- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الواقع الصعب للمنظمات الأهلية في العالم العربي
11 ديسمبر/ كانون الأول 2017
شهدت المنظمات الأهلية في العالم العربي تطورا كبيرا في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث تم تعديل القوانين والتشريعات المنظمة للمنظمات غير الحكومية، وذلك بإشراك تلك المنظمات في صياغة هذه القوانين، الشيء الذي انعكس إيجابا على تطورها؛ فعرفت نموا وازدهارا في ظل الحرية النسبية التي صارت تنعم بها في العديد من الدول العربية، مثل: مصر، والأردن، والمغرب، والبحرين.
ولعل عجز الحكومات العربية عن تلبية المطالب المتزايدة لشعوبهم اقتصاديا واجتماعيا وصحيا وثقافيا، كان من أبرز العوامل التي أدت إلى ظهور العديد من هذه المنظمات الأهلية، والتي جاءت لتدارك هذا العجز. ناهيك عن عوامل أخرى، في مقدمتها تزايد معدلات التعليم وتطور وسائل الاتصالات. غير أنه وارتباطا بالتطورات السياسية التي شهدتها المنطقة، بفعل الثورات والحروب الأهلية وتزايد العنف والإرهاب، فإن المجتمع المدني خلال السنوات القليلة الماضية، عرف انتكاسة كبرى، كانت وراءها مجموعة من القوانين التي صاغتها الحكومات للحد من حريات المنظمات الأهلية، فتراجع تمويلها الدولي والمحلى، مع تعرضها لحملات التشويه الإعلامي المنظم والاستهداف الأمني.
لقد عملت الحكومات الحالية بالعالم العربي على توظيف القوانين كأداة لقمع وتقييد عمل المنظمات الأهلية، حيث تم إعداد ترسانة كبيرة من القوانين المحلية التي صممت خصيصاً لاستهدافها، وخاصة المنظمات التي تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والتي صارت خاضعة لمراقبة الأجهزة الأمنية، والتي وفرت بدورها للحكومات معلومات مفصلة عن مصادر تمويلها. والأكثر من ذلك، فهناك قوانين تُجيز للسلطة حل الجمعيات وإخضاعها للتحقيق، بل، وإصدار أحكام بالسجن على العاملين فيها.
وبالنظر إلى الحالة المصرية، فقد وافق مجلس النواب في نوفمبر عام 2016، على إصدار قانون رقم 70/2017 لتنظيم عمل الجمعيات، والذي قضى عمليا على أنشطة المنظمات الأهلية. إذ أن هذا القانون الجديد يتضمن عقوبات تصل إلى السجن خمس سنوات وغرامة مالية في حال مخالفة أحكامه، كما أنه يحظر على المنظمات القيام بأعمال ميدانية أو استطلاعات دون تصريح، ويمنعها من التعاون بأي شكل من الأشكال، مع الهيئات الدولية دون الحصول على الموافقة اللازمة.
وأما في الأردن، ينص القانون (رقم 22/2009) على إجراء مسح أمنى على كل الأعضاء في مجالس إدارات الجمعيات، كما يخول لوزارة التنمية الاجتماعية حل مجلس إدارة أي جمعية، أو حتى حلها هي نفسها.
وأما في المغرب، فإن المنظمات الحقوقية تعاني من مضايقات قانونية، بما في ذلك تقييد حرية السفر، كما أنها تعاني من عراقيل جمة في إجراءات تسجيل الجمعيات التي تعمل على ملفات العدالة، أو تلك التي تدافع عن حقوق المهمشين. وفي البحرين، يخول لوزارة التنمية الاجتماعية رفض تسجيل أي جمعية ترى في أنشطتها نوعا من التبني لأنشطة جمعيات أخرى سابقة. كما أن المرسوم رقم 21 لعام 1989 (بصيغته المعدلة في عام 2002)، يسمح للحكومة بسجن أو فرض غرامة على الأشخاص الذين يعملون لدى المنظمات غير المسجلة.
