- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التحولات في السياسة اللبنانية في أعقاب الهجوم الإرهابي على القاع
في 27 يونيو/حزيران، هاجم ثمانية انتحاريين بلدة القاع اللبنانية الحدودية مع سوريا، التي تسكنها أغلبية مسيحية في منطقة البقاع، شمالي لبنان. وهذا الهجوم هو الأول من نوعه الذي استهدف المسيحيين في لبنان، منذ بدء تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») شن هجمات ضد مناطق شيعية في لبنان، كان أعنفها في العامين 2014 و2015. بيد أن الهجوم الأخير حمل تساؤلات عديدة، من بينها أن عدد المهاجمين فاق عدد الضحايا، فضلاً عن روايات شهود عيان في المنطقة تشير إلى أن المهاجمين لم يهتموا بالقتل الجماعي . وبدلاً من ذلك، يبدو أن الهجوم كان محاولة لعرقلة نموذج سياسي جديد في لبنان، ألا وهو: تحالف مسيحي- شيعي.
ولا يمكن عزل هذا الهجوم عن سياق أحداث كثيرة حصلت في لبنان وسوريا مؤخراً، بالإضافة إلى العلاقة الدورية المتنامية بين تورط «حزب الله» في سوريا والقلق على سلامة النازحين السوريين في لبنان. وقد توقف الناس في لبنان عن سؤال نصر الله: لماذا تقاتل في حلب؟ وانتشرت بكثافة عبارات على مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل "أبناء الزهراء يحمون أبناء العذراء"، في إشارة إلى استعداد «حزب الله» للدفاع عن البلدة المسيحية؛ حتى أن سرايا المقاومة التي يستخدمها «حزب الله» في الداخل لإخافة خصومه، ظهرت علناً في القاع، وسارت في تشييع الضحايا الخمسة إلى جانب عناصر حزب "القوات اللبنانية"، الذي يشكّل جزءاً من الهوية الحزبية للبلدة.
وفي خطاب بمناسبة مرور 40 يوماً على مقتل القيادي مصطفى بدرالدين في سوريا أعلن الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله عن سقوط 26 قتيلاً من عناصر حزبه، وأسيراً واحداً، ومفقوداً واحداً، خلال مواجهة كبرى مع المعارضة السورية في ريف حلب الجنوبي في 18 حزيران/يونيو.
وخلال خطابه، واجه نصر الله عدداً من الانتقادات التي وجّهت إليه مؤخراً من قبل خصومه السياسيين في لبنان، حول قتاله في تلك المنطقة البعيدة عن الحدود اللبنانية، خاصة بعد إعلانه مقتل 26 من مقاتلي «حزب الله» في جنوب حلب. وفى هذا الصدد قال نصر الله إن "القتال للدفاع عن حلب اليوم هو دفاع عن لبنان (..)"، واعتبر أن أي مواجهة مع الإرهاب، في أي مكان، هي خطوة وقائية تحد من وصوله إلى لبنان؛ كما أبدى استعداده للقتال في العراق أيضاً "عندما تتطلب الحاجة"، واستخدم عبارة "سنفعل ما يجب أن نفعله في سوريا أو العراق"، لإبلاغ خصومه بأن قراره لا يتأثر بأي انتقادات، وأنه من غير المقبول نقاشه ضمن إطار التوازنات الداخلية في لبنان.
