- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الثقافة العربية ليست مبرراً
"ملاحظة المحرر: هذا هو المقال الأول، من سلسلة تتكون من جزئين. وفي الأسبوع القادم سيعرض الدكتور محمد الدجاني وجهة نظر مغايرة تسلم بأن التحديات الرئيسية في المنطقة هي سياسية في المقام الأول وليست ثقافية".
اِدَّعى "جيمس كلابر" ـ مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية ـ مؤخراً، أن الولايات المتحدة "لا يمكنها إصلاح" منطقة الشرق الأوسط. ويمكن القول أن "كلابر" محق إلى حد ما في ادعائه، فالمشاكل الأساسية التي تعاني منها المنطقة، ليست سياسية فحسب، بل ثقافية أيضاً. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة بقوتها العسكرية غير قادرة على إصلاح هذه الأوضاع المزرية.
وإذا كانت الثقافة من أهم المكونات التي تمثل الأساس الذي يحكم سلوك المجتمع وتنظيمه، فإن الفوضى الحالية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ترجع جذورها - أساساً - إلى أزمة الثقافة والهوية التي تفتقر إلى التعاطف الداخلي والخارجي، حيث هيمنة التمركز حول الذات ونبذ الرأي الآخر؛ مما يؤدي - دائماً - إلى اختيار الحلول الصفرية. وهكذا، فإذا لم يقم العرب - اليوم - بممارسة نقد ذاتي لقيمهم وثقافتهم، فإن حمام الدم في الشرق الأوسط سيستمر في التدفق.
إن وضع مجموعة معينة من المعايير الثقافية يتطلب بالضرورة دراسة الحس الأخلاقي لتلك الثقافة لكي نتمكن من تحديد المثل العليا للمجتمع وسلوكياته، فالرمز الأخلاقي العربي يثمّن الانتقام بدلاً من التسوية، وينتصر للرجل على المرأة، وللجماعات على الأفراد. كما أن الهوية العربية الجماعية تستند على القبلية، وعلى الإذعان للسلطة (سواء سلطة الأب أو سلطة الحاكم)، ويرتبط فيها الشرف بعذرية المرأة، والعرف فيها مقدس (القديم هو الذهب)، والماضي ممجد، وهي هوية تهمل تحمل المسؤولية، وترى أن تحقيق المستقبل الأفضل لا يتم إلا عن طريق المعجزة.
وهذا بالطبع، لا يعني أن الأفراد العرب هم نسخة طبق الأصل من ثقافتهم، بل على العكس من ذلك، فإنك إذا تعاملت مع المواطن العربي العادي، سيبدو لك بشكل عام أنه متسامح وعلى خلق وكرم.
ومقابل ذلك، تحتوي الثقافة العربية على العديد من الإيجابيات، إلا أن تلك الإيجابيات لا تترجم إلى أنظمة اجتماعية - سياسية، أو إلى نظم عقائدية ليبرالية. فالثقافة الجماعية العربية لا تحتفي - بالضرورة - بالحرية السياسية والاستقلال الشخصي، واحترام المرأة.
إن ممارسة التأمل والنقد الذاتي غائبة عن العالم العربي المعاصر، فبعض المحادثات التي أُجريت مع المغاربة والمصريين والتونسيين والأردنيين الخليجيين العرب، أظهرت - مراراً - أن العربي غالباً ما يتبنى خطاباً احتجاجياً قائماً على المظلومية، وعلى إلقاء اللوم على الآخر. كما يفضّل في كثير من الأحيان تبني نظريات المؤامرة التي ترى أن تنظيم «داعش» صنيعة أمريكية - إسرائيلية هدفها تدمير المنطقة.
وهذا النوع من عمليات التفكير يكشف عن تجذر النفور من المساءلة والمسؤولية، من خلال الإدانات السطحية للإرهاب ضد المسيحيين واليزيديين واليهود أو الشيعة. ولتفسير أي فشل داخلي، غالباً ما يُلقى اللوم في جميع البلدان العربية، إما على العالم الخارجي، مثل: إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، والاستعمار، وإما على العرب أنفسهم باعتبارهم لم يتبعوا "الإسلام الحقيقي". وهذا ما يقود إلى مفارقة أساسية، حيث يرى العربي أن القوى الخارجية هي التي كانت سبباً في خلق مشاكل واضطرابات في البلدان العربية، وبالتالي فإن هذه القوى، هي الوحيدة القادرة على حل تلك المشاكل. وهذا النمط من التفكير يمثل بالطبع، دليلاً آخر على غياب مبدأالمسؤولية والمساءلة بين العرب.
وحتى لا نكون متحاملين على العالم العربي، تتحمل القوى الغربية أيضاً بعضاً من المسؤولية في ما وصلت إليه الأوضاع الحالية من تأزم؛ إذ ساهم الدعم الغربي المستمر للديكتاتوريين العرب في تخلف المنطقة، وفي تراجع الإصلاح الديمقراطي.
