- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إسلاميو كُردستان. مفارقة الهويات والحريات
قصارى القول، قد تمكّن الاجتماعات الحالية القادة الإسلاميين من توحيد التيارات الثلاث، الاتحاد الإسلامي الكردستاني، والجماعة الإسلامية الكردستانية، والحركة الإسلامية الكردية - كما يمكن القول بأن أي موقف واضح تجاه الأقليات والدينية في خطاب الحركات والأحزاب الإسلامية ودحض التفسير الداعشي للدين، ملحاً لمنع وقوع المزيد من الكوارث كما حدث للإيزديين والمسيحيين عام ٢٠١٤.
جمعت مأدبة عشاء في منزل الأمين العام للاتحاد الإسلامي الكردستاني صلاح الدين بهاء الدين في مدينة السليمانية بإقليم كُردستان العراق صلاح الدين بهاءالدين في الأسبوع الأخير من شهر تموز (يونيو) ٢٠١٦، قيادات الصف الأول للأحزاب الإسلامية، وهي الاتحاد الإسلامي والجماعة الإسلامية والحركة الإسلامية. وكان الاجتماع كما تناولته وسائل الإعلام المحلية، بهدف خلق مناخ لتأسيس جبهة إسلامية مشتركة بين الأحزاب المذكورة التي تملك (١٧) مقعد من بين ١١١ مقعداً في برلمان إقليم كُردستان.
تأتي هذه الخطوة للتقارب بين الإسلاميين، في وقت تتضح فيه ملامح تغييرات جوهرية في خارطة الحركات الإسلامية، ليس في كُردستان فحسب بل في العالمين العربي والإسلامي عموماً. خاصة أن النموذج الإسلامي المعتدل الذي أرادت حركة الإخوان المسلمين تقديمه في كل من مصر وتونس باء بالفشل، ويكاد أن يتحول إلى النموذج التركي إلى نموذج شبه توتاليتاري، فيما تحول في سوريا إلى كارثة سياسية وإنسانية. وعلى المستوى المحلي، يشهد المشهد السياسي إصطفافات جديدة، خاصة بعدما تحولت ورقة التفاهم بين الإتحاد الوطني الكُردستاني وحركة التغيير إلى إتفاقية سياسية، فيما تلاشت على أرض الواقع الإتفاقية الإستراتيجية بين (الوطني الكُردستاني) بقيادة الطالباني والحزب الديمقراطي بقيادة مسعود البرزاني.
كان الأبرز في طموح إسلاميي كُردستان الأكثر جموحاً أثناء تحولات الربيع العربي هو تسمية الربيع العربي بـ “ربيع إسلامي” وذلك من خلال خطاب سياسي غامض تشوبه مواربات سياسية. لم يستخدم أي حزب إسلامي تسمية “الربيع الإسلامي” حينئذ، إنما كانت هناك تلويحات وممارسات يومية لذلك. ولأن بقي تأثير أجواء الثورة المصرية ضد نظام حسني مبارك كبيراً، أطلق المحتجون في مدينة السليمانية اسم “ميدان آزادي” أو الحرية على ساحة “السراي” التاريخية. وعلى الرغم من أن تلك الاحتجاجات جمعت العلمانيين والإسلاميين مع بعضهم البعض حيث صلى العلمانيين واليساريين في الميدان جنبا إلى جبنا مع الإسلاميين، وانشد الأكراد المتدينين الأغاني الوطنية، إلا أن تلك المحاكاة السياسية للنموذج “الإخواني” المصري في مدينة السليمانية التي طالما تميزت بخصوصيتها الثقافية والاجتماعية، أدت إلى انسحاب بعض من المثقفين والناشطين الكُرد من الاحتجاجات.
لم يدم الصمت طويلاً حيال التحولات السريعة في العالم العربي، خاصة بعد وصول الإخوان المسلمين في مصر إلى السلطة، حيث أعلن الأمين العام للإتحاد الإسلامي صلاح الدين بهاءالدين في لقاء مع شبيبة حزبه نهاية شهر كانون الثاني عام ٢٠١٢، بأن ما يحصل في العالم العربي والمنطقة هو ربيع إسلامي بكل ما فيه من المعاني للكلمة. وكان ذلك بمثابة الإعلان الأول لموقف الإخوان حول هوية ثورات الربيع العربي. وكان ذلك موقف الجماعة الإسلامية ضمناً. أما الحركة الإسلامية فبقيت سياستها تتأرجح بين السلطة والمعارضة.