وتعالت التحذيرات من لجوء سكان البلدة المسيحية إلى خيار الأمن الذاتي، بعد انتشار مسلح نفذوه داخل البلدة، وقد ظهر النائب في البرلمان اللبناني عن كتلة "القوات" أنطوان زهرا مع سلاحه برفقة مسلحين آخرين داخل البلدة. وهذا المشهد دفع العديد من خصوم «تحالف 14 آذار» إلى الطلب منهم الكف عن اتهام «حزب الله» وشركائه من «قوى 8 آذار»، بالسعي وراء الأمن الذاتي، فها هم اليوم يفعلون ما كانوا ينهون «حزب الله» عن فعله بالأمس. ولزهرا انتقاد عنيف للأمن الذاتي وقتال «حزب الله» في سوريا، حيث قال في حديث سابق لـ "إذاعة الشرق" في آب/أغسطس 2013، عقب تفجيرين انتحاريين استهدفا سابقاً أحد الأحياء في برج البراجنة بالضاحية الجنوبية لبيروت، إن "السيد حسن (نصر الله) تكلم عن التكفيريين والخطر الذي يمكن أن يشكلوه إذا لم يتدخل «حزب الله» في سوريا، إلا أن الأمن الذاتي هو استهانة بالمواطنين والدولة التي يجب أن تحمي المواطنين".
وفى واقع الأمر، بدا سلوك الأمن الذاتي في بلدة القاع، والذي انسحب لاحقاً من معظم المناطق المسيحية، استهانة بمؤسسات الدولة. وقد عملت قوات الأمن الذاتي والجيش اللبناني والبلديات بشكل منفرد، على استهداف النازحين السوريين في هذه المناطق. وتقول التقديرات إن عدد السوريين الذين نزحوا الى لبنان تقترب من 300 ألف شخص، بعد أن هربوا من المناطق التى تمتد على طول الشريط الحدودي بين لبنان وسوريا، من أقصى الريف الغربي لمدينة القصير في محافظة حمص وسط سوريا، إلى أقصى جنوب مناطق القلمون في ريف دمشق. ولا يفكر أحد في لبنان بوقف الاعتداءات ضدهم، أو الاعتذار عمّا فعل «حزب الله» ببيوتهم وأراضيهم، بل يتم تحميلهم اللوم الأكبر، دوماً، بعد كل حادث أمني يتعرض له لبنان، وكأنه كان في السابق واحة للسلام، ولم يتحارب أهله، أو يتعرض إلى تفجيرات عنيفة واغتيالات سياسية قبل نزوح السوريين إليه.
إن الجيش اللبناني الذي حضر عقب الهجمات غُيّب لاحقاً، واقتصر عمله على تنفيذ حملات عقاب جماعي، واعتقال عشوائي، طالت النازحين السوريين في مختلف المناطق اللبنانية. وقد بلغ عدد المعتقلين خلال 3 أيام فقط 834 شخصاً، بينهم عاملان من بنغلاديش والبقية كلهم سوريون، قبض على العديد منهم داخل مخيمات/تجمعات، من المفترض أنها تحت إشراف "المفوضية السامية لحقوق اللاجئين" التابعة للأم المتحدة.
وعلى الرغم من إعلان وزير الداخلية والبلديات اللبناني نهاد المشنوق، أن الانتحاريين الذين استهدفوا القاع لا صلة لهم بالنازحين السوريين وأنهم أتوا من داخل سوريا، فضلاً عن تأكيد وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس أن الوجود السوري داخل المخيمات هو تحت السيطرة ولا يشكّل تهديداً أمنياً، إلا أن المؤسسات الحكومية لم تفعل شيئاً يذكر للحد من الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون في لبنان.
ومع ذلك، تغاضت الحكومة اللبنانية عن الاعتداءات التي شنّها مناصرو الأحزاب المسيحية على سوريين يقطنون في بلداتهم، وكان أعنفها تعرّض 10 عائلات للضرب، لمدة ساعة ونصف، في بلدة حراجل الواقعة في قضاء كسروان التابع لجبل لبنان، وفقاً لما أعلنه الممثل الإقليمي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" في لبنان نديم حوري. ويلاحَظ أن منسوب العنف الذي تصاعد في هذه البلدة تجاه السوريين، جاء بعد تعميم صدَر عن البلدية، حدد سلسلة من الإجراءات لتنظيم وجود السوريين في البلدة، منها منع الذين لا يعملون من الإقامة فيها، وتفتيش الغرف وإحصاء عدد القاطنين في كل منزل وغرفة.
