- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الثورة الإيرانية والقضايا العربية: حالة من التورط العقائدي
ليس لإيران مصلحة موضوعية في السير بسياسة معادية للولايات المتحدة ومعادية لإسرائيل، بل هي قابلة للنظر بتسوية قطعية في حال جرى الاعتراف الصريح بموقعها كقوة عظمى على مستوى المنطقة». الرسائل الصريحة بهذا المغزى تتوالى عبر وسطاء مختلفين، بما في ذلك الباحثين المرتبطين بمراكز الدراسات في طهران والمقربين من الدوائر السياسية فيها، خلال اللقاءات العَرَضية في أوروبا أو الشرق الأوسط مع نظرائهم من واشنطن. هي رسائل تبدو وكأنها تؤكد الريبة الراسخة في العديد من العواصم العربية، كما الآمال العلنية لبعض الأوساط في واشنطن، بأن التزام إيران بالقضية الفلسطينية وسائر الطروحات الثورية العربية مرحلي ومصلحي وقابل للتبدل. وفق هذه القراءات، المتخوفة أو الراجية، طهران تستعمل وتستغل وحسب هذه القضايا كأداة لتحقيق طموحاتها بالهيمنة على المنطقة، وقد تكون بالتالي مستعدة» للتفاوض «بشأن الصفقة الكبرى التي طال الحديث عنها.
لا حاجة إلى التشكيك بصدق من ينقل هذه الرسائل، ولا حتى بمن هم على اتصال معهم من أصحاب القرار في طهران. فالتقارير المتواترة تفيد بالفعل أنه ثمة أوساط عديدة ضمن مؤسسات الدولة في طهران تجنح إلى الترحيب بتطبيع علاقات إيران الخارجية، إن لم يكن السعي الإقدامي لتحقيقه، بما ينضوي ذلك على الابتعاد عن تقديم الدعم للجهات غير الحكومية في دول الجوار، والاقتراب من التعامل الاعتيادي القائم على العلاقات الديبلوماسية وموازين القوة. على أن توقع أن يتحول هذا الميل الخجول إلى تبدل حقيقي في مسار السياسة الإيرانية البعيدة المدى هو في أحسن الأحوال من باب التمني الواهم. بل إن التقييم الأكثر قابلية للتصديق هو الذي يدرج هذه الإيماءات بتبدل السياسة الخارجية الإيرانية في إطار الجهود المتعمدة لأصحاب القرار الحقيقيين في إيران لتمييع عزيمة خصومهم في المنطقة والعالم، من خلال تشجيع الأصوات المتواجدة للتوّ في صفوفهم، والداعية إلى أسلوب أقل صرامة في التعاطي مع طهران.
مقولة أن إيران من شأنها التخلي عن مواقفها الثورية مقابل إعادة ترتيب للبنية السياسية للمنطقة بما يقرّ لها بالأعلوية، تنضوي على علّة قاضية. إذ هذه المقولة تتجاهل أن ما حققته إيران من أعلوية، وما تطمح بأن تزيد في تحقيقه منها، قائم بالأساس على إشهارها للتوجهات الثورية وعلى تغذيتها للجهات الفاعلة الثورية.
تطبيقات جديدة لنموذج قديم
لقد نجحت إيران الثورية بتطوير نموذج «الإيالة» بما يشبه ما كانت قد حققته الدول السلطانية القديمة، وإن مع فوارق هامة. فالدول العظمى في التاريخ القديم للمنطقة، الأشورية، البابلية، الفارسية الهخامنشية، عمدت لضمان السيطرة على النطاق الواسع الواقع تحت حكمها، إلى صيغة من الإدارة صارمة المركزية في أوجه، ولامركزية في أوجه أخرى، فأطلقت يد حكام الإيالات المختلفة في الشؤون الداخلية شرط أن يقدّموا للمركز سيلاً موثوقاً من الغنائم، الأموال منها والرجال. أما نظام «الإيالة الثوري» المعاصر، فالغنيمة فيه هي النفوذ القابل للتوظيف، بدلاً من المال، بل يلحظ هذا النظام الحاجة إلى توفير الأموال من المركز باتجاه الإيالات لتحقيق هذا النفوذ.
على أن كلا النموذجين للإيالة، القديم والمعاصر، يعتمد على تأكيد هيبة السلطة المركزية ومكانتها لدى المقيمين في عموم الإيالات من خلال تثبيت قناعات عبر رسائل موجهة إلى الأوساط التابعة. وبالنسبة للنموذج القديم، كان لا بد لهذه الأوساط أن تقتنع بالقوة القاضية للمركز السلطاني كي تلتزم الخضوع. أما بالنسبة للنموذج المعاصر، فالقناعات التي يرجى تثبيتها أكثر دقة، وعلى قدر واسع من التنوع، بحيث يوجه لكل مقام ما يناسبه من مقال، وفق ما هو عليه من التماهي أو الولاء أو المصلحة مع المركز. ولكن، بالنسبة للنموذج المعاصر، فإن الأساس الذي يبنى عليه هو الخطاب العقائدي السائد في المحيط العربي في سبعينات القرن الماضي، والذي تشكل القضية الفلسطينية عموده الفقري.