ساهمت الهيمنة الحكومية على المنظمات الأهلية في ظهور نوع فريد من المنظمات، يطلق عليها منظمات الجونجو (GONGO) أو “المنظمات الأهلية التي تنظمها الحكومة"، وتنعم تلك المنظمات بدعم من النظام، بل، وتشرف السلطات على تعيين العاملين فيها.
وبالطبع، فإن هذه المنظمات تبقى شكلية وغير فعالة، وغالبا، ما تتهرب من الانكباب على الملفات الحقوقية الكبرى التي تكون فيها السلطات هي المتهم الأول بالانتهاكات. بل إنها تمارس الرقابة الذاتية على نفسها، حتى تُرضِي تلك السلطات.
ومما لا يثير الدهشة، أدت تلك القيود القانونية والهيمنة الحكومية إلى تدهور أداء المنظمات، وإلى الحد من نموها وتطورها، مما ساهم في تراكم الملفات والقضايا الحقوقية.
وفى ما يخص مسألة التمويل الدولي، فإن الحكومات العربية تولي لها أهمية كبرى، إذ تسهر على تتبع الاتصالات بين المنظمات الأهلية ونظيراتها الدولية، وتعمل دوما، على الاحتفاظ بخيار الموافقة أو الرفض، على الشراكات الرسمية بين المنظمات الأهلية ونظيراتها الدولية. ولذلك، فإن القوانين المنظمة للجمعيات تحظر حصولها على أي تمويل خارجي، ما لم يتم بموافقة السلطات، وإلا قد يتعرض العاملون في تلك المنظمات لعقوبات سجنية أو لغرامات مالية، إلى جانب إمكانية حل الجمعيات المعنية.
وقد أدت تلك القيود إلى تجفيف منابع التمويل لكثير من الجمعيات التي لا تحظى برضى السلطات. ففي مصر، قد تتعرض المنظمات الأهلية التي قد تحصل على تمويل دون موافقة مسبقة من الحكومة لعقوبة بالسجن لمدة تتراوح ما بين سنة وخمس سنوات، وغرامة مالية تتراوح ما بين خمسون ألف جنيه ومليون جنيه.
وفي الأردن، واستنادا لقرار مجلس الوزراء الصادر عام 2017، فأن متطلبات وقواعد قانون مكافحة غسل الأموال وقانون تمويل مكافحة الإرهاب لعام 2007، ستطبق على المنظمات الأهلية. ونتيجة لذلك، فإن المنظمات التي لا تمتثل لهذا القرار ستكون عرضة لعقوبات مختلفة تشمل الاحتجازـ أو تعليق أنشطتها أو فرض عقوبات مالية عليها. وفي البحرين، تقوم وزارتي العدل والداخلية بفحص مصادر التمويل الدولية، وترفض السلطات الموافقة على تمويل بعض الجمعيات في بعض الأحيان.
أما بالنسبة التمويل المحلى، فإن واقع الأمر يؤكد على أن أغلب تلك المنظمات الحقوقية بالعالم العربي؛ تعمل في بيئة سياسية مقيدة، أفرزتها أنظمة متسلطة، لا ترحب بفكرة حقوق الإنسان، أو حتى بالحديث عنها، والأكثر من ذلك، فإنها تعمل بشكل منظم ومدروس على ترويض وتقييد تلك المنظمات، بل، واتهامها في كثير من الأحيان بالخيانة والعمالة لحساب جهات خارجية، بحثا عن ذريعة تمكنها من إغلاق مكاتبها.
وفى ظل هذا الوضع المزرى، تبرز أزمة التمويل المحلى أو الوطني، حيث لا يمكننا أن نتوقع من رجال الأعمال الذين تربطهم مصالح شخصية مع الدولة؛ أن يبادروا بتمويل برامج ومشروعات حقوقية، تطالب بدعم الديمقراطية والحريات، أو تناهض الفساد والتعذيب.
