- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعامل مع أزمة سد النهضة الإثيوبي الكبير
ينبغي على الولايات المتحدة اتخاذ موقف أقوى بشأن محادثات سد النهضة الجارية وذلك لمنع نشوب صراع مسلح، وتحقيق الاستقرار في المصالح الأمريكية ودعم الديمقراطية السودانية.
في أعقاب بيان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن مفاوضات سد النهضة الأسبوع الماضي، والذي نص على أن التسوية يجب أن تكون بمثابة "اتفاق ملزم ومقبول للطرفين "، أصدرت كل من مصر والسودان ردود فعل إيجابية، في حين أعلنت إثيوبيا أنها لن تعترف بأي مطالب مرفوعة على أساس البيان المذكور أعلاه. يأتي هذا التطور الأخير بعد سنوات من المفاوضات الفاشلة بين إثيوبيا والسودان ومصر بشأن عملية ملء سد النهضة، الذي تقوم إثيوبيا بتشييده على طول نهر النيل. حدثت أيضا تطورات بارزة أخرى عندما رفضت إثيوبيا مشروع القرار التونسي المقدم لمجلس الأمن الدولي، وتعثرت جهود الاتحاد الأفريقي للتوسط في حل النزاع. في تلك الأثناء، يستمر المشروع في المضي قدمًا، حيث أعلنت إثيوبيا أن سد النهضة وصل إلى التعبئة الثانية المستهدفة في 19 يوليو الماضي، وان عملية الملء قد تسارعت بسبب هطول الأمطار الغزيرة بشكل غير عادي خلال موسم الأمطار.
إن سد النهضة الذي شرعت أثيوبيا في تشييده في أبريل / نيسان 2011، تعتبره أديس أبابا بمثابة أهم مشروع قومي للبلاد في تاريخها الحديث، حيث تُعلق البلاد آمالها على المشروع لتحقيق التنمية الاقتصادية وتوليد الكهرباء. وعلى الجانب الأخر، تشعر مصر والسودان بالقلق إزاء سيطرة إثيوبيا على تدفق النيل عبر السد، وبالتالي تسعي الدولتان الى التوصل لاتفاق ملزم بشأن عملية الملء والتشغيل. من ناحية أخرى، تنظر القاهرة لسد النهضة على انه يشكل تهديدا وجوديا لها، حيث تعتمد مصر على نهر النيل بـ 97٪ لتأمين مواردها المائية.
الحقيقة انه كان يمكن بشيء من التعاون والحكمة تحويل مشروع سد النهضة الأثيوبي الطموح، الذي تم بناؤه على منابع نهر النيل، إلى مشروع تنموي عظيم للشعب الأثيوبي ونموذجا للتعاون بين أديس ابابا وجيرانها كذلك، عوضا عن أن يكون سببا جديدا للصراع ومحاولة لفرض الهيمنة الإقليمية.
ومن الجدير بالذكر أن جميع الأطراف قد أعربت بشكل معلن عن رغبتها في تجنب الصراع، ففي مقابلة أجريت في 8 سبتمبر / أيلول، أكد وزير الخارجية المصري سامح شكري أن مصر حريصة على "تجنب الصراع المسلح". وبالمثل، صرح الوزير الإثيوبي المسؤول عن قضايا المياه أن "الصراع لم يكن أبدا خيارا لإثيوبيا". ومع ذلك، اتخذت مصر والسودان خلال فصلى الربيع والصيف خطوات نحو التصعيد الدبلوماسي والعسكري وذلك تحسبا للتعبئة الثانية. كما تصاعدت التوترات بشكل خاص نتيجة الاشتباكات العسكرية المتفرقة على طول الحدود السودانية الإثيوبية.
وفى حين كانت الإدارة الأمريكية السابقة تشارك بشكل أكبر في المفاوضات، بما في ذلك استضافة المفاوضات في عامي 2019- 2020، وحذر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، من إمكانية لجوء المصريين لتفجير السد في النهاية لان مصر "لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة"، اتخذت إدارة بايدن موقفا أكثر حيادية بشأن قضية السد. ومع ذلك، أعرب قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي، في منتصف يونيو / حزيران الماضي، عن قلق الولايات المتحدة من التطورات في ملف سد النهضة قائلا: إن سلوك إثيوبيا بشأن مشكلة سد النهضة "يقلقنا"، لافتا إلى أن " مصر تمارس قدرا هائلا من ضبط النفس".
كما أوفدت إدارة الرئيس بايدن، السفير جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الأفريقي، للمنطقة مرتين خلال الفترة الماضية، وزار رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز القاهرة مؤخرا لمناقشة موضوع ملء سد النهضة مع الرئيس السيسي، الى جانب مناقشة بعض القضايا الأخرى.
