- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التنسيق الاقتصادي الجديد يوطّد الشراكة الاستراتيجية بين السعودية وباكستان
بين باكستان والمملكة العربية السعودية تاريخٌ طويل من العلاقات المتينة، حيث تعود روابط الدين والمصلحة المتبادلة إلى أربعينات القرن العشرين حين ساندت السعودية نضال المسلمين من أجل الاستقلال في شبه القارة الهندية. وتوطدت هذه العلاقة الثنائية على مر السنوات لتستحيل شراكةً استراتيجية تعزى في المقام الأول إلى أواصر الصلة المتنامية بين النخبة الحاكمة في كلا البلدين وإلى سياستهما الخارجية المتشابهة إزاء الأحداث الإقليمية والدولية كما وإلى تعاونهما في المجال الأمني. وما عزز هذه العلاقات أكثر بعد هو حاجة البلدين إلى التحالفات الإقليمية نظرًا إلى الاضطرابات التي تطبع منذ زمن طويل العلاقة بين السعودية وإيران وبين باكستان والهند، علمًا بأن التغيرات السياسية على الساحة الداخلية في كلا البلدين لعبت هي أيضًا دورها في مسار تطور هذه العلاقة.
ومع أن التنسيق كان في البداية محصورًا بالزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين السياسيين وكان متمثلاً باتفاقيات مبرمة بين الجانبين، إلا أنه تطوّر منذ ذلك الوقت ليشمل النخب العسكرية لديهما. وأصبح الأمن – وخصوصًا اتفاقية التعاون في مجال الدفاع التي أرسلت بموجبها باكستان مدرّبين في المجال العسكري والقوة الجوية إلى السعودية – جزءًا لا يتجزأ من العلاقة بين البلدين في أعقاب حرب 1967 بين العرب وإسرائيل. وتبلور هذا التقارب الاستراتيجي حين اصطفّ كلا البلدين مع الطرف نفسه خلال الانقسام السياسي العالمي الذي أحدثته الحرب الباردة وأصبحا من أهم الشركاء الأمنيين للولايات المتحدة، كلٌّ على جبهته الإقليمية الخاصة.
وبعد الثورة الإيرانية، جاء البروتوكول المبرم عام 1982 بشأن إيفاد عناصر القوات المسلحة الباكستانية والتدريب العسكري الباكستاني لتضفي طابعًا أكثر نظاميةً على التفاهم الأمني بين الطرفين، فمهّد الطريق أمام نشر نحو 15 ألف جندي باكستاني في المملكة. وأوجدت هذه الوفود على أرض الواقع رابطًا فريدًا بين المؤسسات الأمنية الباكستانية والعائلة الملكية في السعودية، مع العلم بأن هذه العلاقة المميزة أصبحت ظاهرة للعيان حين قام وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود بزيارةٍ إلى المنشآت النووية الباكستانية عام 1999- ليكون بذلك أول مسؤول أجنبي يقوم بمثل هذه الزيارة.
وجديرٌ بالذكر أن هذا العامل العسكري ساهم في بقاء الروابط العسكرية ضمانةً لاستقرار العلاقة بين البلدين متى ساد التوتر العلاقات بين الحكومتين. ومثالٌ على ذلك هو الفترة التي استلم فيها "حزب الشعب الباكستاني" سدة الحكم بين 2008 و2013. فقد كانت السعودية تعتبر هذا الحزب ميّالاً إلى إيران بشكل كبير، وكان واضحًا ارتياح القيادات السعودية لخروج الحزب من الحكومة ووصول نواز شريف – وهو رئيس حزب "الرابطة الإسلامية الباكستانية" الموالي للجيش – إلى سدة الحكم نظرًا إلى العلاقة التاريخية الجيدة بين الطرفين.
ومع القروض السخية التي قدمتها السعودية بقيمة 1.5 مليار دولار عام 2014، بدا أن حكومة نواز تنعم بدعم سعودي كامل. بيد أن العلاقات الثنائية تشنّجت العام التالي بعد رفض باكستان الانضمام إلى التدخل العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن. فإذا بالقيادة العليا في الجيش الباكستاني تلعب مجددًا دورًا محوريًا في إبقاء قنوات التواصل مفتوحة بين البلدين وفي التحاور مع صانعي القرار السعوديين. واتُّخذت آنذاك خطوتان حيويتان لتهدئة المخاوف السعودية، تمثلت الخطوة الأولى بتقديم الجيش الباكستاني كامل دعمه للمبادرة السعودية بإنشاء "التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب" وامتثاله للطلب السعودي بتسليم قيادة التحالف إلى قائد الجيش الباكستاني السابق الفريق أول رحيل شريف. وازداد هذا الدعم الظاهر قوةً مع اتخاذ الجيش قرارًا بإرسال المزيد من الجنود الباكستانيين بموجب اتفاقية العام 1982 لينضموا إلى 1600 جندي باكستاني متواجدين في المملكة. ومع أن هذه التدابير وضعت حدًّا للتوتر الحاصل بين البلدين، إلا أن الاضطراب بينهما لم يزُل.
