خلال زيارته إلى الولايات المتحدة التي استمرت أسبوعاً في أوائل أيار/مايو، تحدث رئيس "حكومة إقليم كردستان" مسعود بارزاني علناً وصراحة عن فكرة استقلال كردستان العراق. وبينما لم يعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن تأييده لهذه الخطوة، إلا أن ما قاله بارزاني يبقى أمراً مهماً. فمن خلال التحدث عن هذا الموضوع علناً، كسر بارزاني إحدى المحرمات القائمة منذ فترة طويلة والتي تصر على أن مناقشة موضوع استقلال كردستان يجب أن تجري وراء أبواب مغلقة لكي لا تُثير عداء حكومة بغداد المركزية أو الدول المجاورة. وتثبت كلمات بارزاني أيضاً أنه بات واثقاً أكثر من ذي قبل من أن المجتمع الدولي أصبح أكثر تقبلاً لفكرة استقلال كردستان بسبب الظروف الأخيرة المتغيرة في منطقة الشرق الأوسط.
وبعد أن كسر بارزاني للتقاليد، بدأ أيضاً العديد من المسؤولين الدوليين الرفيعي المستوى يشيرون علناً إلى دولة كردستان المستقلة. فبعد أيام من تصريح بارزاني العلني، وخلال زيارته إلى هنغاريا، عبر رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان عن دعمه العلني لاستقلال كردستان. كذلك، أوحى النائب السابق لصدام حسين، عزة ابراهيم الدوري، الذي يترأس اليوم الجناح البعثي في تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، بشكل غير متوقع بدعمه لإقامة دولة كردية خلال خطاب طويل. حتى إن أنور عشقي، اللواء السعودي المتقاعد والسفير السابق للسعودية في الولايات المتحدة، دعا في حزيران/يونيو إلى إقامة كردستان الكبرى التي تجمع أكراد تركيا وإيران والعراق وسوريا.
وإذ بات الحديث الصريح عن استقلال كردستان علنياً أكثر من أي وقت مضى، تبقى الآفاق والتحديات الواقعية لهذه الدولة غير واضحة. وفي الوقت نفسه، يطرح المشككون أو أولئك الذين يعارضون الفكرة كلية الكثير من الحجج التي تشكك في قابلية هذه الدولة على الاستمرار, وقد شملت هذه الحجج عدم امتلاك كردستان لمنفذ بحري، وبالتالي اعتمادها على الدول المجاورة، ورد الفعل تجاهها من تلك الدول، وخصوصاً تركيا وإيران، نظراً إلى المخاوف من أن استقلال كردستان سيشجع الانفصاليين الأكراد في بلديهما. وقد ذكر النقاد أيضاً اعتماد إقليم كردستان اقتصادياً على الحكومة المركزية في بغداد، وضعف قوات "البيشمركة" في منطقة "حكومة إقليم كردستان" الذي اتضح خلال حربها مع "داعش،" والخصومات الداخلية والفساد وغياب الخطاب المشترك، وهي كلها أسباب تعيق بناء الدولة. وعلى نطاق أوسع، يجادل النقاد بأن إنشاء دولة كردية سيزعزع الاستقرار في المنطقة، وأن الولايات المتحدة والكثيرين في المجتمع الدولي لن يدعموا استقلال كردستان، ذلك أن واشنطن ما زالت تلتزم بمبدأ وحدة العراق. وفي الواقع، ليس من الصعب إيجاد الأسباب التي تشير إلى استحالة قيام دولة عراقية.
ولكن بعد "الربيع العربي" وبروز "داعش،" تغيرت الحقائق السائدة في المنطقة بشكل جذري، وتغير معها الفهم الدولي للشرق الأوسط. إن الكثير من هذه الاعتراضات التي أثيرت على إقامة دولة كردية لم يعد ينطبق على المنطقة الكردية اليوم. أما الأمر الثابت فهو التزام الشعب الكردي في العراق بهدف إقامة الدولة الكردية المستقلة الذي يسعى إلى تحقيقه منذ عقود.
لقد ضعف الكثير من الحواجز الجغرافية أمام استقلال الأكراد، وسوف لن تكون كردستان الدولة غير الساحلية الأولى التي تستمر وتبقى صامدة. فسويسرا والنمسا وهنغاريا ليست إلا الأمثلة الأكثر نجاحاً بين 48 دولة غير ساحلية في العالم.
صحيح أن تركيا وإيران عارضتا استقلال كردستان العراق في السنوات الماضية، ولكن مواقف هاتين الدولتين الضمنية تجاه إقليم كردستان قد تغيرت. ويبدو الآن أن كلا الدولتين تتقبلان ضمنياً مبدأ إقامة دولة كردية منفصلة عن العراق. وعلى وجه الخصوص، سرّعت تركيا بشكلٍ خاص استقلال الأكراد اقتصادياً عبر السماح بإنشاء خطوط نفط وغاز بين كردستان وتركيا بمعزل عن سيطرة بغداد. كذلك، تعززت المشاريع الاقتصادية المشتركة بين البلدين، فبات عدد العاملين الأتراك في كردستان يبلغ 100 ألف، وتفوق قيمة التجارة الثنائية السنوية بينهما 8 مليار دولار. وتقدم السياسة التركية إشارات حول الاعتراف الصريح باستقلال كردستان: فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أخيراً أن استقلال الأكراد في العراق مسألة عراقية داخلية وأن تركيا سوف تبقى على الحياد. وهذا التصريح بعيد كل البعد عن موقف الحكومة التركية الصارم سابقاً بدعم وحدة العراق.
