- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
انتشار تعاطي المخدّرات في سوريا: وباء يمتد منذ عقود
أدى صعود سوريا في عالم تهريب المخدرات إلى تفاقم أزمة المخدرات القائمة فعلياً داخل حدودها، حيث إن الافتقار إلى الفرص يترك الكثيرين معرضين للخطر.
مؤخرًا، ظهرت العديد من التقارير في وسائل الإعلام الدولية التي تتحدث عن قيام حرس الحدود في بعض دول الشرق الأوسط بمصادرة شحنات من الكبتاغون قادمة من سوريا وتقول إن هذا البلد قد تحوّل إلى مركز إقليمي لتجارة المخدرات، دون أن يبدو على هذا الإعلام أي إهتمام بانتشار تعاطي المخدرات داخل سوريا نفسها، والذي تقول بعض التقارير أنه وصل إلى درجة خطيرة.
وفي حين تتفاقم الازمة بلا شك، فإن جذور هذه القضية تعود إلى عقود خلت. وقد أتاح لي عملي كطبيب في سوريا من عام 1980 حتى أيلول/ سبتمبر عام 2011 مشاهدة كيفية إنشار تعاطي المخدرات لأن عيادتي الخاصة في دمشق كانت في أحد أكثر الأحياء معاناةً منها وأعتقد أن نقل بعض مشاهداتي الشخصية قد يساعد في تسليط الضوء عليها وفهم كيفية استفحالها وأنسب الطرق لمواجهتها.
كان العامل الرئيسي في إنشار المخدرات في تلك الفترة الحرب الأهلية اللبنانية واستغلال بعض الميليشيات انهيار مؤسّسات الدولة للقيام بزراعة وتصنيع والإتّجار بالمخدرات ثم ما تبعها في منتصف السبعينات من تدخّل عسكري سوري في لبنان وقيام شراكات بين قادة هذه الميليشيات وضباط سوريين أمّن لتجارة المخدرات مزيداً من الحماية سمح بتنشيطها وازدهارها، وهناك تقرير مُفصّل نشرته الواشنطن بوست يتحدث عن هذه التجارة، والذي يهمّنا منه أن أطنان من الهيروين كانت تنتج سنوياً هناك، وأن ضباطاً سوريين كانوا يُدخلون كميات كبيرة من المخدرات إلى داخل سوريا.
علاوة على ذلك، استحوذت عملية سهولة الحصول على بعض الأدوية على انتباه العديد من الشباب السوريين، الذين بدأوا في تعاطى هذه العقاقير التي تسبب الإدمان. وغالبًا ما كان الدافع وراء اقبال هؤلاء الشباب على المخدرات في البداية هو اضطرارهم لترك التعليم والنزول إلى سوق العمل في سن مبكّرة، وأُغلاق آفاق المستقبل أمامهم. وكان للأصدقاء الدور الحاسم في دفع هؤلاء الشباب لدخول عالم المخدرات. وفي حين كان المراهق في سوريا يعبّر عن التمرّد الذي يرافق هذه السن بالتدخين أو تعاطي المشروبات الكحولية أصبح الان يُعبّر عن التمرّد بتناول بعض الأدوية التي يستعملها "أصدقاؤه" مثل مسكن بروكسيمول "ديكستروبربوكسيفين"، وهو عقار من أشباه الأفيونات كان شائعًا على مستوى العالم في فترة الستينيات. وقد أدى التساهل مع هذا النوع من المخدرات إلى زيادة استهلاكها حتى وصل الحال عند بعض الشباب الذي كان يتعاطى كبسولتين من هذا العقار إلى تناول ظرف كامل أي عشر كبسولات دفعة واحدة حتى يتمكن من الشعور بالنشوة، وهو ما يدفع المتعاطي في نهاية المطاف إلى تجربة أنواع أخرى من المخدرات تعطيه نفس الشعور. كما تناول بعض الشباب السوريين شراب أخر مضاد للسعال يحتوي على الكودئين.
