- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استعادة الإرث اليهودي في العراق
في خضم الدعوات المتزايدة لدعم التعددية في العراق، ينبغي على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات من شأنها تعزيز الحفاظ على التراث اليهودي العراقي قبل فوات الأوان.
في 24 أيلول/سبتمبر، اجتمع 312 من قادة المجتمع الديني والمدني العراقيين في أربيل للدعوة إلى المصالحة مع الجالية اليهودية العراقية النازحة والسعي للتوصل إلى سلام مع إسرائيل. ورغم انتقادات الحكومة العراقية اللاذعة، كان ذلك الحدث الملفت إثباتًا نادرًا لمدى ارتباط العراقيين على المستوى الشعبي بالإرث اليهودي المتواجد في البلاد.
واليوم، يتلاشى هذا الإرث أكثر فأكثر. فعندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، لم يبق سوى 35 يهوديًا في بغداد، في تراجع هائل بعدما فاق عدد اليهود المقيمين في العراق 150 ألفًا في بداية القرن العشرين. وقد تقلّص عدد أبناء هذه الجالية بسبب الهجرة الجماعية في أربعينيات القرن الماضي الناتجة عن الاضطهاد المعادي للسامية بعد نجاح الحركة الصهيونية وقيام دولة إسرائيل.
أما الحكام العراقيون المتعاقبون، فلم يتوانوا عن جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لليهود، إذ اتهموهم بالتعاون مع إسرائيل وسنّوا مجموعة من القوانين المعادية لليهود. وبدأت الهجرة فعليًا بعد عام 1941 عندما أقدمت حكومة جديدة تشكّلت بعد انقلاب موال للنازيين، على ارتكاب مجزرة بحق اليهود عرفت باسم الفرهود. وعلى أثر هذه الحادثة، فقد المجتمع اليهودي حس السلامة التي كان ينعم به في السنوات الماضية، وفهم الكثير من اليهود العراقيين أن مستقبلًا قاتمًا بانتظارهم.
وبعد فرارهم، جردتهم الحكومة من الجنسية وصادرت ممتلكاتهم وسنّت تشريعات تضغط عليهم للمغادرة. أما بالنسبة للذين بقوا، فتمّ تجريم الانتماء إلى الصهيونية في عام 1948، وأعدمت الحكومة الكثير من اليهود العراقيين المتهمين بأنهم صهاينة أو بأنهم عملاء شيوعيون، وأبرزهم رجل الأعمال البصراوي شفيق عدس الذي وجهت إليه زورًا التهمتان. وبعدها، أصبحت الحياة لا تطاق أكثر فأكثر بالنسبة لمن بقي من اليهود في العراق – ففي بداية ستينيات القرن الماضي، طُلب من آلاف اليهود العراقيين حمل بطاقات صفراء. وبعد حرب الستة أيام في عام 1967، مُنع اليهود من ارتياد الجامعات أو تلقي عروض عمل من غير اليهود أو إنشاء شركاتهم الخاصة. وأُعدم 14 يهوديًا شنقًا بسبب هويتهم الدينية في عام 1969.
غير أن الإطاحة بصدام حسين واستلام حكومة ديمقراطية الحكم حملا بعض التفاؤل بإمكانية تغيّر الوضع، ولكن البروز السريع لحركة تمرد شملت أعضاء سابقين من النظام وجهاديين ومتعصبين شيعة تلاه صعود تنظيم "الدولة الإسلامية"، حطم تلك الآمال بتجديد الإرث اليهودي العراقي. ولكن اليوم – بعد سقوط خلافة "الدولة الإسلامية" في العراق وتنامي الدعوات المنادية بالتعددية داخل العراق – حان الوقت للمطالبة أخيرًا باستعادة الإرث اليهودي في البلاد.
العراق والجالية اليهودية
إنه إرث غني ونابض بالحياة؛ فتاريخ اليهود في العراق يعود إلى 2600 عام. فقد قدم اليهود أولًا إلى بابل بعدما دمّر الملك البابلي نبوخذ نصر أول هيكل في القدس في القرن السادس قبل الميلاد. ورغم الفترات المتقطعة من الاضطهاد الذي تعرض له اليهود، إلا أنهم غالبًا ما نجحوا في المنفى البابلي وكانوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع العراقي، إذ أصبحوا أطباء ومحامين ومسؤولين حكوميين وتجارًا وحرفيين ناجحين. وفي أسواق بغداد، عمل اليهود كصاغة وحدادين وتجار ملابس بارزين، أما في البصرة، فعمل الكثير منهم في هيئة المرفأ الهامة. وبحلول مطلع القرن العشرين، شكّل اليهود شريحة مهمة من أكبر ثلاث مدن عراقية: فقد شكّلوا ما يصل إلى 40 في المائة من سكان بغداد، وربع سكان البصرة وجزءًا كبيرًا من سكان الموصل. وفي أواخر أربعينيات القرن الماضي في بغداد، كانت الجالية اليهودية تموّل أكثر من 60 كنيسًا ومدرسة ومستشفى وعيادة صحية.
