- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استعادة المقام المعنوي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط عبر التركيز على الإصلاح والمجتمع المدني
تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة التركيز على قيمها من أجل مكافحة السرديات الإعلامية الانتقادية والتقدير المتزايد للصين.
عانت الولايات المتحدة من مصداقية مهتزّة حتى قبل تولي دونالد ترامپ الرئاسة عام ٢٠١٧، ولم تجد الآذان الصاغية لإصرارها أن مصالحها تتحقق بشكل أفضل حين يكون إطارها القيم العالمية وحقوق الإنسان. وعندما حلّ دونالد ترامپ، فإن الضئيل المتبقي من المصداقية تعرّض للمزيد من الانتكاسات. لم يكن الأمر ذا شأن بالنسبة للبعض، بل اعتبر أنه بوسع واشنطن المضي قدماً بتوجهاتها، وإن جرى التخلي عن تصويرها كقوة للخير، وإن اقتصر تفاعلها مع محاوريها في الشرق الأوسط على حساب فجّ للمصالح المباشرة.
على أن هذا المنحى غير قابل للاستمرار إذا كانت الولايات المتحدة ترغب بالمحافظة على قدرتها على التأثير في الشرق الأوسط، إذ من شأنه رفع مستوى التوتر والتسبب بأوضاع غير مستقرة عرضة لمتغيرات غير قابلة للضبط. والأهم أن ذلك مخالف لتوقعات الجمهور الأميركي ومتعارض مع القيم الأميركية الراسخة. فمن شأن الولايات المتحدة أن تنظر في سبل التخلي عن دورٍ تُطرح علامات استفهام حول فعاليته، كشرطي للعالم، على أنها مطالبة ذاتياً، نتيجة القناعة في مجتمعها حول مكانتها، كما انطلاقاً من سجلّها الثابت بالتفاعل مع العالم، بأن تبقى المرجعية المعنوية لعالم اليوم، على ما يعاني منه من ندرة الديمقراطية الصادقة والحكامة الناجعة.
تأتي إدارة الرئيس جو بايدن لتواجه مجموعة واسعة من القضايا المحلية الشائكة، وسط حاجتها المستمرة لمجابهة مناورات روسيا، غريمتها التي كانت إلى أمس قريب بموقع القوة العظمى، والتي تسعى إلى استعادة هذا الموقع اليوم، ووسط الضرورة القصوى لإدارة الصعود المتحقق للصين ليبقى هادئاً، في سعي الصين إلى تعزيز موقعها كالمنافس الأول للولايات المتحدة اقتصادياً ومن حيث القدرة على التأثير.
هنا، أي في التحدي العالمي الذي يشكله الشأنان الروسي والصيني، تبرز حاجة الولايات المتحدة إلى ترميم الثقة التي تأذت في علاقتها مع حلفائها الغربيين. ومع حساب الأولوية التي تقتضيها هذه المسائل، تتابع واشنطن تخصيص الاهتمام والموارد لمعالجة قضايا الشرق الأوسط المتواصلة - إسرائيل / فلسطين، إيران. العراق، الإرهاب - وقد تضيف إليها أخرى مستجدة تستوجب الانتباه - بما في ذلك سوريا واليمن وليبيا. على أن حدة التركيز في كافة هذه المسائل تبقى محكومة بموازنة مجموعة الأولويات.
ليست هذه هي القراءة السائدة في الشرق الأوسط. لا شك أن الولايات المتحدة تحتل مكانة منتفخة في الفكر والنشاط السياسيين في المنطقة. والتوقعات، مهما كانت ذاتية وأهوائية، هي أن المنطقة تُخصّص بالتالي باهتمام مقابل من جانب الولايات المتحدة يوازي ما توليه هي لها.
والطابع الطاغي لمركزية الولايات المتحدة في الخطاب السياسي في معظم المحيط العربي يبدو جلياً في التقييمات المتعارضة للسياسة الأميركية في المنطقة: فواشنطن غالباً تتعرض للتأنيب لإفراطها بالتدخل ولخططها المفترضة للهيمنة والتسلط، ولكنها في الوقت نفسه تواجه اللوم الشديد لتفريطها بالمنطقة وإهمالها لها ولافتقادها للرؤية الواضحة للتفاعل معها. ما يتفق عليه السياسيون والمفكرون من الصفين هو أن الولايات المتحدة، بأعمالها وسياساتها، متجهة نحو الفشل، على حساب مصالح المنطقة ومصالحها الذاتية في آن واحد. ثم أن اللازمة التي ما فتئ يرددها الجميع منذ عقود هي أن زمن تفوق الولايات المتحدة وهيمنتها على المنطقة قد ولّى، أو أنه أوشك أن يولّي، وأن قوى عالمية جديدة تحقق الصعود في عالم لم يعد أحادي القطبية.
