكومة إقليم كردستان" في العراق، لاحظتُ أن الإعلانات في مصاعد البرج السكني كانت باللغة الصينية، تليها اللغات الكردية والعربية والإنكليزية، في تعدّدية لغوية مفاجئة ولكن إيجابية: فهي دليلٌ واضح على بزوغ فجر حقبةٍ جديدة. وإذا كانت في الماضي الكردية هي اللغة المحلية،والعربية هي اللغة الإقليمية، والإنكليزية هي اللغة العالمية، فإضافة اللغة الصينية تعني تعدّد اللغات العالمية وربما أيضًا القوى العالمية.
إلا أن التركيز الإقليمي هذه الأيام منصبٌّ على الاتفاق الإيراني الجديد مع الصين. فقد أثار الاتفاق، الذي تبلغ مدته 25 سنة، الكثير من الجلبة داخل إيران وخارجها، مع أن استمرار العلاقات الصينية الإيرانية بالتطوّر ليس مستغربًا بما أن كلتا الدولتين تتمنّى قيام نظام عالمي مختلف.
في المقابل، تنامت علاقات العراق مع الصين من دون أن تخضع للتمحيص نفسه، حيث وقّعت الدولتان عددًا من الاتفاقيات العام الماضي. وخلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي – الذي كان هو نفسه ماويًا – إلى بكين، صرّح قائلاً: "نحن ننتمي إلى آسيا ونريد أن نكون جزءًا من نهضتها". كما أن كل أفراد الوفد العراقي الكبير الذي رافقه – على حد ما أخبرني به أحدهم – أعربوا عن تقديرهم لما اعتبروه تحوُّل الصين من دولةٍ فقيرة إلى قوة عالمية. ولكن الصفقة التي أُبرمت في ذلك اللقاء، ببقائها غامضة، أوجدت بيئة خصبة للمؤامرات والتكهنات في العراق.
فضلاً عن ذلك، يتجلّى من خلال تصريح رئيس الوزراء السابق كيف تغيّرت "آسيا" من مصطلح جغرافي إلى مفهوم سياسي وحضاري. ولكن ليس معروفًا حتى الآن كيف سيؤثّر الانتماء إلى آسيا على العملية الانتقالية الجارية في العراق من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي. وتشير الاتفاقيات الإيرانية والعراقية على حدٍّ سواء إلى أن الصين تشق طريقها داخل المنطقة وتزداد نفوذًا في عدد من المشاريع الاقتصادية فيها، وهذا ما يتجسّد في الأنباء الأخيرة عن أن الصين تدرس إمكانية المساهمة في إعادة إعمار سوريا في إطار "مبادرة الحزام والطريق".
شجّعتني هذه الدينامية الناشئة على الغوص في مزيد من الأبحاث، ودفعتني في نهاية المطاف إلى تأليف كتابٍ يتمحور حول العلاقة بين الصين والعراق وكردستان، والسعي إلى تفاعلات إضافية مع الدبلوماسيين الصينيين في أربيل.
لذلك زرتُ القنصلية الصينية في أربيل خلال فترة رأس السنة الصينية. كان الاجتماع يومذاك رسميًا، وجلسنا إلى طاولة منخفضة واحتسينا الشاي المحضّر على الطريقة الصينية. وما لفتني هو أسلوب هؤلاء الدبلوماسيين في إيصال رسالتهم، كونه اختلف عن أسلوب المجتمع الدبلوماسي الآخر (أي الغربي). وقد أظهر التبادل التي حصل يومها أن الصين هي قوة جديدة ومختلفة.
بدأ الحوار بالحديث عن "طريق الحرير" التي تضطلع بدور محوري في الأسطورة التأسيسية للمبادرة الصينية الراهنة الرامية إلى ربط الصين بالعالم. وهنا أعرب الدبلوماسيون عن أملهم في إنعاش العلاقة التي كانت قائمة بين أربيل وبكين في تلك الفترة.
والجدير بالذكر هو أن تاريخ كردستان العراق والصين، شأنه شأن تاريخ الصين مع مناطق عدة في العالم، ينقسم إلى حقبتين: العلاقة الإيديولوجية (الماوية) والعلاقات التجارية ما بعد ماو. في هذه الأيام، يبدو أن المسؤولين الصينيين هم من كبار المناصرين للحقبة الإيديولوجية السابقة ويروّجون لفكرة "النهوض السلمي"، رابطين التاريخ الصيني بالعلاقات الدبلوماسية المعاصرة. وكالمعتاد، يختلف الواقع على الأرض عن الأحاديث الدبلوماسية.
فحتى الآونة الأخيرة، بقيت العلاقة بين الصين "وحكومة إقليم كردستان" محدودةً وسطحية. أما الآن، فيجادل متابعون كُثر أن أزمة "كوفيد-19" منحت الصين فرصةً لتعميق وتوسيع علاقتها بالإقليم والظهور بصورة الشريك الاستراتيجي القوي القادر على تقديم مساعدات حاسمة وقت الحاجة.
