- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التظاهرات احتجاجًا على مقتل مهسا أميني: نقطة تحول في إيران
رغم مساعي النظام الإيراني لقمع الاحتجاجات التي اندلعت في الآونة الأخيرة، سرعان ما انتشرت رقعتها لتطال كل زاوية من زوايا الجمهورية الإسلامية، فتصبح الحدث الأهم الذي تشهده إيران منذ أكثر من أربعة عقود وتكون نقطة تحول محتملة في مستقبل البلاد.
موجة الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في أعقاب الوفاة المأساوية للشابة الإيرانية-الكردية مهسا "جينا" أميني بينما كانت في عهدة شرطة الأخلاق في إيران، استقطبت اهتمام العالم بسرعة فائقة. وبعدما اعتُقلت لانتهاكها المزعوم لقاعدة ارتداء الحجاب في إيران، سلّط مقتل أميني بشكل كبير الضوء على المسائل الداخلية المستفحلة والاحتجاجات الشعبية في البلاد في وقت كان العالم يصب تركيزه على موضوع برنامج إيران النووي وسياساتها الإقليمية.
وبعد انتفاضات "الربيع العربي" التي انطلقت في 2011 بهيمنة سنّية، يمكن أن تشير هذه الاحتجاجات إلى موجة جديدة إيرانية لـ"ربيع شيعي" كان غمر العراق ولبنان خلال السنوات القليلة الماضية. وفي الوقت نفسه، يمثل هذه الحراك استمرارًا لسلسة من الاحتجاجات المحلية في إيران كانت قد اندلعت خلال العقدين الماضيين وازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ في السنوات الخمس الماضية.
وبما أن التغييرات في السياسة الداخلية في إيران يمكنها أن تؤثر مباشرة على سياسات العديد من الأماكن الأخرى في المنطقة، وبخاصةٍ العراق، يتبادر السؤال الأساسي التالي إلى أذهان الجميع: ما هو مصير هذه الاحتجاجات؟
هل ستكون الاحتجاجات نقطة تحول؟
تأتي الاحتجاجات الحالية في إيران بعد أكثر من عقد على انتفاضات "الربيع العربي" التي مزقت العالم الإسلامي، حيث حضت على تغيير أنظمة في بعض البلدان واندلاع حروب أهلية معقدة وطويلة في بلدان أخرى. لكن منذ العام 2018، طالت موجة مختلفة من الاحتجاجات الشعبية لبنان والعراق والآن إيران – وهي احتجاجات ربما تشير حقًا إلى انهيار النخبة الشيعية الحاكمة في المنطقة، تمامًا كما شكّل "الربيع العربي" إلى حدّ كبير انهيار النخبة السنية الحاكمة.
في لبنان، أضعفت الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية بشكل ملحوظ مكانة "حزب الله" وحلفائه في الانتخابات الماضية التي شهدتها البلاد. وفي العراق، تستمر الاحتجاجات منذ 2019، وسط اشتداد حدتها مؤخرًا في "المنطقة الخضراء" بعد "انسحاب" رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر من الحياة السياسية.
أما في إيران، فقد أدى وجود قوات على غرار "الحرس الثوري الإسلامي" لغاية الآن، إلى صعوبة تنظيم احتجاجات مماثلة على نطاق واسع. وبالفعل، تمسك النظام بالسلطة رغم تنامي المشاعر المناهضة له والتظاهرات خلال السنوات القليلة الماضية. ولكن منذ الآن فصاعدًا، يتحدث بعض قادة إيران المحافظين، على غرار الرئيس إبراهيم رئيسي، عن ضرورة تغيير طريقة العمل ومنح الشعب المزيد من الفرص والحق في التظاهر والانتقاد حيث قال: " ما هو الضرر في إنشاء مراكز في الجامعات والمعاهد العلمية ودوائر الحوار للنقد وحتى للاحتجاج على القرارات ؟ وبالمثل، وعد رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، بالتحقيق في وفاة جينا وإجراء بعض الإصلاحات على القوانين المتعلقة بمسألة الحجاب. ربما يكون ذلك الخطاب بمثابة محفز لتهدئة الشعب الساخط ويتماشى في الوقت نفسه مع اللغة الجديدة في خطابات مسؤولي طهران التي أدلوا بها بضغط من الاحتجاجات.
لكن الموجة الجديدة من الاحتجاجات في إيران تختلف من حيث الحجم وتركيبة المقاومة الداخلية، ما يشير إلى أنها قد تحقق نتائج مختلفة. والأهم أن هذه الاحتجاجات تحيد عن ثلاث فئات عامة كانت طبعت الاحتجاجات الإيرانية خلال العقدين الماضيين: منظمة من قبل الطبقة الوسطى ومتمحورة حول موضوع معين ومحدودة جغرافيًا.