أما إيران، فبينما قد تسعى إلى استخدام وكلائها في المنطقة لمنع قيام دولة كردية مستقلة، إلا أن الجمهورية الإسلامية نفسها ستتجنب على الأرجح شن حرب تقليدية ضد إقليم كردستان إذا أعلن استقلاله. إن قيام دعم تركي محتمل لدولة كردية يجعل ذلك حتى أكثر احتمالاً. وبالتالي، يبدو أن كردستان قد تستعيد موقعها التاريخي كمنطقة عازلة بين هذين العملاقين.
وفي ما يخص المخاوف العسكرية، فإن البروز المفاجئ لـ "داعش" هدد إقليم كردستان وكشف ضعفه العسكري، ولكنه أفضى أيضاً إلى بعض الفوائد لقضية الاستقلال الكردي. فانهيار الجيش العراقي في مواجهة تقدم "داعش" في حزيران/يونيو 2014 سمح لإقليم كردستان بالسيطرة على العديد من المناطق المتنازع عليها، بما في ذلك منطقة كركوك الغنية بالنفط. وعلى الصعيد الوطني، فإن الصراع ضد "داعش" عزز كثيراً الشعور القومي الكردي وأوحى بأن استقلال كردستان ضرورة ملحة. وبحسب الخبير الكردي الدكتور ناهرو زاغروس، فإن ارتباط الإسلام المتطرف الأخير بـ"داعش" عزز الاتجاهات العلمانية في المجتمع الكردي. ونتيجة لذلك، لم تحصل الأحزاب الإسلامية سوى على 16 في المائة من الأصوات في الانتخابات النيابية التي جرت عام 2013.
وبالرغم من الانتقادات التي توجه إلى فعالية قوات "البيشمركة،" أثبتت كردستان صلابتها عندما أصبحت قواتها الحصن الوحيد في مواجهة "داعش" بعد انهيار الجيش العراقي الكبير والمجهز بشكل جيد. وبدوره، أثر أداء إقليم كردستان العسكري إيجابياً على مكانته الدولية، فاكتسبت كردستان سمعة كقوة موالية للغرب تضمن الاستقرار. ونتيجة لذلك، بدأت الكثير من الدول، وخصوصاً الأوروبية منها، ببناء علاقات دبلوماسية واقتصادية أكثر متانة مع إقليم كردستان بمنحه دعماً عسكرياً مباشراً وغير مباشر. وبالطبع، أثر هذا الاحترام المستجد بشكل طبيعي في وتيرة الحديث عن استقلال الأكراد في المنتديات الدولية وفي نبرته.
وبينما يبدو أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بصورة عامة وعائلة بارزاني بصورة خاصة مصممين على تحقيق الاستقلال عاجلاً وليس آجلاً، الإ أن هذا الهدف ما زال يواجه بعض العقبات التي لم تحلها بعد المتغيرات في الشرق الأوسط. ولعل أكثر هذه العقبات خطورة يتمثل في السجالات الحالية التي يواجهها "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهو أكبر فصيل في إقليم كردستان، بسبب احتمال تجديد ولاية الرئيس مسعود بارزاني بعد انتهائها في آب/أغسطس. وترفض المعارضة الكردية المؤلفة من "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة التغيير الكردية" والحزبين الإسلاميين هذا التجديد. وفي الوقت نفسه، يجب أن تعالج "حكومة إقليم كردستان" أيضاً المسائل المتعلقة بمشروع الدستور الذي بات في مرحلته الأخيرة والذي يجب إجراء استفتاء حوله للمصادقة عليه ومن شأنه أن يوفر إجراءات واضحة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
ويمثل دعم إدارة أوباما المستمر لوحدة العراق عثرة خارجية أمام الأكراد. ولكن ليس بإمكان الإدارة الأمريكية وقف الزخم الذي يسود في كردستان، وقد تضطر إلى التأقلم مع التطورات على الأرض. علاوة على ذلك، من الممكن أن تغير الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة السياسة الأمريكية تجاه استقلال كردستان.
وبالتالي، يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن [دولة] كردستان المستقلة قد تتغلب على العقبات التي تحول دون أن تصبح حقيقة واقعة. ويصف مسرور بارزاني، ابن مسعود بارزاني ورئيس جهاز الاستخبارات في إقليم كردستان العراق، الانفصال المتوقع على النحو الآتي: "نحن لا نضغط باتجاه الانشقاق بالقوة، بل نتحدث عن انفصال ودي". أما حول مسألة التوقيت، فقد شدد الرئيس مسعود بارزاني على أن عملية إقامة دولة كردستان المستقلة "آتية لا محالة" وأنها "لن تتوقف ولن تتراجع أي خطوة إلى الوراء." وتحدث رئيس الوزراء نيجيرفان بارزاني عن الاستقلال بعبارات أكثر دقة، واضعاً إطاراً زمنياً له من 5 إلى 6 سنوات، ومؤكداً أن الدولة العراقية غير موجودة أساساً لكي تنفصل كردستان عنها، لأن العراق دولة فاشلة. أما سيروان بارزاني، وهو قائد عسكري وابن أخ الرئيس مسعود بارزاني، فقدم التقييم الأكثر جرأة، قائلاً "إننا سنحصل على استقلالنا في غضون عامين."
وفي حين أن التوقيت غير واضح والعقبات لا تزال كبيرة، ولكن أمراً واحداً هو مؤكد: العودة إلى أحضان بغداد لم يعد خياراً للأكراد.
الأستاذة عوفرا بينغيو رئيسة برنامج الأبحاث الكردية في جامعة موشيه دايان في تل أبيب، وقد صدرت لها ثلاثة كتب عن الأكراد.