- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعاون بين الولايات المتحدة وتركيا هو مفتاح الاستقرار الدائم لشمال سوريا
تسببت المسألة السورية المعقدة على مدى سنوات في تعكير العلاقات التركيّة – الأمريكيّة منذ عام 2014، حيث أثّرت الأزمة السورية في سياسة تركيا الخارجيّة وهيكليّتها التحالفيّة، وصارت هويّة تركيا الجيوسياسيّة وتحالفها الطويل الأجل مع الولايات المتّحدة ومكانتها في حلف شمال الأطلسيّ (الناتو) امرأ مثيرا للجدل، خاصة بعد تعاونها المستمر مع روسيا وإيران، وبعد تساهلها في عمليّة مرور المقاتلين المتطرّفين عبر حدودها إلى داخل سوريا. ومع ذلك، يبقى من مصلحة تركيا والولايات المتحدة إنقاذ علاقتهما الثنائية.، وذلك رغم خلافاتهما المتزايدة.
والان يتطلب الوضع الحالي المتأزم في الشمال السوري تعاونا وثيقا بين كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وغير ذلك، قد تنتعش الخلايا النائمة للنظام السوري، وتنظيم داعش الإرهابي، وستظل ثروات المنطقة - وأبرزها البترول والمنتجات الزراعية- في يد قوى ترتبط بالنظام وداعميه الإيرانيين والروس والمليشيات التابعة لهم. وقد تتسع الهوة بين الأكراد والعرب من سكان المنطقة، مما قد يؤسس لجو من انعدام الثقة بين المكونات الأثنية.
تدارك الخلافات بين حلفاء الناتو
لم تعد الإطاحة بنظام الأسد أولوية بالنسبة لتركيا والولايات المتحدة، ففي حين كانت الإطاحة بنظام الأسد تمثل أولوية لتركيا في بداية الأزمة السورية، إلا أن تركيا قد أعطت الأولوية لمكافحة الإرهاب وذلك على حساب تغيير النظام في دمشق. ومع ذلك قامت تركيا بمراجعة سياستها في سوريا فابتعدت بشكل كبير عن سياستها المتمحورة حول نظام الأسد، وأصبحت تتمحور حول تامين حدودها وملاحقة الفصائل الكردية التي تصنفها على أنها منظمات إرهابية. ومن ناحية أخرى، انصب تركيز الولايات المتحدة في المقام الأول بعد اندلاع الصراع المسلح منذ تسعة سنوات على جهود مكافحة الإرهاب. بالنظر إلى السيناريو الحالي، تعاونت كلّ من تركيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة مع حلفاء محليّين أو وُسطاء لتحقيق أهدافهما، لكنّهما لم تثقا بحلفائهما المحليين، أو حتى اعتبرتاهم إرهابيين بشكلٍ صريحٍ، ممّا أدّى إلى توتّرات كبيرة في العلاقات الثنائيّة.
وعلى الرغم من الملفات الشائكة التي أثرت على العلاقات بين البلدين، بدأت العلاقات الامريكية التركية في التحسن بعد الاتفاق الذي توصلت إليه كلا البلدين في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والذي يقضى، بوقف إطلاق النار، وتعليق عملية "نبع السلام"، وانسحاب وحدات "قوات سوريا الديمقراطية" من "منطقة آمنة" سيتولى الجيش التركي إقامتها في المنطقة.
كما أدى موقف الولايات المتحدة الداعم لتركيا بعد استهداف قوات الأسد لمواقع عسكرية تركية في إدلب في شباط/فبراير الماضي، إلى حدوث انفراجه جديدة في العلاقات الامريكية التركية. ونتيجة لهذا الهجوم أعلنت الولايات المتحدة إن من حق تركيا الدفاع عن نفسها وأنها ستقدم ذخيرة لتركيا لاستخدامها في عملياتها في إدلب، كما أنها تجرى تقييما لطلب تركيا الخاص بنشر صواريخ باتريوت على حدودها. ومن ثم، وعلى الرغم من مواقف اردوغان التي أدت في بعض الأحيان إلى إغضاب الولايات المتحدة، إلا أن تركيا ستظل بلد مهما بالنسبة للولايات المتحدة وذلك كونها شريكا تجاريا مهما من ناحية وجليفا في الناتو من ناحية أخرى.