ويمكن اعتبار النوع الأول من تظاهرات العقدين الماضيين على أنه احتجاجات الطبقة الوسطى حيث ركزت المطالب على توفير المزيد من الديمقراطية والحرية ضمن النظام الإيراني. ومن بين الأمثلة عليها، الاحتجاجات الطلابية في حزيران/يونيو 1999 ضد إغلاق صحيفة "السلام" التي كانت مقرّبة من الإصلاحيين والتي اندلعت في مواقع مهمة كطهران وتبريز وأصفهان. كذلك، برزت الحركة الخضراء على مقربة من منتصف العام 2009 احتجاجًا على النتائج المعلنة للانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية، وبعد مرور عام تقريبًا كانت الاحتجاجات عمّت أكثر من 39 مدينة ومحافظة في إيران. وعلى الرغم من أن الحركة ظهرت من جديد بطريقة محدودة أكثر خلال السنوات اللاحقة، استمرت الاحتجاجات بوتيرة محدودة خلال العام التالي. وكانت انطلقت بشكل رئيسي من اعتقاد الناخبين أنه لم يتمّ احتساب أصواتهم أو حتى تمّت سرقتها خلال الإعلان عن النتائج.
في المقابل، ركز النوع الثاني من التظاهرات في إيران، الذي تكثف منذ 2018، على موضوع محدد. فقد اندلعت تلك الاحتجاجات في سياقات جغرافية محددة وركزت على مصدر قلق حاسم واقتصادي عمومًا. وانطلاقًا من مجال تركيزها هذا، اعتُبر أفراد الطبقة العاملة ممثلين لهذه الحركات. وقد شملت تظاهرات 2017 ومطلع 2017 احتجاجًا على النفقات المعيشية التي ازدادت في عهد حكومة حسن روحاني، ويبدو أنها اندلعت في المقام الأول بتشجيع من القسم المحافظ للسياسة الإيرانية. وتندرج أيضًا ضمن هذه الفئة، الاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود في 2019، التي عُرفت باحتجاجات نوفمبر الدموية، واعُتبرت الأكثر عنفًا. فضلًا عن ذلك، خرجت تظاهرات احتجاجًا على نقص المياه في خوزستان ولاحقًا في أصفهان عام 2021، إلى جانب الاحتجاجات على ارتفاع أسعار الخبز في 2022.
إلا أن الموجة الأحدث للاحتجاجات الإيرانية في أعقاب مقتل مهسا أميني في 17 أيلول/سبتمبر 2022 تتسم بميزات فريدة مقارنةً بالنماذج السابقة. فهي تمثل تنوعًا جغرافيًا وإثنيًا واقتصاديًا يطال كافة قطاعات المجتمع الإيراني. وتبرز النساء اللواتي يتجاوز عددهن الأربعين مليون في إيران، إلى جانب الشريحة الشبابية في البلاد، في الصفوف الأمامية لهذه الاحتجاجات التي تدعم شبكة واسعة من الجماعات الشعبية والتجمعات السياسية داخل إيران وخارجها. كذلك، تمثل هذه الاحتجاجات نقطة تحول بفضل طبيعة المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعلو شعاراتها، على غرار "امرأة.. حياة.. حرية"، "لا نريد الجمهورية الإسلامية"، "سأقتل من قتل أختي"، "الموت للديكتاتور، الشاه أو آية الله"، "كلنا مهسا، كلنا في هذه المواجهة معًا." إلى ذلك، تدل مشاركة الطبقة العليا في التظاهرات على قدرة هذا التحرك الاحتجاجي على توحيد الجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة في إيران حول هدف واحد. كما أصبحت الاحتجاجات الحالية رمزًا لخوف الشعب من قمع الحكومة، سواء قبل الاحتجاجات أو حملة القمع المنفذة حاليًا ضد الحركة الاحتجاجية. بدوره، استجاب المجتمع الدولي لأحدث موجة احتجاجات بطريقة جديدة مقارنةً بتجاوبه الخجول في الماضي، حيث أصدر بيانات تضامن مع المحتجين في إيران. في الموازاة، زعمت إيران أن "يدًا خارجية" وشبكة واسعة من التعاون الخارجي تقفان وراء التظاهرات.
وخلال الأيام العديدة الماضية، استهدفت بالطائرات المسيرة والصواريخ مقرات أحزاب المعارضة الكردية في "إقليم كردستان العراق" وبعض الأهداف المدنية، بما فيها المدارس، متسببةً بمقتل مدنيين. إلا أن عددًا من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمة تقف خلف هذا التحرك الاحتجاجي الأخير.