ليس أن الطروحات الفوقية الأعلوية، السنية والشيعية، والعربية والفارسية، كانت غائبة عن الساحة العقائدية في سبعينات القرن الماضي. فهذه الطروحات كانت متداولة، سواء في زعم ريادة العالم الإسلامي لدى الخميني، أو في المقابل السني الجانح إلى الإقصاء والتكفير والذي كان يتشكل في الأوساط السلفية القطعية وصولاً إلى إنتاج استيلاء جهيمان العتيبي وصحبه على الحرم المكي. على أنه من الأصح استشفاف الأصول الفكرية للثورة الإسلامية في إيران، كحركة تحشيد شعبي، في التوجهات الإسلامية التقدمية لعلي شريعتي أو في نقد الاستعمار الجديد والذاتي والذي تقدّم به جلال آل أحمد، فهنا وهنالك تماشٍ وحوار مع ما يقابلهما في الثقافة السياسية العربية. ويبقى المطلوب في هذا الصدد استيفاء النظر «الكتيبة الطلابية» لحركة فتح، الفصيل الأول في منظمة التحرير الفلسطينية، لدورها في احتضان التواصل والعلاقات بين الشخصيات الثورية البارزة، في الإطارين العربي والإيراني، في مراحلها الأولى في عقد السبعينات الحاسم.
مع سقوط الشاه، رفعت الحواجز وبرزت الفرص للجانبين، على أنه ليس من الصواب اختزال الترحيب بالثورة الإيرانية في العالم العربي، ودعم الثوار الإيرانيين للقضايا العربية إلى حالة من التوافق على المصالح، على الأقل في الفترة الأولى. بل كان هذا التلاقي انسجاماً في تشخيص الأطراف المعادية: الاستكبار العالمي، أي الولايات المتحدة، وهي المتهمة الأولى بالسطو على ثروات الشعوب وحرمانها منها، ثم الصهيونية، أي إسرائيل بصفتها كيان استيطاني استولى على بلاد أصحاب الحق والأرض وطردهم منها، وكذلك الأنظمة الرجعية العربية العميلة والتابعة للغرب على حساب مصالح شعوبها.
وسرعان ما تبين في إيران نفسها فساد مقولة الثورة النقية، مع ما أنتجته من حكم استبدادي يسعى إلى فرض سلطة شمولية. وكذلك كان حال الوضوح العقائدي، والذي انكشفت طبيعته الاقتطاعية والتسطيحية للعديد من ثوار الأمس الإيرانيين، بعد أن وصلوا إلى السلطة الفعلية، فهذا صدام حسين، وليد الثورة في بلاده يشنّ على الجمهورية الإسلامية حرباً ضروساً، وهذه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تقدم حبل نجاة، تحت غطاء صفقة الأسلحة والرهائن، وإن لأغراضها الذاتية.
قد تكون الواقعية أخذت تكسو الفكر السياسي في إيران، على أن ثمة توجهين كانا انطلقا قدماً.
في حين أن إيران اعتنقت الخطاب العربي الثوري المتشكل في السبعينات، المعادي للإمبريالية والصهيونية والرجعية، فإن صدقية الأنظمة التي كانت تشهره، العراق وسوريا وليبيا، كانت قد انهارت، وكانت الفوضى والضياع قد غلبا على منظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من لبنان. هذا فيما الخميني اجتهد بوسم إيران بالرموز من المخزون الإسلامي، بما في ذلك إعلان يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان «يوم القدس العالمي» لتستقبل جهوده في العالم العربي، والذي لم يكن مستهلكاً حينها بالتخاصم السني الشيعي، على أنها عودة لإيران إلى أصالتها الإسلامية. فالنتيجة كانت أن إيران اكتسبت حضوراً مادياً وتأثيراً معنوياً بارزين، وأصبحت محجة للشخصيات العربية الشيعية كما للإسلاميين السنة من ذوي التوجهات اللينة، وكذلك لليساريين العرب من مختلف الانتماءات.
وفي موازاة ذلك، إيران قد نجحت بوضوح في لبنان بإنشاء التطبيق الأول والأنجح إلى اليوم) لمقولة) تصدير الثورة، أي «حزب الله» والذي جرى تقديمه وتنظيمه على أنه الذراع المباشر لإيران في بلاد الأرز، بل كان اسمه الكامل «حزب الله، حزب الثورة الإسلامية في لبنان»، وكان علمه علم الثورة الإيرانية. المراحل التالية شهدت بعض التذويب لهذه الصرامة العقدية، غير أن صلب التجربة كان ولا يزال إقامة الدائرة الشمولية المحصّنة.
فالحاصل المتراكم من هذين التوجهين غير المتكافئين قد دفع بالجمهورية الإسلامية نحو واقع ودور غير محسوبين. وتبقى الحاجة بهذا الصدد إلى السعي إلى تقييم موضوعي لعوامل الدفع والسحب في الدعم الإيراني للحركات الإسلامية الفلسطينية. وما يبدو جلياً للتوّ هو أن إيران بدت على استعداد أوضح لدعم الجهاد الإسلامي من دعم «حركة حماس»، والتي غالباً ما فوض التواصل معها لحزب الله.