ورغم محاولة إدارة الرئيس بايدن انتهاج دورا أكثر توازنا للولايات المتحدة في القضية، ازداد موقف الإدارة تعقيدا نتيجة التصعيد الذي حدث في إقليم تيغراي في إثيوبيا، والذي وصفة القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأمريكي روبرت جوديك إنه يشمل "أعمال التطهير العرقي". ونتيجة لذلك، وقع الرئيس بايدن على أمر تنفيذي في السابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول، يهدد بفرض عقوبات على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وذلك من بين آخرين مسؤولين عن أعمال العنف في تيغراي. يأتي ذلك بعد أن اتخذت واشنطن قرار بفك الارتباط بين المساعدات الامريكية لأثيوبيا بعد أن كانت إدارة الرئيس ترامب قررت تجميد المساعدات الامريكية لها، بعد انسحاب الوفد الإثيوبي من مفاوضات واشنطن العام الماضي، إلا أن حياد واشنطن اعطي إشارة عكسية للمصريين بأن واشنطن تدعم الموقف الإثيوبي بحيادها.
على الرغم من أن الولايات المتحدة تتعامل مع عدد من القضايا المختلفة في الشرق الأوسط، إلا أن استعصاء هذا الصراع وما قد يجلبه من تداعيات خطيرة محتملة يُحتم على الإدارة الامريكية أن تفعل كل ما في وسعها لدعم التوصل الى حل دبلوماسي. ومن ثم، فإن حدوث تصعيدا إضافيا الى جانب التوترات القائمة في القرن الأفريقي من شأنه أن يهدد المصالح الأمريكية ويقوض الملاحة الدولية في أحد أهم الممرات الملاحية الدولية في البحر الأحمر وقناة السويس، ويهدد الإمدادات النفطية للاقتصاد العالمي، ويخلق بؤرة جديدة لنمو الإرهاب.
كشفت برقية للسفارة الأمريكية مؤرخة من عام 2010 ونشرتها بعد ذلك ويكيليكس أن القاهرة لديها تاريخ حافل في التعامل مع مثل تلك التهديدات على نهر النيل بالقوة. ففي منتصف السبعينات، قام المصريين بتفجير معدات كانت في طريقها إلى إثيوبيا لبناء أحد السدود، كما كشف مصدر مهم في الحكومة المصرية لمسؤولين أمريكيين خلال حُكم مبارك، انه "لن تكون هناك حرب بين مصر وإثيوبيا إذا تعلق الأمر بأزمة، فإننا سوف نرسل طائرة لقصف السد وتعود في يوم واحد، بهذه البساطة. لذلك، فالتحركات العسكرية المصرية الكثيفة مؤخرا حول إثيوبيا لا يمكن النظر إليها باعتبارها استعراض للقوة «Saber Rattling» كما يطلق عليها الدبلوماسيين لزيادة الضغوط على إثيوبيا، فـحسب.
جاءت المناورات العسكرية الأخيرة التي قامت بها القاهرة - المسماة "نسور النيل" و "حماة النيل" – في وقت يعمل فيه السيسي على تعزيز موقف مصر إقليميا، فمنذ مايو الماضي التقى الرئيس المصري بقادة أوغندا وبوروندي وكينيا وجيبوتي - جيران إثيوبيا - لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقيات التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي.
إن تصاعد التوترات الإقليمية الشديدة من شأنه أن يزيد من احتمال أن تؤدي مفاوضات سد النهضة إلى نشوب صراع. وفى هذا الصدد، حذر وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، مؤخرا قائلا: إن الجامعة العربية قد تتخذ "إجراءات تدريجية" لدعم موقف مصر والسودان في خلافهما مع إثيوبيا بشأن السد، الأمر الذي اعتبرته إثيوبيا مرفوضا، مؤكدة على أن قضية السد قضية أفريقية لا شأن للجامعة العربية بالتدخل فيها. كما سبق وحذر مستشار رئيس مجلس السيادة في السودان، عبد الفتاح البرهان، من "حرب المياه "في المنطقة.
الى جانب منع التصعيد العسكري، فإن اتخاذ موقف قوي بشأن مفاوضات سد النهضة يُمكن أن يمكّن الولايات المتحدة من تحقيق مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في دعم الحكومة السودانية خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي. كما أن الوساطة الأمريكية في مفاوضات سد النهضة ستؤهل واشنطن للعب دور أكبر في منطقة القرن الأفريقي برمتها، وستعمل على تعزيز دورها لحفظ الأمن والاستقرار في تلك المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية، فضلا عن انه سيتيح لها على المدى البعيد تقويض التحركات الروسية والصينية التي تهدف الى تهديد المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.