هل يفتح عمران خان والأمير محمد بن سلمان صفحةً جديدة؟
الجدير بالملاحظة هو أن الطلب الذي وجّهته السعودية إلى باكستان للمشاركة في حملة اليمن شكّل التفاعل السياسي البارز الأول بين الجيل الجديد من صانعي القرار السعوديين وحكومة نواز شريف، مع العلم بأن نواز شريف أقام في الوقت نفسه علاقات وطيدة ودية وطويلة مع العائلة الحاكمة في قطر ومع الرئيس التركي أردوغان. ونتيجةً لهذا الواقع، دخل الفتور على العلاقة الثنائية بين البلدين. ومع تعاظم الضغط السياسي على نواز شريف بعد فضيحة "وثائق بنما"، باءت محاولاته لإقناع القيادات السعودية بالتدخل سياسيًا في باكستان بالفشل.
ومن هنا سجّل فوز عمران خان في الانتخابات الباكستانية التي أجريت في تموز/يوليو 2018 تجددًا في العلاقات السعودية الباكستانية. فقد عمد خان على الساحة الداخلية إلى تغيير طبيعة العلاقة بين الجانبين المدني والعسكري في البلاد عبر التعبير علنًا عن ثقته في الجيش. وإذ أدركت حكومة خان الجديدة أن البلد يعاني من ضيقة اقتصادية شديدة – ومن عناصرها عجزٌ في التمويل يفوق 12 مليار دولار – عادت لتتواصل مع حلفاء باكستان المعهودين، وبوجه خاص السعودية. وبما أن خان اختار السعودية لتكون محط زيارته الخارجية الأولى كرئيس حكومة، أكّدت هذه الزيارة الرغبة في إعادة بناء العلاقات مع المملكة. وفي الوقت نفسه، سعت باكستان إلى تعزيز هذه الدبلوماسية الشخصية فتوسّطت للقاء بين حركة "طالبان" والمبعوث السلام الأمريكي الخاص للسلام زلماي خليل زاد في أبوظبي لتسهم بذلك في إعادة السعودية والإمارات العربية المتحدة على حد سواء إلى قائمة الأطراف الفاعلة المعنية بعملية السلام في أفغانستان.
وبخلاف السياسيين الباكستانيين، ليس بين خان والمملكة أو الجيل الأقدم من أفراد عائلتها الحاكمة أي ماضٍ، والواقع أن هذا الأمر ساعده على إرساء علاقة جديدة ونابضة بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وكلاهما معروفان بتركيزهما على الحد من الفساد وإصلاح الحكم.
الشراكة الاقتصادية
تمثّل الركن الأساسي في هذه الشراكة الجديدة بإعادة النظر في العلاقة الثنائية بين البلدين بحيث تم تسليط ضوء أكبر على عناصرها الاقتصادية. وقد نجح خان في مباحثاته مع الجانب السعودي في ضمان حزمة مساعدات بقيمة 6 مليار دولار من السعودية لباكستان – وهذا المبلغ يفوق قيمة القرض الذي قدمته السعودية عام 2014 بأربعة أضعاف. وتشمل الحزمة المذكورة ثلاثة مليارات دولار مخصصة لدعم ميزان المدفوعات مع تسهيلات بالدفع المؤجل لسنة واحدة تصل إلى 3 مليار دولار مقابل الصادرات النفطية. وقد أثبتت هذه المساعدات فائدتها في التخفيف عن كاهل باكستان في أزمتها الاقتصادية الراهنة.
هذا وقد حدث تطورٌ أهم، وهو أن السعودية قررت ترسيخ وجودها في باكستان عبر إنشاء محطة تكرير للنفط بكلفة 10 مليار دولار في مدينة كوادر التي تتميز بموقعها الاستراتيجي الهام على الساحل الجنوبي الغربي من باكستان، علمًا بأن الصين هي من عملت على تطوير مرفأ هذه المدينة كجزء من الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. ومن شأن هذا الاستثمار أن يبدّل المشهد الإقليمي في مجالَي الطاقة والأمن. أضف إلى ذلك أن الجانب السعودي وافق على تمويل مشاريع توليد الطاقة إنما أبدى أيضًا اهتمامه في الاستثمار بمجالات البتروكيميائيات والتعدين والبناء وتوليد الطاقة والزراعة. ولا بد من ذكر خطوة جوهرية أخرى اتخذت بهذا الصدد، وهي إنشاء مجلس تنسيق يتولى الإشراف على تنفيذ تلك المشاريع، الأمر الذي أعطى هذا التعاون إطارًا مؤسسيًا.