فهم الاستياء الداخلي في إيران
يتمثل السبب الأول في وجود فجوة عمرية كبيرة بين معظم الإيرانيين والأيام الأولى من الثورة الإيرانية. فنحو 85 في المائة من الشعب الإيران هو ما دون الخامسة والخمسين من العمر، من بينهم 41.2 في المائة ضمن الفئة العمرية التي تتراوح بين 15 و39 عامًا. حتى أن الذين يبلغون الخامسة والخمسين كانوا في الثانية عشرة من العمر حين استلمت الحكومة الإسلامية السلطة. وعليه، فإن فرض أسلوب حياة معين وفق التوجهات الدينية لا يتناسب وأسلوب حياة ومعتقدات هذا الجيل الجديد الذي يشكل جزءًا كبيرًا من إجمالي عدد السكان. كما ثمة فجوة كبيرة بين معايير هذا الجيل الجديد وتلك التي تدعي الحكومة الإسلامية أنها مشروع الحزب الإسلامي والحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والعالم الإسلامي. ففي حين بذلت الجمهورية الإسلامية جهودًا حثيثة لفرض هذه التوقعات محليًا وفي الخارج لأكثر من أربعين عامًا، تبرز العديد من الأمثلة اليومية على كيفية فشلها في غرس هذه الإيديولوجية في عقول الشباب الإيراني.
وتضاف إلى هذه الضغوط المصاعب المستمرة والمشاكل الاقتصادية التي تثقل كاهل الشعب الإيراني. فاستنادًا إلى بعض الإحصاءات، يعيش واحد من أصل خمسة إيرانيين تقريبًا في فقر. وناهيك عن الجماعات السياسية المنشقة في الخارج، مرّ أكثر من عقدين على الصراع السياسي في أوساط النخبة الإيرانية الحاكمة، حتى بين الإصلاحيين والمحافظين، ولو أن النزاعات بين المحافظين برزت بشكل مختلف. فعلى سبيل المثال، إن الخلافات بين محمد خاتمي ومحمود أحمدي نجد وحسن روحاني، وهم ثلاثة من الرؤساء الإيرانيين السابقين، والمرشد الأعلى علي خامنئي، لا تخفى على أحد.
يُذكر أن وسائل الإعلام تناولت عدة مرات أخبارًا عن أن المرشد الأعلى البالغ من العمر 83 عامًا ليس بصحة جيدة. وقبل بضعة أشهر، قال مير حسين موسوي، أحد زعماء الحركة الخضراء في إيران، في خطاب إن نجل المرشد الأعلى مجتبى خامنئي قد يخلفه. مما لا شك فيه أن الأخبار بشأن تدهور صحة المرشد الأعلى أو حتى وفاته سيكون لها تأثير كبير في رفع معنويات الشعب وطاقته على المشاركة بشكل أكبر من الاحتجاجات.
إلى ذلك، تعيد الأزمة الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية والصراعات الداخلية في أوساط الطبقة الحاكمة الإيرانية إلى الأذهان نهاية الاتحاد السوفياتي. بالطبع، ليس من المسلمات أن تؤدي موجة الاحتجاجات الجديدة هذه، وكيفية اختلافها عن التحديات السابقة للنظام السياسي الحالي، إلى تغيير النظام بكامله على الفور سواء من خلال ثورة أو تغيير جذري. فطهران لا تزال تملك قوات أمنية وعسكرية على غرار "الباسدران" (الحرس الثوري الإيراني) أو قوات ميليشيات وكيلة أخرى حاضرة لمواجهة المحتجين المدنيين وقمعهم. لكن الواضح أن تغييرًا قد بدأ، ففي مواجهة قمع الحكومة المتكرر على مرّ السنين، أصبح الإيرانيون بدورهم مدركين لضرورة التظاهر على نحو متكرر وعنيف.
وكانت التجربة السابقة أظهرت أنه حتى في ظل وجود حملة قمع شاملة للمتحجين في إيران، كما حصل خلال تشرين الثاني/نوفمبر الدامي 2019 حيث لقي ما يصل إلى 1500 شخص حتفهم في أقل من أسبوعين، فإن الاحتجاجات ستعود من جديد. حتى أن وجود الأجهزة الأمنية الكبيرة لم يعد يمثل تهديدًا كافيًا على ما يبدو لمنع انتشار الاحتجاجات والتظاهرات ضد طهران. فإما ستضطر الحكومة بنفسها إلى استحداث إصلاحات للنظام بطريقة مدروسة، أو ستبقى محفزات الاستياء الشعبي قائمة وغير معالجة، حيث من الممكن أن تندلع الاحتجاجات ضدها بأحجام أكبر وفي أي لحظة – ما يعزّز السخط ويؤدي في نهاية المطاف إلى انتفاضة واسعة النطاق.