وفي الثاني من تموز/يوليو نشرت بلدية جونيه على صفحتها الرسمية في الفيسبوك، صورة مهينة لسوريين مصطفين داخل بناء، وأرفقت معها شرحاً قالت فيه "تقوم شرطة بلدية جونيه بالتعاون مع مخابرات الجيش اللبناني بإجراء مسح شامل للرعايا السوريين القاطنين ضمن نطاق المدينة. ولا يسعنا إلا أن نشكر الأجهزة الأمنية وخصوصاً مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، التي تساهم في بسط الأمن والمحافظة على أمن الوطن والمواطنين".
وفي الواقع، شكل هذا "المسح للرعايا السوريين" انتهاكاً صارخاً لحقوقهم، إذ توحي الثياب التي يلبسونها والخوف البادي على وجوههم، أنهم تعرضوا إلى اعتقال تعسفي من منازلهم. وقد قامت البلدية بحذف الصورة بعد مواجهتها انتقادات [مختلفة]، وادعت لاحقاً أن السوريين الذين ظهروا في الصورة هم أشخاص لا يحملون أوراقاً ثبوتية وقد تم تسليمهم إلى الجهات المعنية.
ورغم أصوات التنديد التي أخذت تتعالى في لبنان، وتنتقد الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون، إلا أن الممارسات لم تتوقف، كما أن وزارة الداخلية لم تتخذ أي إجراءات بحق البلديات في هذا الخصوص. بالإضافة إلى ذلك، تشكّل الحملة التي شُنت ضد الوجود الضخم للاجئين السوريين في لبنان هدفاً آخر من التوظيف السياسي لعملية القاع. فالمعسكر الرافض لوجود السوريين في لبنان، الذي يقوده وزير الخارجية جبران باسيل - الحليف المسيحي غير المحتمل لكل من الأسد و «حزب الله» - وجد مناسبة جديدة لإذكاء مشاعر العداء تجاه النازحين الضعفاء. وقبل يومين فقط من الهجوم كتب في تغريدة على حسابه في تويتر "ممنوع وجود مخيمات وتجمعات للنازحين السوريين في بلداتنا".
وفي المستقبل القريب، من غير المتوقع أن يتوسع الحلف الماروني-الشيعي القائم بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، ليدخله حزب "القوات اللبنانية"، إلا أن استغلال الهجوم في منطقة القاع ضد السوريين المتواجدين في لبنان ما زال يدرّ الأرباح على «التيار الوطني الحر» و «حزب الله»، الذي يعاني من أزمة اقتصادية وعقوبات تفرضها البنوك عليه.
وختاماً، يمكن تصنيف هجمات القاع ضمن العمليات الأمنية ذات النهايات المفتوحة التي حدثت في لبنان، ولا يزال من الممكن توظيفها والاستفادة منها مطولاً. فحتى الآن، لم يتبنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» - المتهم الرسمي بالعملية - الهجوم على القاع، في صورة مماثلة لعدم تبنّي أي جهة لعملية تفجير عبوة أمام "بنك لبنان والمهجر" وسط بيروت الشهر الماضي. لكن مع عدم إعلان أي جهة مسؤوليتها عن تلك الهجمات، يجب على الأحزاب اللبنانية، والبلديات التي تمثل وزارة الداخلية أن تتوقف عن استخدام النازحين السوريين ككبش فداء لتلك الهجمات. ونظراً لعدم اكتراث السفارة السورية في لبنان لمنع تلك الهجمات التي تحدث ضد مواطنيها، أصبح الأمر الآن متروكاً للحكومة اللبنانية لإعادة تقييم سلوكها، ومنع اللاجئين السوريين من أن يصبحوا ضحايا للمشهد السياسي اللبناني.
فادي الداهوك، هو صحفي سوري ورئيس القسم العربي والعالمي في جريدة "المُدُن" الإلكترونية في بيروت. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"