ومع ذلك، لا ننكر وجود استثناءات محدودة، إذ أن هناك العديد من المنظمات الأهلية الناجحة في قطاع التنمية والخدمات الصحية والاجتماعية والبيئية والعمل الخيري. ونظرا لأن تلك المنظمات لا تتبنى مشروعات وملفات حقوقية، لا يجد رجال الأعمال غضاضة في تمويلها، بل إن دعمهم المادي هذا، بمثابة خطوة عملية عن تفاعلهم مع المجتمع الذي تعمل فيه شركاتهم، وتعبيرا حقيقيا عن التزامهم بمبدأ المسؤولية الاجتماعية؛ مما يرفع من سقف منافعهم الاقتصادية.
تقوم السلطات في العالم العربي بتوظيف المنافذ الإعلامية الموالية لها؛ لشن حملات تشويه منظمة ضد الجمعيات، تصمها بالعمالة للخارج، وتتهمها بالسعي لتقويض الاستقرار. وقد ساهم الإعلام في بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة في تشكيل رأى عام معادٍ ومشكك في عمل تلك الجمعيات؛ مما أفقدها العديد من الدعم الشعبي.
ففي مصر، اتهمت أجهزة الإعلام الرسمي والخاص المنظمات الحقوقية بالتآمر على مصلحة البلاد وتمويل المخربين، وهو ما عكسه القضاء المصري في حيثيات القضية رقم 173 لسنة 2011، حيث وصف القاضي المنظمات المتهمة في قضية التمويل الأجنبي ب “الاستعمار الناعم". وهناك أيضا، استهداف منظم للمنظمات من قبل الأجهزة الأمنية، يتمثل في العمل المبيت على إفساد أوراش العمل التدريبية والمؤتمرات التي تعقدها تلك الجمعيات، بل والتحرش بالعاملين فيها، وإن اقتضى الأمر، القيام بمحاولات تجنيدهم.
وختاما، فإن توافر بيئة سياسية صحية ومستقرة؛ هو المفتاح الأساس لقيام مجتمع مدني قوي ومؤثر. ففي ظل الصراعات التي تعصف بالمنطقة والحروب الأهلية التي تمزقها، لا يمكن أن نتوقع قيام المنظمات الأهلية بدور بارز، باستثناء بعض المنظمات الحقوقية التي تعمل على توثيق الانتهاكات في الدول التي تمر بحروب أهلية، والتي تشهد عنفا سياسيا، مثل: سوريا، واليمن، وليبيا.
أما الدول التي تتمتع باستقرار سياسي نسبي؛ فهي محكومة من طرف أنظمة متسلطة، لا تتقبل فكرة العمل الحقوقي، وكلما تم انتقادها بسبب ملفها الحقوقي السيئ؛ سارعت إلى التذرع بفزاعة الإرهاب، وخرجت علينا بمصطلحات جديدة وغريبة، مثل تلك التي خرج بها الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، حين صرح بأن "محاربة الإرهاب هي حق من حقوق الإنسان".
لذلك، فإن القيود الأمنية والقانونية والتحريض الإعلامي وندرة التمويل التي تفرضها الدولة على تلك المنظمات الأهلية؛ هي السبب الرئيس في تراجع فاعليتها، فكيف نتوقع أن يكون هناك، مجتمع مدني قوي في ظل سلطة حكومية تتحكم في إدارته، وتستطيع تجفيف مصادر تمويله.
ومن ثم، يتوجب على المنظمات الأهلية في العالم العربي أن تعمل سويا، وتشارك في الضغط على الحكومات لدفعها إلى الالتزام بالمواثيق والعهود الدولية التي صادقت عليها تلك الدول، والتي تقر بحرية العمل المدني. وهناك أيضا حاجة لتوفير دعم دولي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية للضغط على الحكومات العربية؛ ودفعها إلى إلغاء القوانين المقيدة للمجتمع المدني والتي تحول دون تقدمه وحريته وفاعليته.