تُعد إريتريا الدولة الأفريقية الوحيدة التي صوّتت ضدّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب روسيا بسحب قواتها العسكرية من أوكرانيا – وهو ما يعتبر تصريح قوى لدعم روسيا.
ولا بدّ من تبرير هذا التصويت ودعم نظام إريتريا لروسيا بكونهما جزءًا لا يتجزأ من سياسة أفويرقي المعادية لأمريكا والقائمة منذ عقود والتي تشكّل أبرز ركائز حكمه الاستبدادي.
العلاقات الإريترية-الأمريكية الإيجابية في تسعينيات القرن الماضي
بعد حصول إريتريا على استقلالها في عام 1993، وقبل أن يتحوّل أفويرقي من زعيم عصابة إلى طاغية متسلّط، جمعت بين إريتريا والولايات المتحدة علاقة ودية وبناءة، حيث فقد دعمت أمريكا بشكل كبير انفصال إريتريا عن إثيوبيا كما كانت إريتريا تعتزم تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية.
ونظرًا إلى الخط الساحلي الممتد على 600 ميل على طول البحر الأحمر وحدود إريتريا المشتركة مع السودان، اعتبرتها الولايات المتحدة من الدول الرئيسية في مساعيها الرامية إلى محاربة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي. وقد تعاونت الدولتان من أجل إرساء الاستقرار في القرن الأفريقي، وفي هذا الصدد، زار كبار جنرالات الجيش الأمريكي إريتريا – بمن فيهم قائد "القيادة المركزية الأمريكية" الجنرال تومي فرانكس. كذلك، أقام الرئيس أفويرقي علاقات وثيقة مع إسرائيل واختار أن يتعالج في القدس. وعليه، لطالما أتهمته وسائل الإعلام العربية بالسماح للبحرية الإسرائيلية بتشغيل عملياتها من جزر دهلك وإقامة منشأة لجمع المعلومات الاستخباراتية على أعلى سلسلة جبال في البرّ الرئيسي للبلاد.
حملة أفويرقي المعادية لأمريكا
يتركز شعب أريتريا بأغلبيته الساحقة حول أسمرة والقرى المحيطة بها، المعروفة باسم حماسين. وهيمنت مجموعة التغراي المتحدرة من منطقة حماسين على "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" في خلال النزاع الدموي للحصول على الاستقلال، وهي تشغل حاليًا مراكز قيادية في الجيش الإريتري. وفي غضون ذلك، وقع الأفراد المتأتين من حماسين والذين شغلوا مناصب سياسية قيادية في الجبهة ضحية التطهير واستبدالوا بأنصار أفويرقي المتحدرين من أجزاء أخرى من البلاد.
وتبدّل موقف أفويرقي بعد حرب الحدود الإريترية الإثيوبية عام 1998. وعلى الرغم من تحديد موعد لإجراء الانتخابات التشريعية، فقد أُرجئت لاحقًا لأجل غير مسمى ولم يُطبَّق قط دستور البلاد الذي تمّ إعداده. وخلال هذه الفترة، نفذ أفويرقي انقلابًا داخليًا كاسحًا من أجل إرساء نظام استبدادي. وردًا على الضغوط المتنامية في الحزب الحاكم التابع له – "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة" – لجعل النظام السياسي في إريتريا أكثر شفافية والسماح بمزيد من حرية التعبير، فكّك أفويرقي هيكليات القيادة في الحزب واعتقل أو نفى أعضاء اللجان المركزية والتنفيذية وقادة الجيش ورجال الأعمال ومندوبي المجلس الوطني.
