- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعليم في الظروف الاستثنائية، حالة الشمال السوري: ما الذي يمكن عمله في شمال سوريا؟
بعد مضيّ عقدٍ على الكارثة التي ألمَّت بسورية وأهلها، عانى الأطفال السوريون من خسائر لا تُحصى نتيجة ذلك، فالأطفال ضعفاء للغاية، ويفتقرون إلى القدرة على حماية أنفسهم من الأخطار المحيطة بهم، والتي ستظل آثارها فيهم إلى زمن طويل، بل قد تبقى معهم طوال حياتهم.
يشكل هذا الجيل من الأطفال المتضررين من الحرب الأهلية السورية أوسع شريحة في الديموغرافيا السورية، بما في ذلك أولئك الذين ولدوا قبل الحرب وكذلك الذين ولدوا خلالها. فقبل اندلاع الحرب بعام في سوريا، كان الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و 14 عامًا يمثلون 37٪ من السكان، بينما في عام 2020 كانوا يمثلون 30٪ فقط. حُرم هؤلاء الأطفال من جميع حقوقهم الأساسية تقريبًا، ولا سيما حقهم في التعليم. ووفقًا للمركز السوري لبحوث السياسات، أكثر من نصف الأطفال من عمر المدرسة ليسوا مسجلين في المؤسسات التعليمية خلال العام الدراسي 2014-2015.
تشكل الأزمة التعليمية التي يمر بها الأطفال السوريين الذين يعيشون في مناطق خارج سيطرة النظام مصدر قلق بالغ، حيث فشلت السلطات التربوية في القطاعات المختلفة الواقعة خارج سيطرة النظام في دمشق في توفير فرص تعليمية كافية للأطفال السوريين، وتدخلت الجهات المحلية في النظام التعليمي للدولة وقامت بتعديل محتويات المناهج التعليمية نتيجة لذلك.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أكثر من (639.600) طفل من عمر 6-18 سنة يعيشون في مناطق شمال شرق وشرق سورية، وهي تضم دير الزور والرقة والحسكة وريف حلب الشمالي. وفي مناطق شمال غرب سورية، وهي تضمّ: شمال إدلب وغرب حلب، عفرين، ريف حلب الشمالي، جنوب إدلب وشمال حماة، يعيش (1.453.28) طفل من عمر 6-18 سنة، وأكثر من نصف الأطفال غير مسجلين في المدارس. لذلك فنحن لا نعرف سوى القليل جدًا عن أصغر جيل في بلدنا، ولا نعرف كيف يقضون أوقاتهم. ووفقًا لدراسة أجراها "مشروع بورجن"، تنتشر ظاهرة عمالة الأطفال في أكثر من 75٪ من العائلات السورية، ويوفر ما يقرب من نصف هؤلاء الأطفال مصدر دخل مشترك أو وحيدًا للأسرة. ويفترض أن هؤلاء الأطفال يعملون لإعالة أسرهم من خلال كسب مبالغ مالية صغيرة، أو في حالة الفتيات السوريات اللاتي يبقين في المنزل لمساعدة أمهاتهن. كما يُترك بعض الأطفال يتجولون أثناء النهار، ولا يذهبون إلى المنزل إلا للنوم ليلاً، إذا كان لديهم منزل. وطبقا لتقرير الأمم المتحدة الصادر في عام 2021، تم توثيق أكثر من 4700 حادثة تم التحقق منها شملت التحرش الجسدي بالأطفال في سوريا في الفترة ما بين يوليو / تموز 2018 ويونيو / حزيران 2020. ويتعرض الأطفال المشردون للمضايقات واستغلالهم كعمالة رخيصة أو غير مدفوعة الأجر، ويتم تجنيدهم للانضمام إلى الجماعات المسلحة.
بالنسبة لغالبية الأطفال السوريين الذين التحقوا بالمدارس، فهم يرزحون تحت ظروف قاسية لا يمكن أن تقود إلى عملية تعليمية ناجعة، فجزء كبير من الأبنية المدرسية المشغولة بالأطفال بلا سقف مُحكم، بعضها بلا نوافذ أو أبواب، وعدد المقاعد الصالحة للاستخدام أقلّ من الحاجة، والصفوف مكتظة بالطلاب، وقد تكون على شكل خيمة تضمّ أعمارًا متباينة، وينتمون إلى صفوف متعددة، يقوم على تعليميهم معلّم وحيد. وقد يبلغ متوسط عددهم في الخيمة أو الغرفة خمسين طفلًا أو أكثر. أما الكتب التعليمية فهي غير كافية بعضها غير صالح. وكثيرًا ما تكون الطرق المؤدية إلى المدرسة معفرة بالتراب أو موحلة نتيجة إهمال سلطات الأمر الواقع، وفي أوقات العمليات الحربية تكون غير آمنة، ويؤدي ذلك إلى انقطاع الطلاب عن المدرسة. كل ذلك يوضح مدى انخفاض جودة التعليم، وتدهور كفايته الكمية والنوعية، والتي يتم التعبير عنها من خلال ارتفاع نسب الانقطاع أو التسرب من المدارس والرسوب.
