- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إرث ثورة تشرين الأول/أكتوبر في لبنان
على الرغم من أن نتائج احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019 والانتخابات بشهر أيار/مايو 2022 جاءت بالأمل للكثير من اللبنانيين المتعطشين للتغيير، الجمود والخلل السياسي المترسخ ما زال على ما كان عليه من سوء.
منذ عدة أسابيع، أحيا اللبنانيون الذكرى السنوية الثالثة لثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019 التي شهدها لبنان، والتي اندلعت نتيجة غضب شعبي عارم من سوء الإدارة الممنهج الذي أحدثته الطبقة السياسية الحاكمة. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الوضع الاجتماعي والاقتصادي الحالي في لبنان متأزمًا، لا بل شهد تدهورًا أكثر على مدى السنوات الثلاث الماضية، هذا وتنزلق بيروت نحو مأزق سياسي جديد.
انتهت رسميًا فترة ولاية الرئيس الحالي ميشال عون، وأخلى مقر إقامته الرسمي. وبعد جلسات برلمانية متعددة مكرّسة لانتخاب خلفه، أصبح نواب لبنان بعيدين كل البعد عن الاتفاق على بديل للرئيس عون. فقد بقيت "الورقة البيضاء" هي الغالبة بعد الجولة الأخيرة من التصويت، مما يسلط الضوء أكثر على الانقسام والخلل في البرلمان اللبناني.
وأثبت الجمود الذي شهدته الأسابيع الماضية مرة أخرى على الخلل السياسي المنهجي في لبنان وأثره على حياة اللبنانيين العاديين. وفي حين وُصِفت نتائج انتخابات أيار/مايو بدايةً بأنها توفر بصيص أمل للإصلاح، إلاّ أنّ الأحزاب والتناحرات السياسية التقليدية هي من تتحكم بالوضع السياسي الداخلي في لبنان، وهو وضع لا يمكن للشعب اللبناني أن يتحمله.
في البداية، عُلّقت الآمال على النواب المستقلين الجدد الذين انبثقوا عن الحراك الشعبي لعام 2019. ومن بين أولئك الذين انتُخبوا خلال انتخابات أيار/مايو الماضي، حصل ثلاثة عشر نائبًا مستقلاً على مقاعد في المجلس النيابي المؤلّف من 128 مقعدًا، ما يدلّ على تحوّل جذري بالمقارنة مع الانتخابات السابقة (فقد فاز عضو مستقل واحد فقط بمقعد نيابي في انتخابات 2018). والجدير بالذكر أنّ فرصة هؤلاء المستقلين في الفوز زادت بفضل تصويت المغتربين، إذ يُفهم أنهم صوتوا إلى حد كبير للمرشحين المستقلين، وبمعدل مشاركة ارتفع بمقدار ثلاثة أضعاف مقارنةً بالدورة الانتخابية السابقة. وفي الوقت نفسه، بقيت الغالبية العظمى من النواب تحت سيطرة أحزاب المؤسسة، فيما بقيت كتلة "التغيير" المكونة من المستقلين صغيرة للغاية ومتصدّعة على نحو متزايد، وبالتالي ليس لها أي تأثير تشريعي حقيقي. وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، تفككت كتلة "التغيير" في ظل نشوب خلافات داخلية، وغادر النائبان ميشال الدويهي ووضاح صادق الكتلة رسميًا، في حين يحاول الباقون العمل مع نواب آخرين أو التنسيق داخليًا ليبقى لهم ثقلهم السياسي.
تعكس الأحزاب التقليدية التي لا تزال تحتل أغلبية البرلمان اللبناني وجه الحكومة الحالية. ومن اللافت للنظر أن البرلمان اللبناني يضم من اتهمهم القضاء بجريمة انفجار المرفأ، بالإضافة إلى ثلاثة وزراء طاقة سابقين فشلوا تمامًا في تحسين هذا القطاع. إذ يعيش عدد كبير من اللبنانيين بدون كهرباء ويعتمدون بشكل رئيسي على المولّدات، التي لم يعد الكثير منهم قادرًا على تحمل تكاليفها نظرًا للارتفاع الهائل في سعر الوقود، أو في بعض الحالات على الطاقة الشمسية لمن إستطاع إليها سبيلا. وبالمثل، ساعد نظام الصرف الصحي المتداعي في لبنان على الانتشار السريع للكوليرا – وهو مرض انعدم وجوده في لبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية – وذلك نتيجة الظروف العصيبة التي تمرّ بها سوريا بشكل مماثل.