وإذ صُنّف على نحو متكرر كأكثر الحكام استبدادًا في العالم، يحكم أفويرقي البلاد من خلال "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة" التي أعاد هيكلتها ونظام يجنّد لأجل غير مسمى جميع الإريتريين ممن هم فوق سنّ الثامنة عشر. ووضع أيضًا قيودًا صارمة على المساعدات الأجنبية وأقدم بشكل متكرر على طرد المنظمات غير الحكومية الأجنبية في إطار رؤيته العدائية لـ"بناء الدولة"، وهي وسيلة من التلقين الوطني القائمة على عزل بلاده عن التأثيرات الخارجية. علاوة على ذلك، تسبب أفويرقي عن عمد في توتر العلاقات مع الدول المجاورة لإريتريا – إثيوبيا والسودان وجيبوتي – كوسيلة لتوجيه السخط الداخلي باتجاه قوى خارجية. ولا بد من الإشارة إلى أن أفويرقي رسّخ في أذهان شعب بلاده رسالة واضحة في خلال العقديْن الماضييْن مفادها أن الولايات المتحدة هي التهديد الأكبر لإريتريا.
وتماشيًا مع هذه التحولات، دعم الرئيس أفويرقي تنظيم "الشباب" في الصومال ووفر ملاذًا آمنًا للشيخ حسن طاهر أويس الذي صنّفته الولايات المتحدة إرهابيًا ومؤسس الجماعة الإسلامية الصومالية "حزب الإسلام". وعلى نحو مماثل، دعا أفويرقي الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير إلى إريتريا لتكون وجهته الخارجية الأولى بعد أن أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية" مذكرة توقيف بحقه بسبب دوره في الإبادة الجماعية في دارفور. علاوةً على ذلك، زار أفويرقي القذافي في طرابلس بشكل منتظم، متجاهلًا العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على ليبيا إثر التفجير الإرهابي في لوكربي. وقد دفعت هذه الأفعال إدارة أوباما إلى تأييد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1907 في عام 2009، الذي فرض عقوبات على إريتريا وحظر توريد الأسلحة – وهو قرار صوّتت روسيا لصالحه.
وفي خلال الحرب الأهلية المستمرة في إثيوبيا، أرسل أفويرقي جيوشه على طول الحدود للمحاربة في تيغراي، ورفض مبادرة السلام التي اقترحتها إدارة بايدن، ما أدى إلى فرض عقوبات أحادية على بلاده من قبل الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
إلا أن أفويرقي لم يلّطف من خطابه المعادي لأمريكا، حتى بعد أن رفعت إدارة ترامب العقوبات عن إريتريا في عام 2018 عقب اتفاق السلام الذي وقعه أفويرقي مع رئيس الوزراء الإثيوبي – ولكن خطوة إدارة ترامب حدّت من حملة أفويرقي الدعائية المناهضة لأمريكا في أوساط الإريتريين. وحين أعادت إدارة بايدن فرض العقوبات على إريتريا، تعزّزت سردية أفويرقي. فالحصول على الدعم الشعبي مسألة أساسية لاستمرارية أفويرقي السياسية.
هذا وتتوقف شرعية أفويرقي على الدعم الذي يحظى به من الجنرالات في الجيش الذين يأتي معظمهم من منطقة حماسين. فهؤلاء الجنرالات لا يستفيدون من موارد إريتريا الاقتصادية، بل يدعمون أفويرقي لأنهم يعتبرون أنه الوحيد القادر على الدفاع عن بلدهم من أي تهديدات خارجية يذكرها باستمرار. وعليه، يُعتبر الحفاظ على هذه السردية وعلى هذا الدعم أساسيًا لبقاء أفويرقي على الساحة السياسية. فمن دون هذه الأفكار والمعتقدات، ما من سبب يدعو الجنرالات إلى دعم الرئيس.
موقف إريتريا الداعم لموسكو
لطالما اتخذت إريتريا مواقف داعمة لروسيا في مجموعة من القضايا، وذلك على الرغم من غياب أي روابط أمنية أو اقتصادية كبيرة تجمعها بموسكو. ففي عام 2014، كانت إريتريا الدولة الأولى التي تُرسل وزير خارجيتها إلى جزيرة القرم بعدما ضمتها روسيا إليها. وفي الآونة الأخيرة، تجاهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرض أفويرقي استخدام ميناء عصب كقاعدة عقب مغادرة القوات الإماراتية في نيسان/أبريل 2021، مفضلًا بدلًا من ذلك مواصلة جهوده لإقامة قاعدة في بورتسودان في حزيران/يونيو من العام نفسه. ويؤكد هذا القرار على رغبته في التمسك بعدائيته تجاه الولايات المتحدة وتجنّب التدخل الأجنبي في سياساته الداخلية، وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى أجندة أفويرقي المحلية.