بحسب تقرير منظمة "اليونيسف"، منذ بداية الحرب، اضطرت المدارس السورية لملء الشواغر بمدرسين غير مؤهلين يفتقرون إلى مؤهلات التدريس الرسمية. وتشكل تلك الفئة من المدرسين ربع إجمالي المدرسين في البلاد. علاوة على ذلك، يتعرض المدرسين في سوريا لإكراه نفسي كبير وذلك على خلفية القتال وحالة عدم الاستقرار خلال العقد الماضي. ولا يزال المعلمون في سوريا يمارسون مهنة التعليم بالأساليب التي تعلّموها، وذلك باعتماد أساليب التلقين والتحفيظ عوضاً عن مهارات التحليل وبناء المهارات. في ظل هذا الوضع يضطر المعلمون لمراجعة خطط الدروس بشكل متكرر للتكيف مع طلابهم، الذين يواجهون باستمرار ظروفًا لا مثيل لها.
أحد العقبات الرئيسية التي تواجهه المعلمين في سوريا هي أن الطلاب الذين لم يسـبق لهـم الالتحـاق بالمدرسـة في الصغر ما زالوا أميين نظرا لأنهم لم يتلقوا أي تعليم أو أي شكل آخر من أشكال التدريب عندما كانوا أطفالًا، وتلك مشكلة كبيرة يواجهها الطلاب السوريين. علاوة على ذلك، لا يتم إيلاء الاهتمام الكافي للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة حيث أن أكثر من نصف عدد الأطفال المصنفين ذوي حاجات خاصة غيرُ مسجلين بالمدارس، وما زالت معاهد تأهيلهم وتدريبهم قاصرة جدًا عن تلبية احتياجاتهم المتعددة والمعقدة.
وحتى نتمكن من توفير تعليم ذي جودة أفضل لجميع الأطفال السوريين، وتأمين أشكال من التدريب والتأهيل للشبان الذين حُرموا من فرصة التعليم، يجب التفكير خارج الصندوق وذلك من خلال معالجة الأسئلة الرئيسية التالية: ما السُبل التي يمكن السير فيها لرفع نسب المسجلين في المدارس من خلال تحسين الكفاية الداخلية- الكمية للطلاب المسجلين في النظام التعليمي؟ وكيف يمكننا تحسين المعايير التعليمية (أي الكفاءات النوعية) لهؤلاء الطلاب؟ ثم ما سُبل تأهيل وتدريب الشبان الذين فاتهم قطار التعليم النظامي والفاقدين للمهارات المهنية-التعليمية الأساسية؟
أمامنا تعليم -على علاته- يستوعب نصف عدد الأطفال من عمر 6-18 سنة، وهو تعليم نظامي مؤلف من صفوف ومناهج وامتحانات... بعضه يخضع لسلطة وزارة التربية والتعليم التابعة للحكومة المؤقتة، وبعضه يتبع سلطة "حكومة الإنقاذ" في إدلب، والبعض الآخر يخضع لسلطة "الإدارة الذاتية" لشمال وشرق سوريا (روجافا). وتحتاج هذه القطاعات الثلاثة إلى عملية إصلاح عميقة، على مستوى جميع مدخلات النظم التربوية وعملياتها التي تضمها:
- توحيد مناهج التعليم باعتماد المنهج السوري المنقح من رواسب الفكر الأيديولوجي للبعث والقائد، ومنع العبث فيها من قبل بعض الجهات.
- الاهتمام بالبنية التحتية للبيئة التعليمية": غرف/ صفوف ومقاعد ومياه شرب، ومراحيض ونظافة، وتجهيزها بما يلزم لتأمين حركة ذوي الاحتياجات الخاصة منهم.
- العمل على جذب معلمين ومدرسين مؤهلين تربويًا على أساس الجدارة بدلاً من المحسوبية والواسطة.
- بناء مدارس جديدة وخاصة في المناطق الفقيرة منها، ودعمها بالمستلزمات الممكنة.
توصيات لمعالجة الفجوات التعليمية:
وفي ما يخصّ الأطفال الآخرين (غير المنتظمين)، فالضرورة تقتضي الاستعانة بمختلف أساليب التعليم ومنصاته المتاحة للإيفاء باحتياجاتهم التعليمية. لذلك، يمكن الاستعانة بالتعليم الافتراضي ((online، لكن هذا النوع من التعليم يتطلب تدريبات كثيرة لبناء القدرات البشرية، وأنواع معينة من المعدات والقدرات التقنية والموارد الأخرى.