وفي الوقت نفسه، تلعب أحزاب المؤسَّسة هذه دورًا ماكرًا في إعادة رسم تاريخ ثورة 2019 كي لا تُلام على البنية التحتية المتهالكة في لبنان. وفيما يحتاج الشعب اللبناني بشدة إلى عودة الروح التي أدّت إلى ثورة 2019 أكثر من أي وقت مضى، سعى اللاعبون الراسخون في لبنان إلى إقناع ناخبيهم بإلقاء اللوم على الحراك في ما يتعلق بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحالية في البلاد من خلال عدة طرق. وتعمل المؤسسات الإعلامية التي تملك المال والتابعة "للدولة داخل الدولة" اللبنانية بشكل حثيث على شيطنة ثورة 2019 وثمارها. ففي بداية الاحتجاجات، أدّت الصور التي تم التلاعب بها أو ببساطة غياب التغطية الإعلامية إلى لجوء المتظاهرين إلى أساليبهم الخاصة لنشر التقارير الإعلامية. ومع ذلك، فإن المؤسسات الإعلامية الجديدة مثل "قناة الثورة" التي برزت في أعقاب الثورة هي محدودة النطاق بالمقارنة مع جمهور المؤسسات الإعلامية اللبنانية المملوكة للأحزاب الراسخة.
وتلوم القنوات التلفزيونية والصحف هذه الثورة على تعثر الاقتصاد اللبناني، متجاهلةً السياسات النقدية الفاشلة للحكومات اللبنانية ومقللةً من شأن الإجراءات التعسفية للبنك المركزي الذي استولى على مدخرات الشعب واستنفد احتياطيات لبنان من العملات الأجنبية. ويصف البعض أيضًا ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر بأنها "إرهاب فكري"، ويستخدم عبارات مثل "الترهيب الفكري والشيطنة والخيانة" لكل من يعارض آرائه. وفي مثال أخر، لم يألو السياسيون ولا انصارهم جهداً في إلقاء اللوم على المتظاهرين إبان الثورة في كل مرة لجأ الثوار إلى قطع الطرقات، حيث انهال عليهم ازلام السلطة بوابل من التحريض والتخوين متهمين اياهم بتدمير الإقتصاد عبر تعطيل الحياة العامة ومصالح الناس .اليوم، يتم استخدام المنطق ذاته ضد المودعين الذين يداهمون البنوك مطالبين بأموالهم الخاصة حيث تلقي وسائل الإعلام الحكومية والخاصة باللوم عليهم في إغلاق البنوك، كما لو أن الناس لا يعرفون أن هذه البنوك الزومبي هي نتاج مخطط بونزي الذي أوجده ورعاه كل من البنوك والسياسيين لأكثر من ثلاثة عقود.
وعلى الصعيد الاجتماعي، حشدت القوى السياسية الراسخة دور العبادة والجمعيات الأهلية لمهاجمة أعضاء البرلمان الجدد. وتشمل الهجمات، على سبيل المثال، اتهامات بالفسق والفجور بسبب دعم النواب المستقلين للزواج المدني الطوعي، وهي مؤسسة يفتقر إليها لبنان والتي يجب أن تكون حقًا أساسيًا لأي مواطن لبناني وفقًا للدستور.
يطرح الرد الشعبي الصامت على هؤلاء النواب المستقلين، إلى جانب تأثير سردية المنظومة الحاكمة ضد ثورة 2019، السؤال التالي: هل يمكن أن تتوطد الإرادة الشعبية اللبنانية مرة أخرى للاحتجاج على استمرار النظام الفاسد في لبنان، أو إنها ستصدّق السردية التي تقدّمها أحزاب المنظومة؟ وإذا اختار اللبنانيون الاحتمال الأخير، فإن هذا النظام، الذي يهيمن عليه تجّار الحرب وأولئك الين يغذّون الطائفية، سيستمر في توجيه سياسات داخل الحكومة تزيد من فقر الشعب اللبناني وذلّه.
إن لبنان اليوم قد أصبح خارج المجهر الدولي أكثر فأكثر نتيجة الأوضاع السياسية والاقتصادية الحرجة في الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية الأخرى، وكذلك بسبب التداعيات المتتالية لغزو أوكرانيا والركود المستمر لأي جهود رامية إلى عزل المنطقة عن الحروب بالوكالة أو الحروب المباشرة مع إيران. ويدرك الكثير من اللبنانيين اليوم أن أزماته لا تُصنَّف ضمن أولويات القوى الكبرى. وهذا يعني أن أمل البلاد ضئيل في الخلاص الخارجي، ولن ينشأ أي تغيير إلا من خلال عودة الضغط الشعبي الذي تمكّن اللبنانيون من ممارسته في عام 2019.
أشارت ثورة 2019 في الواقع إلى حل للقضية الجوهرية في لبنان: عندما يتكاتف اللبنانيون لوضع الطائفية والقرارات الداخلية جانبًا ولمساءلة حكومتهم بشكل حقيقي، سيكون لدى البلاد فسحة أمل بالتغيير. غير أن عودة مثل هذا الحراك وانتشاره يتطلبان أن يدرك المزيد من اللبنانيين أن مصلحة بلدهم لا تكمن في بقاء الأحزاب السياسية الراسخة. وإلى أن تصبح الأحزاب التقليدية عاجزة عن الاعتماد على أنصارها الأساسيين في الحصول على النتائج نفسها بعد الانتخابات والحصول على الدعم نفسه خلال بقية العام فيما تنزلق البلاد إلى الفوضى، سيتعين على اللبنانيين تحمّل وزر اللوم على ما يصيب بلادهم من هلاك مستمر.