ونتيجة انتشار حالات الإدمان على هذه المواد بدأت وزارة الصحة في وضع قيود على استخدامها مثل منع صرفها إلّا من خلال وصفة طبية رسمية موقّعة من الطبيب، لأنه في سوريا بإمكان الصيدلي صرف جميع الأدوية والقيام بدور الطبيب إذا أراد، ورغم المنع استمرت هذه الأدوية في الوصول إلى المدمنين عبر طرق مختلفة.
وبحكم عملنا كأطباء، أصبحنا على دراية واسعة بعلامات وأعراض تعاطي المخدرات. وفي هذا السياق، تتمثل الخطوة الأولى لمكافحة انتشار المخدرات في مراقبة الشباب وهم في هذه المرحل التكوينية لأن معالجتهم تكون أسهل، وهذا يتطلّب من الأهل متابعة أبنائهم ومراقبد علاقاتهم الاجتماعية، وإذا لاحظوا شحوبهم أو نحولهم أو ميلهم للانعزال ورغبتهم الدائمة بالخروج من المنزل، أو وجدوا أدوية في حوزتهم فعليهم التصرّف بسرعة.
وتعتبر السرعة في معالجة الإدمان في هذه المرحلة أمرًا حاسمًا، لأن المصدر الذي حصلوا عن طريقه على هذه الادوية هو في كثير من الأحيان من مدمني الهيروين وعاجلاً أو آجلاً سيعرض عليهم الهيروين إمّا لاستنشاقه مباشرةً كمسحوق أو استنشاق البخار الناجم عن حرقه، وكان اللافت للنظر أن الدعوات الأولى لتعاطي الهيروين كانت في أغلب الأحيان مجّانية رغم سعره الباهظ، بما يوحي بأن نشر الإدمان كان يتم بشكل مقصود لتأمين عملاء جدد. علاوة على ذلك، سرعان ما انتقل المدمنون إلى تعاطى المخدرات عن طريق الحقن داخل الوريد، وكان مُعدّل الوفيات في سوريا مرتفعاً نتيجة حقن هيروين تم خلطه مع مركّبات أخرى غير صالحة للإعطاء عبر الوريد لأن بعض التجار أو المتعاطين كانوا يلجأون إلى هذا الغش لزيادة وزن المادة.
وعند تعاطي الهيروين تصبح احتمالية الشفاء معدومة، خاصة بين الشباب، فطوال السنوات التي عملت فيها في سوريا لم أشاهد سوى حالات معدودة من النجاح في الشفاء من إدمان الهيروين كان بينها رجلان تجاوزا الخمسين عاماً من العمر، وسيدتين أو ثلاثة.
خلال العقد الذي سبق مغادرتي سوريا، كان من النادر أن يمر أسبوعين أو ثلاثة أسابيع دون وفاة أحد مدمني الهيروين في هذا الحي، وكانت الوفاة تحدث بهدوء ودون الإعلان عنها كما يجب وحتى دون حزن لأن أهل المدمن عانوا بما يكفي من ممارسات ابنهم حتى أن بعضهم كان يتمنّى موته.
وكما كانت المخدرات قاتلة لمتعاطيها فقد كان لها تأثير مُدمّر على المجتمع ككل، فمع إدمان المخدرات انتشرت الجريمة والتي تبدأ عادةً بالسرقة لتأمين ثمن المخدرات، وكان أول الضحايا العائلة الصغيرة من الوالدين والأخوة ثم تتوسّع إلى الأقرباء الأبعد والجوار حتى تصل إلى تشكيل عصابات لسرقة المتاجر والمنازل في أحياء بعيدة، كما كان إدمان النساء على الهيروين يؤدي في الحالات التي شاهدتها إلى الدعارة وكان زوج المرأة غالباً هو الذي يقودها إلى تعاطي الهيروين ثم إلى الدعارة، هذا طبعاً بالإضافة إلى جرائم القتل ومن الأمثلة القاسية قيام أحد المدمنين بقتل أمه.
وعندما استفحل هذا الوضع خصّصت وزارة الصحة السورية قسماً لمعالجة الإدمان ضمن إحدى المستشفيات العامّة، ولم يكن هذا القسم يتّسع سوى لعشرات الأشخاص بينما كان هناك عشرات آلاف المدمنين، فإذا تمكّن أحدهم من تأمين سرير في هذا القسم كان يتم تخريجه بعد أسبوع في أحسن الأحوال وهي فترة غير كافية أبداً لمعالجة مدمن الهيرويين ولذلك كان يعود مباشرةً إلى سيرته الأولى.