وفي إقليم كردستان، تملك الصين الوسائل اللازمة لتطوير هذه العلاقة على عدة جبهات. في مجالَي التجارة والطاقة مثلاً، يرتبط الاقتصاد الكردي ارتباطًا وثيقًا بالصين، علمًا بأن العلاقة في المجالات الأخرى كالثقافة والتعليم والقوة الناعمة تتطور بوتيرة سريعة. زد إلى ذلك أن السلع الصينية تفيض في كردستان ويستهلكها العراقيون العرب والأكراد على السواء بشكلٍ كبير، مع أن الصين نفسها ليست معروفة إلى حدٍّ كبير في أوساط الشعب والنُّخب.
والآن يبدو أن الصين بدأت تعرّف عن نفسها، فعدد الكتب المتعلقة بالصين والقادة الصينيين والمترجمة إلى اللغة الكردية آخذٌ في الارتفاع، في حين أن العلماء الأكراد يكتبون عن طريق الحرير القديمة وسياسة "حزام واحد،طريق واحد" وغير ذلك من المواضيع المتعلقة بنهوض الصين. وفيما تقتصر بعض هذه الأعمال على المؤلفات العلمية، يتضمن بعضها الآخر سيرًا ذاتية تبجيلية أو حملات دعائية بحت. وعلى مستوى المؤسسات، تم افتتاح مركز لتعليم اللغة الصينية في جامعة صلاح الدين في أربيل، وثمة خطة لفتح قسم للّغة الكردية في جامعة بكين.
ولكن مقابل هذه التطورات الحاصلة داخل "إقليم كردستان"، لا تزال العلاقة بين الطرفين غير متوازنة. إذ لا يملك الأكراد أي حضور أو نفوذ ملحوظ في الصين. وعلى حد قول أحد رجال الأعمال الأكراد الذين يعملون في الصين، إن المصالح التجارية (الأعمال) والاقتصادية هي الطريقة الوحيدة لممارسة النفوذ هناك. فضلاً عن ذلك، في ما يتعلق بعلاقة أربيل ببغداد، نادرًا ما تبدي الصين رأيها في القضايا الكردية، وإن فعلت فهي تبقى متمسكة بموقفها الرسمي وبسياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بينما تتبنّى موقفًا شاجبًا حيال الأقليات أو الحركات المستقلة حول العالم.
مع ذلك، لدى هذه العلاقة الأحادية الجانب إمكانيةٌ حقيقية بالتأثير على كردستان. فالاهتمام الواضح المتزايدبالصين في كردستان يثير التساؤلات حول كيفية تأثيره على العلاقة بين "حكومة إقليم كردستان" والولايات المتحدة، وفي النهاية على طابع "كردستان العراق" نفسه. فهل تستطيع هاتين القوتين كلتيهما التواجد في العراق، سيما وأن السياسة الأمريكية تسعى أكثر فأكثر إلى الحد من دورها في المنطقة؟ من أجل فهم كامل تأثيرات هذا التغيير على الأكراد، ينبغي مقارنة بدايات حقبة ما بعد الحرب الباردة خلال العقود القليلة الماضية بالعالم الجديد المحتمل.
والواقع أن قيام "كردستان العراق" نفسه جاء نتيجة النظام العالمي الذي انبثق بعد الحرب الباردة وكانت حرب الخليج الأولى هي العامل المحفّز له – وهو نظام ليبرالي أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة. خلال هذه العقود الثلاثة الماضية، مُنح الأكراد الحماية والاعتراف والحكم الذاتي، وظهرت مجموعة وافرة من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمؤسسات، فعرّفت الشعب الكردي إلى خطابات حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد.
مع ذلك، فالعراق الدولة متعثر. وبالرغم من امتلاكه كل المقومات اللازمة ليصبح دولة متطورة – أي الموارد والشعب والتاريخ – لم ينجح العراق قط في ذلك، لا بل إنه لم يستفد قط من الحرب الباردة الأخيرة. ولذلك يتساءل المرء كيف ستؤثّر الحرب الباردة الجديدة للقرن الواحد والعشرين على البلاد. وبالأخص في ما يتعلق بالأكراد، شجّعت الديناميات العالمية الجديدة القوى الصاعدة على التوسع على حساب المعاقل المشابهة لكردستان – وتحديدًا القرم وكشمير ومؤخرًا هونغ كونغ- بطرقٍ يجب أن تثير القلق.
إنّ الوجود الصيني في أربيل ما هو إلا إشارة واحدة على تغيّر النظام العالمي. لكن يجب على الأكراد اتخاذ قرارات مطّلعة حول كيفية المشاركة في هذا التحوّل واستيعابه. ومع أن التوجّه نحو الصين قد يكون مغريًا في الوقت الراهن، إلا أنه قد يعرقل التطورات في "إقليم كردستان" بشكل مباشر وغير مباشر. فإذا أصبحت الصين قدوةً سياسية، من المرجّح أن يعود العراق إلى الماضي، أي إلى المركزية واستبعاد الميادين العامة عن السياسة وعدم السماح بالاختلافات. كما أن أدنى تغيير في المعادلة الراهنة سيشكّل فرصةً أمام الجهات المحلية، التي لا رغبة لديها في إرساء الديمقراطية والمساواة بين الجنسين والتعددية وغيرها من خصائص الليبرالية، لتطبيق أجندتها بشراسةٍ أكبر.