لا شك أن الظروف التي صاحبت انتهاء الحرب الباردة، والتي وضعت الولايات المتحدة في موقع القيادة وجعلت منها القوة العظمى الوحيدة في العالم، قد تراجعت. والشاهد على ذلك هو الوضع الحالي لكل من الصين وروسيا. على أن غالب التقييمات المتداولة في الخطاب السياسي العربي لا تبدو وليدة المعطيات والوقائع، بل تكاد أن تعكس بالدرجة الأولى رغبات أصحابها. فالتحدي الذي يواجه واشنطن مزدوج، هو تفنيد الصورة السلبية للولايات المتحدة والتي يروجها خصومها، كما هو إدارة توقعات المحاورين الأقل سلبية في المنطقة. فملاحقة السرديات المتداولة في المنطقة هو خطوة أساسية لاسترداد التحكم بصورة الولايات المتحدة في المنطقة وتبديد ما يحيط بها من توقعات ومخاوف غير واقعية وإعادة تركيزها باتجاه موقف معنوي أكثر قابلية للديمومة.
تهيمن على الفضاء الإعلامي العربي ثلاث سرديات رئيسية، بما يعكس التشذيب الذي طال كل من الإعلامين المرئي والمطبوع في عالم أضحت وسائل التواصل الاجتماعي الأبرز فيه. ولكن هذه الوسائل، بما تشكله من منافذ إعلامية جديدة، تبدو قادرة على مضاعفة السرديات السائدة، لا على إنتاج سرديات بديلة.
السردية الأولى، وهي وريثة الخطاب القومي واليساري والذي ازدهر في عقود ماضية، «مملوكة» لإيران. والترويج لها يجري من خلال وكلاء إيران وأذرعها المتعددة في عموم المنطقة، غير أن الجزء الوازن من إنتاجها يرى النور في الضاحية الجنوبية لبيروت، أي في العاصمة الفعلية لحزب الله اللبناني. خلاصة الطرح الذي تقدمه هذه السردية هو أن مصاب المنطقة هو في المساعي الخبيثة للولايات المتحدة للاستيلاء على ثرواتها والسيطرة على حكوماتها، وأن القوى الوطنية المحلية، وإيران في طليعتها، تتصدى لها وتقاومها.
أما السردية الثانية، والتي تحتضنها قطر وتركيا، إذ تجمل بدورها بعض التوجهات القومية واليسارية، فإن زخمها الأول، بما يتجاوز التلميح، هو الترويج للتوجهات الإسلامية القابلة للتوافق مع النظم السياسية القائمة بوصفها الحل الوسط الكفيل بأن يحقق قدراً من التمثيل الصادق في الحكم وأن يصل بالمنطقة إلى السلام، رغم أن لحظة الحماس لهذا الطرح قد ولّت منذ فترة غير وجيزة. والولايات المتحدة، وفق هذه السردية تتأرجح بين السذاجة والخطأ في التقدير والتوجيه، وبين وصفها بالخاضعة للاعتبارات والمصالح الضيقة أو لأصحاب الأغراض المشبوهة.
أما السردية الثالثة، والتي تتبناها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فتسعى إلى طرح نفسها على أنها معتدلة وإقدامية، رافضة للإرهاب والتطرف، ومعتنقة لرؤية كاملة للسلام، فيما هي تصنّف إيران على أنها الخطر الداهم الذي تتعرض له المنطقة. وكان تصوير الولايات المتحدة ضمن هذه السردية إلى أمس قريب إيجابياً في غالبه، مع توجيه النقد لها حينئذ لتأييدها المطلق لإسرائيل. ومع قدوم رئاسة ترامپ، فإن هذه السردية قد أتمت الانتقال إلى دعم كامل للسياسات الأميركية، وانقلبت بموقفها تجاه إسرائيل نحو الاحتضان التام، ليجري معه توجيه اللوم إلى قطر وتركيا على أنهما مصدر الإساءة في المنطقة، بالإضافة إلى إيران.
أما اليوم، فإن إدارة بايدن تواجه الحالة غير المسبوقة في أنها موضع إدانة من السرديات الثلاث الكبيرة على مدى المنطقة. فسردية طهران-الضاحية تعتبر أن الولايات المتحدة في ظل بايدن ليست صادقة لانتهاجها سياسات لا تختلف إلا شكلاً وتجميلياً عن تلك التي اعتمدتها إدارة ترامپ، فيما سردية الدوحة-أنقرة ترى في سلوك إدارة بايدن وهناً وضعفاً وافتقاداً للعزيمة والرؤية. أما سردية أبو ظبي-الرياض فتصف الخطوات الأميركية في العهد الجديد بالطائشة والانتقامية وغير المنتجة.
