- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الوحدة تبدأ وتنتهي مع المبادرات التعليمية في شمال سوريا
على مدى سنوات، شكّل التعليم التقدمي حجر الأساس في منطقة الإدارة الذاتية شمال سوريا، لكنه اليوم أصبح واحدًا من بين عدة عوامل تعيق الوحدة الإقليمية.
جلست جيهان محاطةً بأطفالها في منزل علا سقفه واقتصرت غرفه على واحدة في مدينة القامشلي شمال سوريا. كان ابنها ميران في الصف الثاني في مدرسة تابعة للنظام السوري داخل هذه المدينة الكردية حيث يتمتع النظام بحضورٍ راسخ وثابت بالرغم من وقوعها ضمن منطقة الإدارة الذاتية.
وكانت كتب ميران المدرسية مبعثرة أمامنا: كتاب للّغة الإنجليزية، وآخر للتربية الإسلامية، وآخر للرياضيات، وعدة كتب أخرى زُخرف غلافها الأمامي بعلم الجمهورية العربية السورية. بدت صفحات الكتاب منهكةً من جرّاء تمريرها على مدار السنوات من عائلة إلى أخرى هنا.
حين أرادت جيهان اختيار مدرسة لأولادها، كان أمامها خياران: إما المنهج العربي المعتاد للنظام السوري، أو منهج الإدارة الذاتية الجديد باللغة الكردية، علمًا بأنه يتوفر خيار ثالث في بعض المناطق الأخرى، وهو منهج صندوق الطوارئ الدولي للأطفال التابع للأمم المتحدة الذي يدرَّس في دير الزور وحلب وعدة مناطق أخرى في الشمال الشرقي، والمعترف به من النظام السوري.
فكانت مدرسة النظام السوري في القامشلي خيارًا سهلاً لجيهان، بالرغم من كونها كردية. وقالت لي: "التعليم مفيد جدًا. ولكن هنا في القامشلي، لدينا مناهج كردية وعربية، وأنا بصراحة أفضّل المنهج العربي. فكل جامعات دمشق عربية. وكل الناس يعتبرون المنهج الكردي صعبًا مع أنهم يريدون أن يتحدث أطفالهم بعدة لغات، وهذا أمر جيد لهم. لكنه صعب".
ومن هذا المنطلق، كانت طالبة الصف الرابع وابنة جيهان المدعوة روهات قد انتقلت للتو من المدرسة الكردية التابعة للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا.
وحيث أن الإدارة الذاتية تسعى إلى توطيد مكانتها كحكومة للناس الذي يعيشون في الأراضي المكتسبة من النظام وتنظيم "الدولة الإسلامية"، أصبح التعليم أولوية. فوضعت الإدارة الذاتية موادًا تعليمية باللغات الكردية والعربية والسريانية، وأسست المدارس لتعليم هذه المواد، في محاولة لتنويع خيارات التعليم في المنطقة. كما وزّعت نحو مليوني نسخة من كتبها المدرسية باللغتين الكردية والعربية، وهي مأخوذة عن مناهج النظام لكنها تهدف إلى تقديم المواد التعليمية بدون حجج النظام المثيرة للجدل.
وهذا ما قاله الأمريكي لوكاس تشابمان الذي يعمل لدى معهد المناهج الدراسية التابع للإدارة الذاتية في القامشلي: "كل ما هو مكتوب باللغة العربية ينطوي على وجهة نظر منحازة، وبالتالي ثمة تحيز معرفي يصعب تخطّيه. ومن خلال التفاعل مع هؤلاء المعلمين، رأيت إلى أي مدى تغلغلت الصبغة البعثية في كل شي. وثمة هدف نبيل وراء كل هذا [التغيير]: فالنظام التعليمي كان من أقوى أشكال السيطرة التي مارسها النظام".
لكن هذه المواد ليست بديلاً معتمدًا. فحين فرضت الإدارة الذاتية مناهجها التعليمية الخاصة، وقعت أزمة كبيرة، أولاً لأن المناهج لم تكن معتمدة، وثانيًا لأن اللغة الكردية أصبحت مفروضة في كل المناهج الدراسية – علمًا بأن الكثير من الأكراد لا يجيدون قراءتها بعد أن حظرها النظام في المدارس لعقود. وفي هذا السياق قال لي باحثٌ مستقل من محافظة الحسكة ومراسل سابق لمنظمة "سوريا على طول" يقيم حاليًا في الأردن: "إن فرض اللغة الكردية في المناهج بهذه الطريقة غير مجدٍ ولا يفيد التعليم". وأضاف: "والسبب الثالث هو أنه ما من دولة تعترف بشهادات التعليم الصادرة عن الإدارة الذاتية."