ومع ذلك، فإن الاعتماد بشكل مستمر على تأكيد الفشل الإقليمي للغرب بهدف تجنب الإصلاح، ودراسة الذات، هو أمر غير أخلاقي من الناحية الفكرية. فالقبلية وعدم احترام استقلالية الفردية لا يمكن أن يوصف ويبرر على أنه ناتج من نواتج الاستعمار والتدخلات الغربية.
وبالعودة إلى تقارير التنمية العربية الموثقة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يتضح لنا مدى ضعف الأداء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعلمي والإنتاجي والمعرفي، للعرب، حيث أكد تقرير عام 2002 على أن هناك ثلاث نواقص أساسية في العالم العربي: الحرية والمعرفة وتمكين المرأة. وقد نوجه سهام اللوم إلى الحكومات والأنظمة العربية، إلا أنها لا تتحمل إلا نصف المشكلة.
وأما النصف الآخر، فيتمثل في القيم الثقافية؛ فالحرية الفردية ليست حجر الزاوية في الثقافة العربية، كما أن العملية التعليمية لا ينظر إليها إلا باعتبارها عملية انتقالية فقط، عوضاً عن النظر إليها على أنها وسيلة لاكتساب المعرفة، أما المرأة فلا ينظر إليها كمواطنة كاملة. وأستحضر في هذا الصدد قصة أحد معارفي من العرب المتعلمين، حيث أنه عندما حاولت زوجته تحديد موعد لإجراء عملية ولادة قيصرية، طلبت المستشفى موافقته!
ووفقاً لتقرير الفجوة العالمية بين الجنسين لعام 2015، تشير الأدلة الإحصائية إلى أن هناك ثلاثة عشر بلداً من أصل خمسة عشر، تمثل أدنى معدلات مشاركة المرأة في القوى العاملة في منطقة الشرق الأوسط. كما أشار التقرير إلى أن النساء العاملات فعلياً، لا تمثلن سوى 18٪ من مجموع النساء اللواتي هن في سن العمل، مع وصول معدل البطالة بين النساء والشابات في الدول العربية خلال عام 2015 إلى 44٪، في حين أن نسبة الشباب الذكور لم تتجاوز 22.9٪.
وإذا كان للمرء إمكانية أن يجادل حول مدى الدور الذي يلعبه الإسلام في تشكيل هذه القيم، فلا يجب أن ننسى بأن هذا الدين جاء للقضاء على القبلية والتعصب العرقي، لكن دون جدوى. ومهما يكن الأمر، فإن الجمع بين القبلية والدين كان له آثاره الخطيرة التي أدت إلى تفاقم الوضع وانتشار الفوضى في المنطقة. وحالياً، امتد الهوس العربي بإسرائيل ليشمل إيران، إلى جانب تغاضى العرب عن المسؤولية الأخلاقية إثر تداعيات كارثة اللاجئين السوريين واليمنيين، حيث أن منطقة الشرق الأوسط لا تعاني من نقص الموارد المالية. لكن رغم ذلك، قامت بعض الدول العربية بإنفاق مليارات الدولارات لشراء الأسلحة في الوقت الذي لم تسمح فيه للاجئين السوريين بالدخول إلى بلدانها، وهو ما أضاف المزيد من الأعباء على اللاجئين أنفسهم وعلى الدول التي تستضيف الملايين منهم. كما أن الأصوات العربية التي تتعالى بالهتافات تأييداً للتحالف السعودي في اليمن، لا تبذل من جهتها أدنى جهد لإعادة بناء هذا البلد وتسوية أزمة اليمنيين النازحين.
وفي خضم كل هذه المشاكل، ما زالت وسائل الإعلام العربية ـ إلى جانب السياسيين وعامة الناس ـ مشغولة بإلقاء اللوم على المعسكر الإيراني الشيعي وإدانته بتهم تدمير المنطقة. وإذا جزمنا بأنه لا يمكن أن يختلف اثنان على خبث السلوك الإيراني وشروره المتواصلة، إلا أن التسليم بأن إيران هي أصل جميع العلل في المنطقة، يعتبر نوعاً من المغالطة والمبالغة غير المقبولة. فأغلب المراقبين المطلعين يرون، وربما يكونون على حق، أن الاضطرابات السياسية المتفشية في المنطقة حتى يومنا هذا، هي صنيعة الأنظمة المتسلطة التي ساهمت في تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وكانت موجودة ومتراكمة منذ عدة عقود. ومن ثم، يجب على المثقفين العرب أن يدرسوا بجدية الوضع الراهن، ويمحصوا جيداً الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إليه.
هيام نواس، هي محللة أردينية- أمريكية مقيمة في واشنطن العاصمة. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"