وتحظى هذه السرديات برمّتها بالدعم الإضافي من النشاط الإعلامي الروسي والذي يبذل الطاقات في تصوير الولايات المتحدة من خلال أدواته المتعددة على أنها مارد متهاوٍ وخبيث، كما يمكن تبين بعض ملامح مجهود إعلامي صيني في العديد من دول المنطقة، كجزء من مسعى الصين إلى تعزيز صورتها كدولة سيادية ومسؤولة على مستوى العالم. على أنه إذا كان ثمة جهد ملموس للترويج للصين، فإنه يعود بالدرجة الأولى لا إلى دفع من الصين نفسها، بل إلى استدعاء لها من جانب توجهات سياسية ثلاثة، كل منها له حضوره، وإن بمقادير مختلفة، في السرديات الثلاث الطاغية.
أول هذه التوجهات هو دعم مفهوم أبوية الدولة، والذي يعتبر الوطن عائلة، الدولة فيها هي الوالد الذي يمنّ على أولاده المواطنين بالمكارم ويقتص منهم وفق الحاجة. أما التوجه الثاني فهو نقد «النيوليبرالية» الغربية في كلام تورية وحذر، أو الرأسمالية نفسها في كلام يغيب عنه التحفظ، على أنها العائق أمام تحقيق النجاح الاقتصادي. في حين أن التوجه الثالث ينشغل في إدانة الانحطاط الأخلاقي الغربي والمتجلي في ترويج الغرب للمثلية والسفاد والفوضى الاجتماعية.
والسرديات الثلاث، حيث أن كل منها برعاية أنظمة سياسية أبوية، متفقة على التأصيل لمفهوم أبوية الدولة. فيما انتقاد الرأسمالية يتكرر بانتظام في الإعلام الموالي لإيران. وقد يستدعي الإعلام الصادر عن المؤسسات المدعومة من الدوحة-أنقرة نقد الرأسمالية لتفسير النتائج الاقتصادية المحرجة وتبريرها. أما إدانة الانحطاط الأخلاقي، فيجري اللجوء إليها وظيفياً من جانب كل من السرديات الثلاث، من خلال المقارنة بين السلوك الغربي في هذا المضمار والنفاق المزعوم الظاهر على الخصوم في المنطقة (كأن تجري المقارنة بين شيوع الدعارة في الغرب «المنحط» وبين ممارسات مشابهة لدى الخصم، سواء «المتعة» الشيعية أو «المسيار» السني السعودي، أو أن يجري الطعن بتركيا ومزاعمها للريادة الدينية لإلغائها تجريم المثلية).
لروسيا قدر متبقٍ من التقييم الإيجابي عائد إلى سوابقها السوڤياتية، غير أن أفعالها المدانة وأحوالها المتردية أكثر من أن تسمح بالتغاضي عنها عند البحث عن الدولة القدوة والمثال. أما الصين، فيبدو أنها تستوفي كل المطلوب - والمطلوب هنا هو ما تضمره التوجهات الثلاثة، فالصين تعتمد الدولة الأبوية، والاقتصاد الموجه، والضبط الاجتماعي الأقصى، ثم أنه لها ثمة جوهرية قد لا يأتي ذكرها صراحة، وهي أنها غريمة الولايات المتحدة ونقيضها.
إذ بالفعل، فإنه غالباً ما يكون الترحيب بالصين والتغني بصفاتها بديلاً شكلياً للعداء للولايات المتحدة والمستوطن في معظم الثقافة السياسية العربية، أكثر منه دعماً وتأييداً للصين وسياساتها ومواقفها، بل تحتفظ هذه السياسات والمواقف بطابع من الغموض بالنسبة لمعظم من هم في موقع صياغة القرار أو الرأي في المنطقة.
على أن المراقبة المنتشرة في كل مكان، والقيود على استعمال الشبكة العالمية، بل ربما فكرة الرصيد الاجتماعي للتحكم بالسلوك الفردي، وجميعها من الأساليب المتحققة في الصين، هي من الأمور التي تلقى الاستحسان لدى الأطراف السياسية المختلفة في المنطقة، سواء منها التي في موقع الحكم أو الطامحة إليه.