وفي أغلب الحالات التي شاهدتها كان الأهل لا يجدون أمامهم سوى إبلاغ شرطة مكافحة المخدرات عن أبنائهم المدمنين بما يؤدّي إلى إدخالهم السجن وهناك كانوا يتعرّضون لأعراض السحب المُفاجئ للهيروين والتي قد تؤدي إلى حدوث نوبات تشنّج شامل وشديد، وعند الخروج من السجن كان بعض المدمنين يذهبون مباشرةً إلى أصدقائهم للحصول على الهيروين بينما كان البعض الآخر يعيش عدة أيام بشكل طبيعي، ولكنهم ينتظرون أبسط مشكلة أو سوء تفاهم عابر ليستخدموه ذريعة لعودتهم للهيروين.
وبعد أسابيع من انطلاق الاحتجاجات في سوريا بداية عام 2011 قامت الحكومة بإطلاق سراح السجناء الجنائيين وكان أغلبهم من مدمني المخدرات فانتشروا في الشوارع وتضاعفت أعداد المدمنين الذين يقفون في الساحات أو الزوايا التي اعتادوا على الاجتماع فيها، وأصبحوا وقتها أكثر جرأة حتى أن بعضهم كان يقف رابطاً ذراعه في الشارع وكأنه بانتظار حقنة الهيروين لأنهم يعرفون أن أولويات أجهزة الأمن كانت موجّهة وقتها نحو النشطاء السياسيين.
من سيء إلى أسوأ
وبعد مغادرتي سوريا كانت الأخبار التي تأتي من هناك تقول أن كل ما حدث خلال العقود الماضية لا يُقارن بما أصبحت عليه الأحوال هذه الأيام، فقد انتقل مركز تجارة المخدرات من لبنان إلى سوريا، وانتشرت معامل تحتوي على كل ما يلزم لتصنيع أصناف عديدة من المخدرات يُديرها خبراء في هذه الصناعة وارتبطت هذه المعامل مع مخازن لتوضيب المخدرات وإخفائها داخل شحنات لمنتجات صناعية أو زراعية تمهيداً لتهريبها، ومرافئ بحريّة يتم إرسال هذه المخدرات عبرها إلى الدول المطلّة على البحر المتوسط وما بعده، وطرق ومنافذ حدودية برّية تنتقل المخدرات من خلالها إلى دول الخليج عبر الأردن والعراق، وكل ذلك بحماية وحدات عسكرية وأمنية مرتبطة بأعلى القيادات السورية، وفي شهر أذار/مارس الماضي عاقبت الولايات المتحدة إثنين من أبناء عمومة بشار الأسد لدورهم في تجارة المخدرات. علاوة على ذلك، تتّفق أغلب التحقيقات الدولية على أن سوريا انتقلت من مركز إقليمي إلى مركز عالمي لتجارة المخدرات، وقدّر تقرير نشرته صحيفة دير شبيغل الألمانية أن النظام السوري حقّق 5.7 مليار دولار من تجارة المخدرات في عام 2021.
ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك في زيادة انتشار تعاطي المخدرات داخل سوريا خصوصاً مع غياب أي جهود حكومية جدّية لمكافحة هذه الآفة، بل استمرت الحكومة السورية في التعتيم على كل ما له علاقة بالمخدرات لأنه قد يلفت النظر إلى دورها في هذه التجارة الدولية، ولذلك لا توجد إحصائيات رسميّة ذات مصداقية توضّح الحجم الحقيقي لهذه المشكلة، واستمر الاعتماد على الشهادات المحليّة كمصدر رئيسي للمعلومات عن درجة انتشار تعاطي المخدرات داخل سوريا.