تعزيز التعاون الأمني
مع ظهور هذا الاهتمام الجديد بالعلاقات الاقتصادية والاتفاقيات المالية، يبقى السؤال مطروحًا حول ما يمكن توقعه في مجال التعاون الأمني الذي لطالما احتل مرتبة مركزية في العلاقة بين البلدين. فكبار الضباط الباكستانيون لا يزالون على علاقة وثيقة بالأوساط الأمنية السعودية، حيث أن الرئيس الحالي لهيئة أركان الجيش الباكستاني الجنرال باجوا كان منتدبًا للخدمة في السعودية لثلاث سنوات في حين أن مدير وكالة الاستخبارات الباكستانية الجنرال عاصم منير تولى منصب الملحق العسكري في الرياض.
ومنذ صدور القرار السعودي بتقديم الدعم المالي لباكستان، توافد إلى البلاد الكثير من كبار مسؤولي الدفاع السعوديين، أوّلهم مساعد وزير الدفاع السعودي محمد بن عبدالله العايش، تلاه رئيس هيئة الأركان السعودية الفريق أول فياض بن حامد الرويلي. ويشار إلى أن هذا الأخير شارك في رئاسة جلسة اللجنة المشتركة للتعاون العسكري بين السعودية وباكستان إلى جانب رئيس لجنة هيئة الأركان المشتركة زبير محمود حيات – الذي تولّى رئاسة قسم الخطط الاستراتيجية في باكستان المعني بالإشراف على ترسانة البلاد النووية. وفيما أفادت التقارير عن تطرّق الاجتماع إلى كافة جوانب العلاقة العسكرية والوضع الأمني في المنطقة، قد تدل هذه الاجتماعات على توجّه نحو تنويع التفاعل الدفاعي بين باكستان والسعودية بما يضمن التعامل بشكل أشمل مع النظرة المتغيرة إلى مصادر التهديد في المنطقة.
ولكن الحدث الأهم في سلسلة اللقاءات هذه كان زيارة قائد الجيش الباكستاني السابق ورئيس "التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب" الفريق أول رحيل شريف إلى المملكة قبل أيام قليلة من موعد زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى باكستان. إبان عودته التي صادفت خلال تواجد ولي العهد في باكستان، التقى الفريق رحيل بقائد الجيش ورئيس الوزراء خان، ما أثار التكهنات بأنه أوصل رسالة من الجانب السعودي مفادها رفع درجة التزام باكستان بـ"التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب". وقد يعني ذلك إرسال كتيبة إضافية من الجنود الباكستانيين للعمل تحت راية التحالف والدفع لجعلها قوة تنخرط في العمليات الفعلية.
من الواضح أن العلاقة السعودية الباكستانية تشهد انبثاق نمط جديد يُدخل المبادرات الاقتصادية الاستراتيجية إلى روابطها التقليدية ذات التوجه الأمني. وهذه الحسابات الاستراتيجية الجديدة هي في جوهرها ثمرة العلاقة الشخصية التي نشأت مؤخرًا بين رئيس الوزراء خان وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ولكن في الوقت نفسه، يبدي كلا الطرفين اهتمامًا جديدًا بوضع العلاقة الثنائية في إطار مؤسسي وتجنب الاعتماد على الصداقة الشخصية بين الزعامتين للحفاظ على الروابط بين دولتيهما.
إن الفوائد المتبادلة التي يكتسبها الطرفان من هذا التبدل الجديد واضحة من عدة نواحٍ. فإرساء رابط استراتيجي مع باكستان يدعم المحاولات السعودية الآيلة إلى توسيع دورها وزيادة قدرتها على الاتكال على شركائها في الشرق نظرًا للصعوبات التي تواجهها مؤخرًا في علاقاتها بالعديد من دول الغرب. أما بالنسبة إلى باكستان، فإن توطيد علاقتها بالمملكة يعِد بمساعدة اقتصادية وسياسية هي بأمسّ الحاجة إليها. مع ذلك، وفيما تواصل باكستان تعميق علاقتها بالسعودية، ستتسبب عن غير قصد بتغيير علاقتها بالأطراف الفاعلة الأخرى في الشرق الأوسط. ولذلك فإن مساعيها الأخيرة كفيلة في النهاية بإحداث دينامية إقليمية جديدة ستكون صعبة على باكستان.