بل إن النجاح المفترض والاستقرار المزعومين والمصاحبين لتطبيق هذه الأفكار في الصين يشكل تأييداً بالنسبة لهذه الأطراف في مقاومتها للدعوة إلى تجنبها والتي يتقدم بها الغرب تأييداً لأصوات محلية معارضة. أي أن النقد العربي لإدارة بايدن قد يبدو في الظاهر أنه نتيجة خلاف في السياسات والتوجهات، غير أنه قد يكون أولاً انعكاساً لاختلاف في القيم.
وفي منطقة يغلب على دولها الاستبداد والفشل، لا يمكن الافتراض أن السرديات الطاغية والحكومات التي تمكّنها تعبّر عن لسان حال الجمهور بأكمله. قد يكون جزء كبير من هذا الجمهور راضخاً للحكم غير الخاضع للمساءلة، وذلك بناءاً على عقد اجتماعي يقايض جملة من الخدمات العامة بالخنوع السياسي. على أنه، مع تصاعد فشل الحكومات بالإيفاء بما يقتضيه هذا الترتيب منها، فإن الاطمئنان إلى استمرار صيغة التحكم السياسي هذه قد لا يكون في محله. وسواء كان الأمر ناتجاً عن الحاجة أو ناجماً عن تبين البدائل من سائر العالم، فإنه اليوم ثمة أقلية فاعلة على مدى المنطقة تطالب بأنظمة حكم قائمة على مركزية المواطن ومرجعيته.
والمطالبة بالإصلاح انتقلت في تسعينات القرن الماضي من الأحزاب السياسية إلى منظمات المجتمع المدني، وذلك نتيجة انغماس الأحزاب بالجدل العقائدي وتورطها بالبنى التنظيمية المتحجرة. وكانت حركة المجتمع المدني، في أول عهدها، استمراراً للنشاط الأهلي القائم على العمل الخيري. غير أن هذه الحركة تطورّت من الاعتماد على النظرة الخيرية بالأمس إلى اعتناق النظرة الحقوقية اليوم.
وقد كانت للدول الغربية والمنظمات الدولية غير الحكومية مساهمة كبيرة في تعزيز قدرات المنظمات المحلية الصاعدة في عموم المنطقة، وتوفير الأرصدة لها. على أن الدعوات للإصلاح، من المطالبة بانخراط المواطنين بالعملية السياسية إلى التمثيل العادل في صياغة القرار، مروراً بالشفافية عند التصرف بالمال العام، ومساءلة الأشخاص والجهات المولجة بالخدمة العامة، وحكم القانون واستقلالية القضاء، والإدارة المحلية للبلديات والمحافظات، والإجراءات البيئية، والمساواة والأمن الثقافي للأقليات العرقية والدينية واللغوية، وغيرها، ليست طروحات مستوردة، كما يزعم دعاة الأبوية باسم سلطة الدولة أو سلطة الدين.
بل إن جذور دعوات الإصلاح هذه تعود إلى القرن التاسع عشر في العديد من الحالات. أما المساهمة الغربية فقد جاءت لتقدم الموارد التي ساهمت في مواقع عدة في توضيح هذه الأفكار وتثبيتها. ثم جاء الدعم الذي حصلت عليه حركة المجتمع المدني ليفتح الأبواب أمام تحقيق وإن أولي لبعض التمكين للمواطن، وهو ما يتحدى الصيغة الأبوية ويزعج دعاتها.
والولايات المتحدة كانت قد ناصرت قوى المجتمع المدني الداعية للإصلاح وأصغت إليها، غير أنه قد جرى التشكيك بصوابية هذا الموقف وتمّ التراجع عنه خلال عهد الرئيس أوباما، ربما انطلاقاً من الرغبة بالتخلي عن سياسة الإفراط بالتدخل المنسوبة لعهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. وقد يتوجب طبعاً مراعاة ألا تنزلق منظمات المجتمع المدني لتصبح مدخلاً للتأثير من حكومات خارجية، غير أن ما تعرّضت له الدعوات الإصلاحية القائمة على المبادئ الديمقراطية والتحررية والتقدمية والعلمانية من إهمال غريب كاد أن يكون عقاباً للناشطين فيها لاعتناقهم القيم العالمية ولإشهارهم مثلاً تتماهى مع نظيراتها الغربية. وهذا الإهمال هو ما جعل بعض من كان في صلب إطلاق «الربيع العربي» من الناشطين المدنيين ومن أصحاب الطروحات الإيجابية يقبعون دون دعم، فيما أغدقت الجهات التي توجّه اليوم السرديات الثلاث الطاغية الأموال والدعم على جملة من دعاة الحكم السلطوي والديني. والحصيلة هي تبديد الطاقة البناءة في حراك قد لا تشهده المنطقة إلا مرة لكل جيل.