هذا وشارك اليهود العراقيون بشكل فعال في المجتمع العراقي خلال فترة ما بين الحربين. ففي عام 1921 – عند تأسيس مملكة العراق تحت الإدارة البريطانية – تمّ تعيين الممول اليهودي والمسؤول الحكومي هيسكل ساسون كأول وزير للمالية وساهم بشكل فعال في تأسيس مؤسسات الدولة العراقية الجديدة. واكتسب أيضًا الموسيقيون اليهود شعبية كبيرة في العراق، كما كان معظم أعضاء المجموعة التي مثلت العراق في "مؤتمر الموسيقى العربية الأول" في القاهرة في عام 1932 من اليهود. ومن بين أعضاء المجموعة البارزين، عازف العود الشهير عزرا أهارون الذي منحه الحاكم العراقي عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد على التوالي جائزتين في أواخر عام 1948 وعام 1949.
وكانت التعددية في العراق وصلت إلى مستوى عالٍ. فتحدث الملك فيصل الأول، في أول خطاب له، عن المكانة المتكاملة لليهود في المجتمع العراقي: "لا تحمل كلمات مثل يهود ومسلمين ومسيحيين معنى ضمن مفهوم القومية. هذا بلد يدعى العراق والجميع هم عراقيون".
إحياء الاهتمام بالإرث اليهودي العراقي اليوم
ليس هناك اليوم إلا شواهد حية معدودة على ذلك الماضي. فلم يبق سوى ثلاثة يهود في العراق، كما أن الجهود لإحياء المجتمع اليهودي ضئيلة. وطبعًا ثمة استثناءات على غرار الحفاظ على مرقد النبي اليهودي الصغير ناحوم في القوش بدعم من الحكومة الأمريكية و"حكومة إقليم كردستان" والمنظمات غير الحكومية والجهات المانحة الخاصة. ويكتسي ذلك أهمية خاصة بالاستناد إلى تقرير نشرته العام الفائت "مبادرة التراث الثقافي اليهودي" مفاده أن نحو 90 في المائة من المواقع الثقافية اليهودية في العراق بحاجة إلى عملية ترميم ضخمة أو يستحيل ترميمها أساسًا.
لكن ما يبعث أملًا أكبر هو التغير الأشمل في المجتمع العراقي تجاه زيادة التعددية إلى جانب ازدياد الوعي بالتاريخ اليهودي في العراق. فعلى سبيل المثال، أعاد عمر محمد – المؤرخ العراقي الذي اشتهر بتقاريره المبطنة حول احتلال "الدولة الإسلامية" للموصل (بين عامي 2014 و2017) – اكتشاف التاريخ اليهودي للمدينة خلال قيامه بالبحوث اللازمة لمدونته "عين الموصل" (Mosul Eye). وهو يسعى الآن إلى إحياء الاهتمام بالإرث اليهودي في الموصل من خلال عمله وقد سلّط الضوء على عمل مجموعة من المتطوعين الشباب في الموصل لترميم معابد ومواقع تاريخية أخرى العام الفائت. ويتمثل مؤشر آخر على هذا التوجّه في نشر لمحات التاريخ العربي ليهود العراق المؤلف من جزئين في العراق عام 2016 والأعمال اللاحقة المرتبطة بهذا الموضوع التي قام بها المؤلف العراقي نبيل عبد الأمير الربيعي.
وعلى الصعيد السياسي، برز أيضًا تحول تدريجي مهم تجاه التعددية. فمنذ عام 2014، كان رؤساء الوزراء العراقيون معتدلين عمومًا، ولو أنهم كانوا ضعفاء سياسيًا بالمقارنة مع رؤساء الوزراء الأوروبيين. وبشكل خاص، بعد تدمير تنظيم "الدولة الإسلامية" لمواقع ثقافية، برزت رغبة بإحياء حس جماعي بالهوية الوطنية العراقية التي تشمل الأقليات وترفض الطائفية وتنامي النفوذ الإيراني. وينعكس ذلك في نجاح "تحالف سائرون" غير الطائفي القومي التابع لمقتدى الصدر في الانتخابات البرلمانية العراقية في عام 2018، إلى جانب التصريح الذي أدلى به الصدر في ذاك العام بأنه سيرحب بعودة اليهود الذين تمّ طردهم من البلاد لأن "ولاءهم كان للعراق"، وقد كانت المرة الأولى التي يتطرق فيها سياسي عراقي إلى هذه المسألة منذ سنوات.