التورط العقائدي في القرن الحادي والعشرين
لم يتحقق لإيران في العقود التالية، ما يذكر في السعي إلى الارتقاء إلى مقام الدولة الاعتيادية النافذة. بالمقابل، فإن الفرص توالت لها لتعزيز نفوذها في مناصرة الجهود الثورية، فكان أن سلكت هذا المنحى، في العراق واليمن وسوريا والبحرين وأفغانستان، وحققت النتائج الملحوظة. والمفارقة هي أن النجاح في هذا المسعى الثوري يتسبب بشكل مباشر بالفشل في مسعى الارتقاء كدولة اعتيادية. وقد يثابر البعض في دوائر الحكم في طهران على إنكار هذه الحقيقة، ولكن الواقع هو أن إيران الثورة ليست قائمة بموازاة إيران الدولة، بل إيران الثورة هي عائق أمام إيران الدولة.
وانطلاقاً مما سبق، فإنه حتى إذا كان ثمة قيادة في طهران على قناعة بأن المصلحة الوطنية الإيرانية تقتضي العودة إلى الأطر السياسية الدولية الاعتيادية مع المحافظة على موقع إيران كقوة كبرى على مستوى المنطقة، كما تكرر الإشارة والإيماءات والرسائل إلى الغرب عبر الوسطاء، فإن منظومة الإيالات التي أنشأتها إيران الثورة، والتي تشكل أساس نفوذها في الخارج، قد ورّطتها ووضعتها في موقع عقائدي تعجز معه عن تحقيق التحول المطلوب. إذ إما أنه على هذه الإيالات والتي يبنى عليها النفوذ، والمنتشرة في أقطار عربية عدة، أن تصبح كل منها جزءاً من الدولة التي تقوم فيها، أو أن تعمد إلى الانحلال الذاتي لتفسح المجال لبنى غير ثورية تعمل على تثبيت النفوذ الإيراني بالطرق الاعتيادية، فتصبح معها إيران قوة نافذة اعتيادية.
وعند اعتبار الاحتلال الفعلي الذي حققته إيران في لبنان، عبر حزب الله، فإنه يتبدى بوضوح أن كل من هذين المسارين المطلوبين للتحول ليس ممكناً. فعلى الرغم من الغياب شبه الكامل لأية خطة على مستوى المنطقة أو العالم للتصدي لمحاولات إيران المستمرة لقضم الدولة اللبنانية، وعلى الرغم من غياب أي تحدي محلي للقوة القاهرة التي تحتفظ بها إيران في لبنان، فإن حزب الله لا يزال عاجزاً عن فرض إرادته بالكامل على المجتمع اللبناني. وإيران لا تزال تفتقد حضوراً دائماً أو معتمداً عليه في لبنان خارج إطار حزب الله. فسلطة إيران على لبنان مرهونة باستمرار الصيغة الثورية العقائدية ضمن حزب الله.
وكذلك، فإن مفاوضات الخمسة زائد واحد وما نتج عنها من اتفاق قد اختبرت قدرة إيران على إعادة موازنة توجهاتها باتجاه صيغة الدولة الاعتيادية. فعلى الرغم من فيض المحفزات الدولية التي دعتها إلى تصويب سياساتها بما يعزّز موقعها كقوة نافذة اعتيادية، فإن طهران استغلت المجال الذي أتاحه لها الاتفاق لتوسيع نطاق جهودها الثورية وتقويتها. أي أن المرحلة التي تلت الاتفاق أثبتت بأن ما يجري في إيران ليس سجالاً بين الدولة والثورة، بل تسخير للدولة من جانب الثورة لتحقيق مصالحها.
فسواء كان الأمر في لبنان أو فلسطين أو سوريا أو العراق أو اليمن أو البحرين، أثبتت إيران أنها عاجزة عن تحويل حضورها الثوري إلى علاقة مستدامة بصيغة دولة نافذة على مستوى المنطقة. بل إن اعتمادها المتواصل لنموذج الإيالات يحرمها من أن تصل بسياستها إلى الشكل الاعتيادي. بالإضافة إلى أنه من شأن الأطراف السياسية الإيرانية الداخلية المتباينة والمستفيدة ضمناً وصراحة من انتشار منظومة الإيالات أن تعترض أي قرار يسعى إلى التخلي عن هذا الاستثمار الباهظ، في حال ظهر من يحبذ التحوّل. لا شك بأن الدولة الإيرانية من شأنها أن تستفيد كثيراً من تطبيع علاقاتها مع الأسرة الدولية والانتقال إلى صيغة الدولة الاعتيادية، غير أن الواقع أن منظومة الإيالات تشكل عائقاً وتورطاً عقائدياً لا يبدو بأن الثورة الإيرانية، مع بلوغها الأربعين، قادرة على انتشال نفسها منها.