على النحو نفسه، لا يحضّر المنهج الدراسي الطلاب لاختبار تحديد المستوى الوطني، وهو مطلوب لقبول الطلاب في الجامعات داخل سوريا وخارجها. وعلى حد ما قالته طالبة الصف الرابع روجات عن لسان والدها: "لن تنفعك اللغة الكردية بشيء".
أما مدارس النظام التي تواصل التدريس في المنطقة - سواء بشكل رسمي أو غير رسمي - فتقدم منهجًا باللغة العربية معترفًا به محليًا ودوليًا. لكن القيادة الكردية في المنطقة تعتبر أن مقاربة النظام السوري للتعليم القائمة على مبدأ "لغة واحدة، وجزء واحد، وسياسة واحدة" ما هي إلا نموذج عن تهميش النظام الطويل للهوية الكردية.
من هنا، تجد العائلات نفسها محتارة ما بين إرسال أطفالها على درب تعليمي معتمد أو إرسالهم إلى مدارس تعتبر في أحسن الأحوال ومضة مما تقدّمه الدولة، وفي أسوأ الأحوال أقل صرامة.
ويعكس غياب الاعتراف الرسمي هذا التحديات الأوسع التي تواجهها الإدارة الذاتية للحصول على الاعتراف الدولي. فمع أن الإدارة في شمال شرق سوريا سيطرت على مؤسسات الدولة الموجودة هناك في تموز/يوليو 2012، إلا أن الدولة السورية لم تعترف بها رسميًا، ولا اعترفت بها الدول الأجنبية العاملة في البلاد، سواء الداعمة لنظام الأسد أو تلك المتحالفة مع الأكراد، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أصبح التعليم أشبه بعصا تسعى المنطقة إلى الاستفادة منها لإضفاء الشرعية على هيئاتها الحاكمة، وفي الوقت نفسه إنقاذ اللهجة الكردية السورية المحتضرة والحث على فهم التاريخ الكردي في سوريا، وهو أمر يغيب كليًا عن مناهج النظام البعثية التي تركّز بشكل قوي على التفسير البعثي للقومية العربية.
وقد أخبرني باحثٌ ومحلل سوري يركز في أعماله على شمال شرق سوريا ويدعى محمد ابراهيم أن "الطلاب والمعلمين على حدٍّ سواء تأثروا سلبًا. فقد خسر المعلمون لدى الإدارة الذاتية رواتب الحكومة السورية، في حين أن الطلاب الذين يدرسون منهج الإدارة الذاتية سيحرمون من إمكانية الالتحاق بالجامعات التابعة للدولة، وبالتالي سيخسرون الشهادات المعترف بها. مع ذلك، لا يزال الكثيرون يختارون ارتياد جامعات الإدارة الذاتية (ذات المؤهلات الأدنى وغير المعترف بها) نظرًا لارتفاع تكاليف السفر والدراسة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية".
أما المسيحيون السريان الذين تصدّوا للإدارة الذاتية خوفًا من العودة تحت سيطرة النظام في المستقبل واختاروا في الغالب الوقوف إلى جانب الحكومة، فتعود مشكلتهم مع المناهج الدراسية إلى "حقيقة تاريخ السريان وثقافتهم وشهدائهم وأحزابهم السياسية وتلك الخاصة بالأمم الأخرى غير المدرجة في الكتب الجديد"، على حد ما قاله رئيس مؤسسة "أولف تاو" التعليمية جالينوس عيسى. ذلك أن التاريخ الثقافي للمسيحية، شأنه شأن التاريخ الكردي، تراجع إلى المؤخرة في نصوص النظام.
وبسبب الصراع لتسجيل الطلاب في المناهج الدراسية، قامت قوات الأمن الداخلي المعروفة بـ"الأسايش" باعتقال ثمانية معلمين من ضواحي القامشلي بسبب إعطاء دروس خصوصية لمناهج النظام. وفي شباط/فبراير الماضي، اعتُقل أربعة معلمين آخرين في مدينة عامودا الواقعة على بعد 30 كيلومترًا تقريبًا غرب القامشلي. وقد أُثنيت الكثير من العائلات التي تحدثت معها في عامودا عن إرسال أطفالها إلى أيٍّ من المؤسستين. فمن جهة، كانت مدارس النظام بعيدة وباهظة الثمن للغاية. ومن جهة أخرى، لم تكن المدارس الكردية معترفًا بها، ولم يكن ينفع إذا كان الأطفال قد تعلموا التحدث باللغة الكردية في المنزل أو، كما قال أحد الأطفال، "في الشارع".