كانت (حركة التغيير) بقيادة نوشيروان مصطفى، الجدار الخلفي لحضور الإسلاميين في احتجاجات ربيع ٢٠١١ ضد السلطة المحلية في كُردستان. لكن الإئتلاف المعارض الذي جمعهم بين أعوام (٢٠٠٩-٢٠١٣) لم يتحول من حراك سياسي يومي إلى استراتيجية سياسية من أجل إصلاح النظام السياسي، بل بقي أسير تأرجح سياسي-آيديولوجي اختفت فيه البوصلة. تالياً، عاد كل طرف إلى منبعه الفكري، الإسلاميين إلى إسلاميتهم، وحركة التغيير إلى حاضنتها العلمانية التي تشترك فيها مع الإتحاد الوطني الكُردستاني.
إن إحدى النقاط الإشكالية التي واجهت تحالف الإسلاميين مع حركة التغيير، ومع حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني فيما بعد من أجل تثبيت دستور برلماني وتغيير قانون انتخاب رئيس إقليم كُردستان، هي الاعتقاد بأن الحرية السياسية وديموقراطية تداول السلطة، كفيلتان للبقاء في الفضاء العام وتمثيل المعارضة، متناسين الحريات العامة، بما في ذلك حرية المرأة وحرية التعبير. وقد تمخض عن ازدواجية الإسلاميين حيال الحرية واستحالة تجزئتها سجالات عنيفة بينهم وبين المثقفين، ذلك أن وجودهم في ساحة (السراي) كقوة معارضة تطالب بالحرية، لم تخف عدائهم للحريات الاجتماعية وحق حرية التعبير. لقد وقفوا ضد الكتاب والصحفيين والمثقفين ودفعوا السلطات المحلية لمنع كتب أدبية في الأسواق تحت يافطة الآداب العامة وإهانة الذات الإلهية. واستوجب كل ذلك ابتعاد عدد من المثقفين والكتاب والناشطين عن ربيع كُردي مفترض.
كما فتحت احتجاجات ربيع ٢٠١١ باباً واسعاً للحديث حول هويات الأحزاب الدينية في كُردستان، وهي بمجملها أحزاب إسلامية-سنية تتراوح تواريخ نشوئها بين فترات تاريخية مختلفة، وتختلف فيما بينها على مسائل تاكتيكية متعلقة بالجهاد والمشاركة في السلطة. تأثرت الحركة الإسلامية في كُردستان العراق التي تأسست عام ١٩٨٧ على يد المُلا عبد العزيز وتحتل مقعداً واحداً في البرلمان، بالنموذج الأفغاني وتبنت التكفير العلني لجميع المظاهر المدنية.
قبل عامين من نهاية القرن العشرين، جمعت جبهة مؤقتة كل من الحركة الإسلامية وحركة النهضة اللتان كانتا تنطلقان من فكر جماعة الإخوان المسلمين أيضاً، وشكلتا حركة الوحدة. سرعان ما تفككت تلك الحركة إذ تم إعلان تأسيس أنصار الإسلام في كردستان الذي تشكل من تنظيم جند الإسلام وجمعية الإصلاح، وحركة حماس الكردية، وحركة التوحيد في شهر كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠١. كان تنظيم “أنصار الإسلام” واحداً من التنظيمات المتطرفة التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية وأصبح هدف لغارات الجيش الأمريكي أثناء احتلال العراق عام ٢٠٠٣. وقد أرتكب جريمة على غرار ما يرتكبه تنظيم "داعش"، حيث ذبح في قرية (خيلي حمة) حوالي عشرون عنصراً من الموالين للاتحاد الوطني الكُردستاني في أيلول عام ٢٠٠١.
في يوليو 2001، تم الإعلان عن تشكيل جند الإسلام وفي اليوم الأول من ذلك الشهر، أصدرت المجموعة بيانا يتهم الأحزاب الكردية العلمانية بالكفر والعمالة للجهات الأجنبية، وهو ما أدى إلى وفاة حركة الوحدة الإسلامية في كردستان قبل أن تولد.
كانت كل تلك التحولات، بالإضافة إلى التصدع الذي شكلته للأحزاب القومية الكُردية، بمثابة صدمات متعاقبة للحركة الإسلامية ذاتها في كُردستان، لكن الحركة الإسلامية لقيت الصدمة الكبرى حين قرر أحد قياديها وهو على بابير الانشقاق عنها عام ٢٠٠١ وإعلان تشكيل (الجماعة الإسلامية). وقد خرج مع القيادي الشاب حينئذ، حوالي ٨٠٪ من الكوادر السياسية والعسكرية. بذلك ضعفت الحركة وأصبحت منذ ذلك الوقت أضعف حزب إسلامي في كُردستان.
أما الجماعة الإسلامية في كردستان التي يرأسها على بابير فهي امتداد للحركة ذاتها، إنما بخصوصية محلية كُردية وتحتل (5) مقاعد في البرلمان. ترتكز البنية السياسية والآيديولوجية للجماعة على هوية كُردية متجذرة في الإسلام ولا تتردد في معاداة أي طابع علماني للنظام السياسي.