فضلًا عن ذلك، تؤجج العقوبات الأمريكية هذه السردية وتناسب أجندة أفويرقي الانعزالية. وتستهدف العقوبات الجيش الإريتري، والحزب السياسي الوحيد في البلاد ("الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة") والأهم "شركة البحر الأحمر للتجارة"، الشركة الوحيدة المخوّلة استيراد وتصدير السلع، بما في ذلك المواد الغذائية والأدوية. وتلحق هذه العقوبات الأضرار بالشعب الإريتري الذي يُدرك أن معاناته الاقتصادية هي نتيجة مباشرة لعزلة بلاده المالية. غير أن أفويرقي ووسائل الإعلام الموالية للنظام يصوّرون هذا الوضع على أنه نتاج الأفعال الأمريكية العدائية، لينجحوا في إقناع الشعب بهذه السردية.
سياسة الولايات المتحدة إزاء إريتريا
تحتاج الولايات المتحدة إلى إريتريا من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في إثيوبيا والسودان وجيبوتي واليمن، إلا أن أفويرقي يتواصل حاليًا مع الحوثيين ويرفض إدانة الهجمات التي ينفذونها ضدّ السعودية والإمارات. والجدير ذكره أن مساعي الولايات المتحدة لإرساء الاستقرار في المنطقة في خلال العقود الثلاثة الماضية قد فشلت ويُعزى السبب جزئيًا إلى عدائية أفويرقي وأعماله التدميرية. وفي الوقت الراهن، يقوم بتسليح وتدريب قبائل ساخطة في شرق السودان في حين يبقي على قوات إريترية في إثيوبيا ويغازل إيران.
تجدر الملاحظة أن السفينة العسكرية الإيرانية "أم في ساويز"، كانت ترسو في المياه الإريترية من أجل تنسيق الأنشطة الإيرانية في البحر الأحمر واليمن ضد السعودية والإمارات وإسرائيل. وتردد أن إسرائيل استهدفت السفينة في نيسان/أبريل 2021، ما دفع بالنظام في إريتريا إلى اتهامها بخرق سيادة البلاد.
ولا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل دور إريتريا في هذه المنطقة المتقلبة، فبعد أكثر من عشر سنوات على فرض عقوبات عليها، يجدر بأمريكا النظر جديًا في ما إذا كانت هذه العقوبات قد أتت ثمارها، إذ يمكن القول إنها عزّزت حملة أفويرقي المتنامية الرامية إلى لوم الولايات المتحدة على ما تعانيه بلاده من مشقة وضيقة، وبالتالي لا تعود هذه العقوبات بالفائدة على المصالح الأمريكية في المنطقة.
وعليه، يجب أن تكون أولوية الإدارة الامريكية في ما يتعلق الأمر بالتعامل مع إريتريا التخفيف من العقوبات الحالية. صحيح أنه حين رفعت إدارة ترامب العقوبات عنها لم يتوقف خطاب أفويرقي، إلا أن تبريراته أصبحت موضع شك. وحين أعادت إدارة بايدن فرض العقوبات، تعزّزت سردية النظام. ومن المهم تقويض خطاب أفويرقي المعادي لأمريكا، ويُعتبر التخفيف من العقوبات خطوة أساسية لتحقيق هذا الهدف.
ومن أجل إنجاح هذا المسعى، على الإدارة أن توضح أن الهدف من العقوبات هو إلحاق الضرر بالحكومة وليس الشعب. وتُعتبر هذه الرسالة أساسية نظرًا إلى المعاناة الشديدة التي فرضتها العقوبات على الإريتريين. إنها الطريقة الوحيدة على الأرجح لدحض حملة أفويرقي الدعائية بأن الولايات المتحدة هي العدو وأن التحصّن في دولة معزولة هو السبيل الوحيد للأمان.