تدّرس جاندا اسماعيل مادة الرياضيات باللغة الكردية لطلاب الصف السابع والثامن والتاسع في إحدى مدارس الإدارة الذاتية. وكانت قد درّست صفوف النظام باللغة العربية قبل الانتقال إلى عامودا حيث يُدرَّس عددٌ قليل من الطلاب منهج النظام لأن أقرب مدرسة تابعة للنظام تقع في القامشلي، وهذه رحلة لا يستطيع الكثيرون تحمل تكاليفها. وبما أن جاندا درّست كلا المنهجين، تقول إن الموارد والدروس تختلف بعض الشيء، ولكنها في ما خلا ذلك تحتوي على الكثير من المواد نفسها.
وقالت في هذا الإطار: "تتشابه كتب العلوم على وجه الخصوص. وربما لم ترد بعض الوحدات في النسخة الكردية. في كُتب الصف السابع مثلاً، أزيلت وحدة أو وحدتين، وفي ما عدا ذلك بقيت باقي الكتب هي نفسها ولم تتغير". وأضافت: "تحتوي الكتب الكردية على المعادلات والقوانين والرسوم البيانية نفسها. إذًا فالاختلاف بسيط جدًا". وتعتبر جاندا أن مسألة التعليم ضرورية للحفاظ على الهوية الكردية وتأمل أن تعترف الجمهورية العربية السورية بالمنهج للسماح للناطقين باللغة الكردية بالانتقال إلى الجامعات الحكومية.
وقالت أيضًا: "طيلة حياتنا وحتى بلوغنا هذا العمر، كنا نستميت للتكلم بلغتنا ولكننا لم نكن نستطيع. وحتى لو استطعنا، ما كنا لنتكلّمها بطلاقة. أما حين يكبر هذا الجيل، فلن يواجه أي خوف أو حواجز. لكن الوضع لم يكن على هذه الحال بالنسبة إلينا. إذ كنا نخاف من التحدث بها. مثلاً إذا أردنا الاستماع إلى أغنية [كردية]، لم نكن نستطيع ذلك في الأماكن العامة. لم يكن ذلك مسموحًا. لكنهم (الجيل الجديد) لا يواجهون مثل هذه العوائق".
"لا تقبل العائلات بالتعليم الكردي لأنها تخشى ألا يتم اعتماد شهاداتنا. لكن الأطفال يتوقون إلى دراسته. فهم يحبّون لغتهم الأم كثيرًا. غير أن العائلات تريد شيئًا يمكن الاعتراف به. زارنا منذ مدة فريقٌ من اليونيسف وقال إنه يدرس فكرة العمل على منهجنا الدراسي، ففرح الجميع وبدأت العائلات تقبله نوعًا ما. لكنها عادت وتوقفت مرة أخرى".
كنت مجتمعًا بجاندا في 12 آذار/مارس، يوم كانت المدارس والمباني الحكومية مقفلة احتفالًا بالانتفاضات الكردية لعام 2004 المعروفة بـ "سرهلدان"، حين قام المتظاهرون بالاحتجاج ضد نظام البعث وأسقطوا تماثيل حافظ الأسد في عامودا. فقامت شرطة النظام بقتل 40 محتجًا وإصابة أكثر من 400 واعتقال 2000 شخصًا. وأشارت الانتفاضة التي استمرت ثمانية أيام إلى بدء معركة للاعتراف بالسكان الأكراد بعد أن طال غياب هذا الاعتراف عن الخطاب السياسي والتعليمي.
وما يحرّك الخلاف بشأن التعليم هو هذا الانقلاب في الهوية الكردية والمكاسب التي تحققت – على المستوى السياسي في ظل الحكم الذاتي – خلال السنوات الأخيرة.
أخبرتني جاندا أن "جيلاً كاملاً سيصاب بخيبة أمل" إذا عاد النظام وألغى المؤسسات والمناهج التي نشأت باللغة الكردية. سيتم إغلاق هذه المدارس، وعند ذلك، وإلى حين إعادة الأطفال إلى المدارس العربية وتعليمهم اللغة العربية من البداية، سيكون الجيل بأكمله قد أصبح مرهقًا، تمامًا كما حدث عندما انتقل من العربية إلى الكردية. سيتكرر الأمر نفسه".