ومن جانبها، حاولت تركيا تخفيف التوترات مع الولايات المتحدة والقيام بتأجيل تفعيل نظام الدفاع الصاروخي أس-400 الروسي، الذي قامت بشرائه العام الماضي، وإصرار الأتراك على منع الجانب الروسي من المشاركة في عمليات التشغيل. كما ارسل الرئيس التركي أردوغان رسالة إلى نظيره الأمريكي دونالد ترامب التي رافقت المساعدات الطبية التركية للولايات المتحدة الأمريكية، والتي قال فيها: "كونوا على ثقة بأن تركيا ستواصل كافة أشكال التضامن باعتبارها شريكا موثوقا وقويا للولايات المتحدة"، وإن "التطورات الأخيرة في منطقتنا أظهرت أهمية مواصلة التحالف التركي-الأمريكي والتعاون بأقوى صوره".
وردا على ذلك، أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في خطابه " أن الحلفاء في إطار الناتو يجب أن يقفوا معاً في الأزمات"، إضافة إلى المحادثة الهاتفية بين المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن ومستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبراين وأكدا فيها على ”أهمية التضامن على صعيد حلف الناتو، في هذه الأيام الحرجة“. نعتقد أن هذا كله يمكن احتسابه كمؤشرات تصلح للبناء عليها في موضوع هام يفيد الطرفين، ويساعد على تحقيق استقرار دائم وثابت في المنطقة، يؤدي بالضرورة إلى القضاء التدريجي على تنظيم داعش، الذي يعتبر الهدف الأهم للولايات المتحدة في المنطقة.
أهمية تعزيز المصالح المشتركة في شمال سوريا
ربما يكون هذا التعاون الوثيق بين الولايات المتحدة وتركيا هو الأكثر أهمية في سوريا، حيث انه سيأخذ في الاعتبار الواقع الجيوسياسي في سوريا خاصة بعد أن صارت خرائط السيطرة في الشمال السوري تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً، وتوزعاً أقل تداخلاً للقوى التي تتقاسم مناطق النفوذ في سوريا. ويأتي ذلك كنتيجة لخروج المعارضة السورية -بشقيها السياسي والعسكري- من معادلات التأثير والتحكم في الشمال السوري. كما أصبح هناك تجميع تدريجي - في هياكل كبرى - لغالبية الفصائل العسكرية المعارضة التي صارت منضوية للقوتين المسيطرتين في الشمال السوري (تركيا عبر الفصائل المنضوية في غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام، والولايات المتحدة عبر الفصائل المنضوية في قوات سورية الديمقراطية).
بالمقابل هناك العديد من القوى والمليشيات الأخرى يتحكم الروس والإيرانيون بقراراتها، وتتواجد حاليا في مناطق على يمين نهر الفرات، وهي في حالة تراجع، وتحاول تأسيس فصائل تحت مسميات عدة، بالتزامن مع محاولة الميليشيات التابعة لإيران، تأسيس حسينيات شيعية، وتشييع سكان هذه المناطق العربية السنية الواقعة على يمين الفرات. وهناك أيضا حضور روسي من خلال الدوريات التي يُسيرها مع الأتراك، تنفيذاً لاتفاقات ثنائية بينهما، مع محاولة التأسيس لتواجد عسكري ثابت في محيط عين العرب وعين عيسى (اللواء 93) وحزيمة ومطار القامشلي. بدأت أيضا بقايا تنظيم الدولة في التلاشي من الشمال السوري، ولم تعد تسيطر على مساحات متصلة.
انطلاقا من هذا التوصيف، يمكن القول إن الصراع الجيوسياسي في سوريا أصبح بين طرفين، طرف يحاول إعادة إنتاج نظام الأسد كما كان عندما كان يسيطر على كل سوريا، وطرف أخر يعتقد أنه لا يمكن إعادة إنتاج نظام الأسد ثانية، مع الإقرار بهشاشة وارتهان معارضيه، وعدم قدرتهم على إنتاج كيانات سياسية وعسكرية.