ففي محافظة درعا الجنوبية على الحدود مع الأردن كثرت الشكاوي من ارتفاع أعداد الجرائم المرتبطة بالمخدرات، كالسرقة وخاصة سرقة السيارات والخطف بهدف طلب فدية والقتل، وقالت إدارة الأمن الجنائي في درعا أن 940 حادثة من هذا النوع وقعت في هذه المحافظة الصغيرة عام 2021، وكان اللافت أن من يقوم بهذه الجرائم عصابات ضمّت بين صفوفها أعداداً من المراهقين والقُصّر مع مشاركة من فتيات ونساء تتراوح أعمارهن بين 15 و40 عاماً، وقال طبيب من درعا أن سبب انتشار المخدرات في هذه المحافظة هو رخص ثمنها الناتج عن نوعيتها الرديئة التي تؤدّي إلى إصابة متعاطيها بمضاعفات مُدمّرة لصحّته الجسدية والعقلية، ولكن الجانب الأكثر خطورة في ما قاله الطبيب كان انخفاض سن من يتعاطون المخدرات ليشمل أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 11 و14 عاماً.
كما قالت دراسة لمركز الحوار السوري في مدينة حلب شمال سوريا عام 2022 أن قسماً كبيراً من المخدرات أصبح يُصنّع محلياً وبأسعار رخيصة، واجتمع ذلك مع المعاناة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الكبيرة عند الشباب مما أدّى إلى إيجاد البيئة النموذجية لانتشار تعاطي المخدرات، ولذلك ارتفعت نسبة المتعاطين حسب هذه الدراسة إلى حدود 8 في المائة من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 عاماً ووصلت في بعض المناطق إلى نسب أعلى من ذلك وهذه نسبة مرتفعة جداً مُقارنةً مع المعدلات العالمية، كذلك تحدثت الدراسة عن انتشار تعاطي المخدرات بين النساء، نتيجة تركيز شبكات المخدرات على نشر المخدرات بين الأطفال والمراهقين والنساء ليجعلوا منهم مُتعاطين ثم مروّجين وبائعين لأن تنقلاتهم أسهل ويمكن السيطرة عليهم، ومن الوسائل التي يتّبعونها لتحقيق ذلك دسّ بعض أنواع المخدرات خلسةً في الأطعمة أو الشاي وأحياناً كان من يقوم بهذه العملية أفراد من نفس عائلة الضحية.
اتفقت أغلب الدراسات على أن نسبة تعاطي المخدرات في مناطق سيطرة النظام أعلى من بقية المناطق وأن تعاطي المخدرات مُنتشر بشكل خاص بين طلاب المدارس والجامعات، كما تحدثت التقارير عن انتشار أنواع جديدة من المخدرات لم تكن شائعة سابقاً مثل "الكريستال ميث" وهو أحد مشتقات الأمفيتامين كان وباء تعاطيه قد اجتاح العراق قبل عدة سنوات قادماً من إيران حسب تحقيق لصحيفة الإندبندنت البريطانية، بما يوحي بأن الميليشيات الإيرانية والعراقية هي التي أدخلت هذا المخدّر إلى سوريا.
ونتيجة كل ما سبق فإن مواجهة مشكلة انتشار تعاطي المخدرات في سورية أصبحت ضرورة أخلاقية وإنسانية مُلحّة، والخطوة الأولى في هذه المواجهة هي اعتراف الحكومة السورية بانتشار الإدمان على المخدرات داخل البلد وإجراء إحصائيات ذات مصداقية توضّح الحجم الحقيقي لهذه المشكلة وأنواع المخدرات المُستخدمة وأي المناطق هي الأكثر تأثّراً بها. وهذا من شأنه أن يسمح للمعنيين - بما في ذلك الأطباء وغيرهم من المتخصصين في الرعاية الصحية - بوضع استراتيجية شاملة لمواجهة الأزمة. كما تحتاج سوريا ان تطلب المساعدة من منظمات دولية ذات إمكانيات وخبرات واسعة في التعامل مع مثل هذه الأوضاع المعقّدة. وفي حين أنه من غير المرجح أن تحدث مثل هذه الجهود على أرض الواقع، إلا أنه لا يمكن اتخاذ خطوات حقيقية لمواجهة الازمة حتى يتسنى فهم نطاقها. ومع سعي الدولة لتمويل نفسها من خلال تصدير هذه المخدرات إلى الخارج، فإن مشكلة الإدمان في سوريا ستستمر في التصاعد.