وقد تكون الدروس عبر (يوتيوب) أحد الحلول الممكنة، ويكون ذلك من خلال قيام مجموعة من التربويين المتطوعين أو غير المتطوعين المسنودين بمؤسسة قادرة على تنظيم وتمويل مشروع قائم كهذا، بصناعة مناهج تعليمية لعدد من الصفوف والمواد التعليمية، تبدأ ببعض المناهج الأساسية، تقدّم للتلاميذ عبر منصة (يوتيوب) أو أي منصة رقمية ملائمة. وهي تجربة خبرها عدد من الأطفال، في أثناء تعاظم جائحة كورونا (كوفيد 19). ومع ذلك، يجب أن يتحول النظام من مجرد منصات محدودة للتعليم عن بعد والتي قام بتطوريها بعض المتخصصين في مجال التربية، إلى مناهج مركزية مطورة مهنيا ومتوفرة لأعداد كبيرة من الطلاب من خلال منصة موحدة عبر شبكة الإنترنت.
كذلك يمكن مشاركة منظمات المجتمع المدني حيث يمكنها أن تلعب دورا في إنشاء صفوف تُدرِّس منهاج (اليونيسيف/ المنهاج المسرع) الذي يسـتهدف الأطفال الذين تـراوح أعمارهم بيـن 8 -15 سـنة، ولـم يسـبق لهـم الالتحـاق بالمدرسـة (ما زالوا أميين) أو الأطفال الذين يعـودون إلى المـدارس بعد التسـرب لمـدة عـام على الأقـل، ويُقبـل هؤلاء الأطفال في شـُعبٍ خاصـة ملحقة بمـدارس التعليم الأساسـي، وفق مسـتواهم التعليمي، ويُطبّـق عليهـم منهـاج وخطة دراسـية، وضعتـهما وزارة التربية؛ حيث يجتـازون الصفوف مـن 1 حتى 8، وفق أربعـة مسـتويات، ووفـق الخطة والمناهـج الموضوعين بأربـع سـنوات (يجتاز الطالب الصف بفصل دراسي واحد(، ويمكن مشاركة أعمال المنظمات بخطط تهدف إلى دعم التعليم داخل المنزل، يتمكن الطفل معها من تطوير قدراته الحسابية واللغوية الأساسية، بالاستعانة بأعضاء الأسرة القادرين على الإسهام في عمليات تعليم الكتب المناهج المُسرعة التي أعدتها منظمة (يونيسيف) .
ويمكن التفكير بوضع مناهج مبسّطة تصلح للتعلم الذاتي والمنزلي، وقد تكون حلًا مناسبًا لكثير من الأطفال في المناطق البعيدة عن المراكز السكانية، لكونها تسمح للطفل باستمرار علاقته بالعملية التعليمية. كذلك يمكن البحث بصورة جدية في أمر معاهد التدريب المهني والمدارس المهنية غير الخاضعة للتعليم النظامي، التي تتمتع بمرونة كافية تمكنها من استيعاب الطلبة من فئات عمرية متباينة، ووضع برامج مرنة تأخذ واقع المستهدفين/ الطلاب بعين الاعتبار، وتتمتع بمناهج تعليمية مختلطة، تضم صفوفًا لتعلم أساسيات اللغة والرياضيات، فضلًا عن صفوف تعليم بعض المهن المناسبة لسوق العمل، وتلبّي رغبات المتعلمين. فضلاً عن العناية بمعاهد تأهيل وتدريب ذوي الحاجات الخاصة/ الإعاقة، وهؤلاء يشكلون نسبة مرتفعة من المقيمين في مناطق الشمال الغربي والشرقي من البلاد. ولابد من التفكير بتوسيع مهمات التعليم غير النظامي، ليوفر فرصًا لفئات متنوعة من السكان الذين فاتهم قطار التعليم النظامي، وقد يشمل ذلك النساء النازحات والفتيان غير الملتحقين بالمدارس، والشباب المتعطلين عن العمل.
وحتى نتمكن من رؤية ثمار تلك الجهود، لا بدّ من وجود إدارة مدنية مركزية متخصصة تعتمد الحوكمة الإدارية، تقف خلفها، وتقود عمليات تنسيق خطط قطاعات التعليم المقترحة، وتأمين وحدة الأهداف على تنوعها، والعمل على تشبيك عمل المنظمات والمؤسسات التربوية الداخلية، مع المنظمات العالمية القادرة على تقديم العون بشأن الدعم المالي والفني لقطاع التعليم والتأهيل والتدريب من جهة أخرى. وعلى القوى المجتمعية الحية -حيثما كانت- السعي إلى تنبيه وتحذير الرأي العام الدولي لخطورة ما ينتظر السوريين وباقي الشعوب المجاورة، من أخطار وجود ملايين الأميين السوريين.