وفي حين لا يُعتبر مقتدى الصدر شخصية سياسية مهتمة بالتطبيع، برزت مؤشرات حتى على أن بعض الشخصيات العراقية مهتمة بتغيير سياسات البلاد المعادية بشدة لإسرائيل. فغالبية الجالية اليهودية العراقية – أكثر من 220 ألف شخص – تعيش في الدولة اليهودية، ومن شأن الحوار مع العراق أن يسهل جهود المحافظة على الإرث اليهودي العراقي. وقد أعربت إسرائيل حتمًا عن اهتمام غير رسمي بالتواصل مع العراقيين بما في ذلك الترويج للحوار من خلال حملتها على وسائل التواصل الاجتماعي باللغة العربية تحت عنوان "إسرائيل باللهجة العراقية" التي حظيت ببعض المشاركة الإيجابية من مستخدمين عرب. علاوةً على ذلك، بعد التطبيع مؤخرًا للعلاقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، أظهر بعض السياسيين العراقيين استعدادًا لخوض رحلة التطبيع بأنفسهم، لكن المسألة تخضع لمعارضة شرسة من ميليشيات نافذة متحالفة مع إيران في البلاد، كما أن كل من يؤيد التطبيع لم يعرب علنًا عن ذلك بسبب خوف مبرر من الانتقام. وكانت هذه الميليشيات ردّت أساسًا على مؤتمر أربيل جرى المنظم مؤخرًا بتهديدات ضد الذين حضروه وبـ"الجهاد" ضد "العرائن الصهيونية-الأمريكية". مع ذلك، يعدّ الانفتاح المتزايد، إنما الحذر، تجاه إسرائيل بارقة أمل أخرى على استعادة الإرث اليهودي العراقي.
وفي وقت أصبحت فيه الجالية اليهودية غير موجودة تقريبًا في العراق وسط بروز القوات المتحالفة مع إيران، بدأ الوقت ينفد للحفاظ على الإرث اليهودي العراقي. وبالتالي، على الولايات المتحدة اعتبار الترويج للاهتمام بالموضوع مهمًا سواء كوسيلة لتعزيز الجهود تجاه تعددية المجتمع العراقي أو كقضية إنسانية. فالترويج لترميم المواقع الثقافية على غرار مرقد ناحوم – إلى جانب معابد ومقابر ومراقد قديمة أخرى – يعتبر مسعى مهمًا أيضًا. ويمكن لوزارة الخارجية الأمريكية و"الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" تقديم دعم من خلال التعاون مع المنظمات غير الحكومية والأفراد المعنيين بالترميم. ولزيادة التوعية إزاء هذه المسألة، قد يسلّط الأمريكيون الضوء على جهود الترميم في البيانات الصحفية أو يعرضون المساعدة على صعيد ضمان أمن الزوار الذين يروجون لها. وينطبق الأمر نفسه على جهود ترميم المواقع التاريخية العائدة لأقليات أخرى، على غرار المعبد الأيزيدي لالش أو الكنائس والأديرة المسيحية في الموصل، للحفاظ على الإرث العراقي التعددي والمتعدد الثقافات.
وفي نهاية المطاف، يجب أن تترافق هذه الجهود مع زيارات لأشخاص كانوا مشردين سابقًا من العراق، لكن ذلك يعتمد على الوضع الأمني. فقد سمع أولاد وأحفاد اليهود العراقيين المشردين (وأنا واحد منهم) روايات إيجابية للغاية عن الحياة في العراق قبل عام 1941. وهم لا يسعون عمومًا إلى الانتقال إلى العراق، لكنهم مهتمون بزيارة المكان الذي أطلق عليه أسلافهم تسمية الوطن لأكثر من ألفيتين ونصف وربما المساهمة بفعالية في إعادة الإعمار. ومن وجهة النظر هذه، يُعتبر الوجود الأمريكي في العراق أساسي بما أن رسالته لمكافحة الإرهاب تقترن بمفاعيل من الدرجة الثانية ألا وهي حماية المواقع الثقافية والأقليات المتبقية في العراق كما فعلت في أفغانستان قبل الانسحاب.
وناهيك عن المسألة الأمنية، ستُصدر الحكومة العراقية بيانًا مهمًا من خلال تسهيل سفر اليهود المشردين من العراق، وربما من خلال تقديم تأشيرات خاصة أو جنسية إلى الذين هربت أسرهم. ويمكن للموظفين الحكوميين الأمريكيين تقديم الدعم في هذا الشأن عبر المساعدة في تنظيم اجتماعات بين القادة المعنيين بالإرث اليهودي العراقي والسلطات العراقية المهتمة بالموضوع.