الطرف الأول ملعبه الرئيسي الشمال السوري والذي يحاول السيطرة على شرق سوريا وربط المناطق التي تمت السيطرة عليها حاليا (التنف وغرب الفرات) بهدف قطع طرق الإمداد البري الإيراني، فيما يتوسع الطرف الآخر الموالي للأسد في بقية مناطق سورية ويعمل على ربطها وإخلائها من الفصائل المعارضة، والعمل على تأمين طريق يصل بيروت ودمشق بطهران مروراً بالأراضي العراقية.
أمام هذا المشهد، ولوجود مصالح كثيرة تجمع القوتين الرئيستين (تركيا والولايات المتحدة) خارج الموضوع السوري، وللتخلص من المخاطر التي تواجه عملهما بشكل منفرد، أصبح من الضروري العمل على تقليص الخلافات بينهما في الموضوع السوري، وتوحيد جهودهما، وإيجاد صيغة جديدة للتعاون بينهما لإدارة هذه المناطق، التي يسيطران عليها، والتي تشكل أكثر من ثلاثين بالمئة من المساحة الإجمالية لسوريا، وهذا يمكن أن يتحقق عبر تطوير تنسيقهما المشترك في الشمال السوري، بغطاء وإشراف أممي في الجانب الإنساني.
ويجب أن يتزامن ذلك مع، إعادة توجيه ومراقبة صرف الدعم السعودي والإماراتي والقطري والأوروبي، لما يخدم أبناء المنطقة كافة في مختلف متطلبات الحياة الآمنة الكريمة والتنمية. ويمكن أن يتحقق ذلك عبر تشكيل مجالس محلية موحدة تحظى بقبول السكان، وتأسيس أجهزة إدارية وأمنية محترفة، تكفل حماية المواطنين وحماية أعمالهم، وتؤمن ظروف عودة النازحين والمهجرين من هذه المناطق إلى بيوتهم وأعمالهم.
تشمل الإجراءات الإضافية التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة وتركيا للمساعدة في تعزيز الاستقرار العمل الحثيث على إخراج القوات الروسية وبقايا قوات النظام، من مناطق تواجدها في محافظتي دير الزور والرقة ، وإيقاف عمليات تهريب البترول والمنتجات الزراعية، التي تجري بتنسيق بين النظام والإيرانيين من جهة، وقوات سورية الديمقراطية من جهة ثانية، والعمل على السيطرة على النفط والمنتجات الزراعية ، وهي المصادر الرئيسية لتمويل الجماعات الإرهابية في سوريا ، وهو ما سيساعد في القضاء على احتمال عودة ظهور هذه الجماعات في تلك المناطق. وبالمثل، يمكن للعمل بالتنسيق مع منظمات الأمم المتحدة والولايات المتحدة وتركيا المساعدة في تقديم الخدمات التعليمية والصحية والغذائية.
يبقى من مصلحة الولايات المتحدة وتركيا العمل معًا لتحقيق الاستقرار الدائم في المنطقة، فبعيدا عن أوهام بعض الأطراف الانفصالية، وزيف الادعاءات التي يسوقونها، ومحاولات ابتزاز المجتمع الدولي بالمبالغة في تصوير حجم تنظيم داعش الإرهابي، وممارساتهم العنصرية التي صارت عبئاً على التحالف الدولي. لابد كمرحلة أولى من هذا التنسيق بين الفاعلين الحقيقيين الأمريكي والتركي، الذي يمكنه أن يوقف تمدد النظام من جهة، ويساعد على الخلاص من بقايا تنظيم داعش الإرهابي، ومنع عودة التنظيم مرة أخرى. ومن ثم، فإن المزيد من التعاون سيساهم في حماية السكان من الوقوع في فخ المتطرفين. وقد أثبتت التجارب السابقة في الشمال السوري أن التعامل بين الدول أكثر جدوى واستقراراً، من التعامل مع المجموعات الصغيرة، فعندما تتبع كل مجموعة أجندتها الخاصة، فمن غير المرجح أن تتوافق النتائج مع احتياجات السوريين العاديين.