للولايات المتحدة قوات عسكرية منتشرة على مدى المنطقة، وهي قادرة على فرض تأثير اقتصادي كبير. غير أن قوتها الحقيقية هي في رصيدها غير الملموس بصفتها المرجعية المعنوية للعالم. لهذا الطرح نقّاد كثر، غير أنه كان له البقاء والاستمرار على مدى عقود طويلة، إلى أن جاء ما بدا على أنه نفاق من جانب إدارة باراك أوباما (ينسب لأوباما أنه وصف الأزمة السورية بأنها «استثمار مرتفع لعائدات منخفضة»)، ثم فوضى وتخلٍ صريح عن أي التزام أخلاقي من جانب إدارة دونالد ترامپ، ليطيح بهذا الرصيد إلى ما يقارب الإفلاس. ويبدو من المواقف المعلنة للرئيس بايدن ومن الخطوات الأولى لإدارته بأن الرغبة بالتصحيح قائمة.
قد لا يكون المجال متوفراً لإدارة بايدن لمعالجة كافة مشاكل الشرق الأوسط. غير أنها لا تفتقد الوسائل، وليس شرطاً أن تكون هذ الوسائل باهظة الكلفة. ففي حالة أولى بارزة، أعادت إدارة بايدن الاعتبار للجانب المعنوي من خلال تركيزها على الأبعاد الإنسانية المهملة للحرب في اليمن. موقفها هذا تعرّض للنقد والاتهام بالخبث من جميع أطراف النزاع. هو «غطاء للهزيمة» وفق تعليق الحوثيين المؤيدين لإيران، وهو «اقتصاص» سياسي انتقامي لدى الإعلام الممول سعودياً. غير أن هذه الاتهامات بالخبث الموظّف من شأنها أن تتبدد إذا ثابرت واشنطن على مواقفها، وصاحبتها بالدعوة المبدئية إلى الإصلاح والمساءلة في عموم المنطقة، وبتقدير الجهود القائمة لتحقيق الثبات في الممارسة الديمقراطية، من الانتخابات النزيهة إلى المشاركة السياسية الصادقة.
قد يدعو الأمر تعزيز التواصل بهذا الشأن مع الحكومات الصديقة والمتقبلة، ولا سيما المغرب وتونس، والأردن، والكويت، والعراق. كما قد يتطلب التوجه نحو تفاعل إيجابي مع الجهود المحلية الداعية إلى تحقيق النظم السياسية القائمة على سيادة المواطن، في لبنان وليبيا والجزائر، والسودان، وسوريا، واليمن. بل قد يتوجب المطالبة الصريحة والمبدئية للمحاسبة والمساءلة وإعادة ما جرى تضييقه من فضاء تعبير سياسي، أو حتى إتاحة المجال للجديد منه، لدى بعض الشركاء المقرّبين، تحديداً مصر والبحرين والسعودية، وقطر، والإمارات، وعُمان.
دعاة الأبوية والاستبداد باسم السلطة أو الدين في سباق مستمر لتحقيق الغلبة على خصومهم. جميعهم يسعى إلى شراكة ما أو تفاعل ما مع الولايات المتحدة. وجميعهم متفقون أن تمتنع الولايات المتحدة عن أي دعم لدعاة الديمقراطية في المنطقة. واقع الأمر أن كل من إدارتي أوباما وترامپ قد سايرت هذا المطلب وانصاعت له، مهما كانت التبريرات، ما أدّى إلى التفريط بالموقع المعنوي للولايات المتحدة وإلى تبديد وسائل القوة اللينة التي بحوزتها.
مزاج الجمهور الأميركي لا يتيح الشروع بأي تدخل جديد في الشرق الأوسط. على أن التفاعل مع هذه المنطقة قد لا يحتاج للقوة العسكرية أو الموارد المادية. بل المطلوب هو موقف قيادي معنوي من الولايات المتحدة، بصفتها الحليف أو الشريك القادر والقوي، والذي لن يرضى بالصمت على تجاوز القيم العالمية وحقوق الإنسان. إعادة التأطير هذه من شأنها رفع معنويات الناشطين، ودعوة الجزء الراضي قسراً بالأمر الواقع إلى السعي لتحقيق صالحه، وإبطال الجهود المتواطئة في الإعلام العربي لتقديم الصين كنموذج بديل. قد يكون في الأمر بالفعل «عائدات مرتفعة لاستثمار منخفض».