يجدر الإشارة هنا إلى أن الحركات الإسلامية الكُردية باختلاف هوياتها السياسية، لا تختلف فيما بينها حول نظام الحكم. ولكن المَيل الباطني لحكم الشريعة من جانب وشراكتها مع الأحزاب القومية في المؤسسات السياسية والتشريعية، منعها من إبراز دور يمكن من خلاله استقطاب الشباب. وبالنظر إلى الأعداد الضخمة من الشباب الكردي الذي انضم إلى تنظيم "داعش" في مناطق مختلفة من كُردستان، يمكننا القول بأن الأحزاب الإسلامية الكُردية، حالها حال الأحزاب القومية، فشلت في تفريغ حمولة داعش الآيديولوجية، وتفسيرها للدين بطبيعة الحال.
يختلف الاتحاد الإسلامي الكُردستاني، وهو فرع الإخوان المسلمين في كُردستان تأسس عام ١٩٩٤، عن باقي الأحزاب الإسلامية اختلافا طفيفاً فيما يخص رؤيته وتأسيس حكم الشريعة. وخلافا للحركة الإسلامية التي نشأت في إيران ولديها جناح عسكري، نشأ الاتحاد الإسلامي الكردستاني في كردستان العراق ولم يكن لديه جناح عسكري. ومع ذلك، يعتبر الاتحاد الإسلامي الكردستاني أقل ميلاً للوضوح السياسي حول المنهج الجهادي الذي اعتمدته الحركات. لقد كان الحزب قبل تاريخ تأسيسه، عبارة عن منظمة باسم (الإغاثة الإسلامية) حيث استطاع تأسيس الحاضنة الاجتماعية والثقافية والنفسية قبل الكشف عنه نفسه كحزب سياسي، وذلك من خلال العمل الخيري المتمثل بتوزيع الاحتياجات اليومية مثل الغذاء والملابس والنقود على الناس. كما عمل بين المؤسسات التربوية والصحية في القرى والمناطق البعيدة عن المراكز الحضرية. وقد استطاع من خلال سياسة “ليّنة” وغير عسكرية، تأسيس جيل جديد تكفل بتربيته الآيديولوجية والفكرية نهاية تسعينات القرن المنصرم والعقد الأول من الألفية الثانية، إيصال كوادره -بشكل خاص الكوادر النسائية- في مجالات الطب والتربية والهندسة والإعلام والعلوم الحديثة إلى غالبية المؤسسات في إقليم كُردستان. تتميز هوية سياسة الإخوان المسلمين في كُردستان كمثيلاتها في المنطقة والعالم، بخصوصية مدنية مرنة، تملك قدرة الامتصاص قبل الاصطدام، إنما لا تنفك سياسته عما يرسمه الإخوان المسلمون في المنطقة والعالم.
قصارى القول، قد تمكّن الاجتماعات الحالية القادة الإسلاميين من توحيد التيارات الثلاث، الاتحاد الإسلامي الكردستاني، والجماعة الإسلامية الكردستانية، والحركة الإسلامية الكردية. وبرغم مواقف سياسية إسلامية مختلفة تجاه سلوك وقسوة تنظيم “الدولة الإسلامية” المعروف بداعش، إنما يبقى اتخاذ موقف صريح وواضح بخصوص التفسيرات الدينية التي يعتمدها "داعش" للسبي والعبودية تجاه الديانة الإيزيدية وفرض الجزية على المسيحيين في سوريا والعراق مطلباً ملحاً آنياً ومستقبلياً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأحزاب الإسلامية في حكومة كردستان اتخذت موقفا واضحا من تنظيم "داعش" حيث ينظر بعضها إلى التنظيم على انه غير إسلامي، بينما يرى أخرون انهم مجموعة من المسلمين الخوارج. ولا ننسى في هذا السياق سياسات واشنطن والاتحاد الأوروبي إذ لا يمكن تصور منطقة الشرق الأوسط دونها، فهي سياسات ترى في حماية الأقليات الدينية والعرقية وإدماجها في منظومات الحكم والحياة السياسية عنصر من عناصر نجاح الحكم الرشيد والقيم الكونية. وقد خصصت كل من الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من أجل ذلك أموال كبيرة في العراق. كما يمكن القول بأن أي موقف واضح تجاه الأقليات والدينية في خطاب الحركات والأحزاب الإسلامية ودحض التفسير الداعشي للدين، ملحاً لمنع وقوع المزيد من الكوارث كما حدث للإيزديين والمسيحيين عام ٢٠١٤.