- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استجابة مصر لفيروس كورونا: بين الإنكار ونظريات المؤامرة
يُعدّ وباء فيروس كورونا الذي يجتاح العالم حاليًا مرضًا مُعديًا جديدًا ناجمًا عن فيروس كورونا ٢ المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس-كوف-٢)، ويعتقد العلماء أنه نشأ عن فيروس متحور انتقل عن طريق الخفافيش في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت. وسُجّل في السابع والعشرون من آذار/مارس أكثر من 549105 إصابة بفيروس كورنا المستجد "كوفيد-19" وإصابة بأمراض باطنية، ما أسفر عن وفاة أكثر من 24861 شخص حول العالم. وتوضّح هذه الأرقام نطاق الانتشار الهائل للوباء: فتعتبر إيران والكثير من الدول الأوروبية والولايات المتحدة من بين البلدان الأكثر تضررًا بالوباء حاليًا. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ إذ إن التدابير غير المسبوقة التي اتخذت للتصدي لهذا الفيروس أدّت إلى قيود اقتصادية عالمية يُتوقع أن تؤدي إلى ركود عالمي.
وفي حين لم يتضرر أي بلد في الشرق الأوسط بقدر إيران، فما كان على الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا إلا أن تقرر بسرعة كيفية الاستجابة لخطر هذا الفيروس الذي يتصاعد سريعًا. وفي الوقت الذي لجأت فيه بضعة بلدان في معرض استجابتها إلى إغلاق البلد جزئيًا أو كليًا، لم يتعامل المسؤولون المصريون أو وسائل الإعلام المصرية كما يجب مع الأزمة المقبلة. فمصر لم تعمل على التصدي للفيروس وآثاره المحتملة على الصعيد الاجتماعي والطبي والاقتصادي، بل استجابت بالمقابل بالإنكار وتبسيط الأمور والاحتماء من هذا التهديد بنظريات المؤامرة وتوجيه اللوم إلى أعداء الخارج.
ومع تفشى فيروس كورونا في مصر، قامت الحكومة المصرية باتخاذ بضعة تدابير متأخرة كفرض حظر تجول جزئي لمنع التجمعات وإبطاء انتشار الفيروس. وتم إغلاق المدارس والجامعات والجوامع والمتاحف والمواقع الأثرية، وكذلك إيقاف الرحلات الجوية من البلدان الموبوءة وإليها مثل الصين وإيطاليا مؤخرًا. كما عمل الجيش المصري بالتنسيق مع وكالات أخرى على تعقيم الشوارع والساحات الرئيسية في البلاد.
وعلى الرغم من أن وزارة الصحة أعلنت أيضًا عن قيامها بكافة التجهيزات الضرورية لمواجهة الفيروس، إلا أن النظام الصحي في مصر هشّ والأطباء غير متدربين على التعامل مع الحالات المصابة بفيروس كورونا والمستشفيات تفتقر إلى المعدات الضرورية واللازمة لإجراء الجراحات والعمليات الأساسية. وبالتالي يمكن لتفشي فيروس كورونا في بلد يتجاوز عدد سكانه المئة مليون نسمة، حيث تعيش نسبة 95 في المئة منهم على حوالي 4 في المئة من الأراضي، أن يؤدي إلى نتائج كارثية وأعداد كبيرة من الوفيات، لا سيّما في السجون المصرية لأنها مكتظة بالسجناء وتشكل بؤرة خطرة. كما أن تفشي الفيروس سيترك أثرًا وخيمًا على الاقتصاد المصري إذ قد يتدهور القطاع السياحي وتنخفض عائدات قناة السويس بشكل كبير بسبب التراجع في التجارة العالمية وقد يتضاءل أيضًا حجم التحويلات النقدية الخارجية القادمة من دول الخليج.
وحتى بعد أن أفادت بلدان عديدة، ومنها كندا وتايوان ولبنان والجزائر واليونان والولايات المتحدة وفرنسا والكويت، بأن نتيجة تحاليل السيّاح الذين سافروا إلى مصر قد جاءت إيجابية لفيروس كورونا، فقد استمرت وسائل الإعلام المصرية والمسؤولون المصريون بإنكار وجود حالات مؤكدة في مصر. ومما زاد الأمر التباسًا هو تأكيد وزارة الصحة على أن عدد المصابين بلغ 456 مصابًا، ولكن يُرجّح أن مجموع المصابين الفعلي أعلى من ذلك بكثير، كحال بلدان عديدة. إلا أن وسائل الإعلام والمسؤولين في مصر استمروا حتى بإنكار هذا العدد التقديري المنخفض، معتمدين على نظريات المؤامرة لدعم أكاذيب تزعم بخلوّ البلاد من فيروس كورونا.
تستمر وسائل الإعلام الموالية للنظام، على سبيل المثال، بإنكار تقارير موثوقة تفيد بإصابة سياح بفيروس كورونا بعد زيارتهم مصر. وفي السياق عينه، فاجأت وزيرة الصحة المصرية، هالة زايد، الشعب في منتصف شباط/فبراير بقولها إن هذا الفيروس لن يصيب مصر لأنه "يعيش في الصين وليس في مصر". وأفادت زايد أيضًا بأن الفيروس غير مُعدٍ ولا تنوي منع السياح الصينيين من دخول البلاد، "فمنظمة الصحة العالمية لا توصي بذلك".
كما أن مقدم البرامج الحوارية المؤيد للنظام، نشأت الديهي، قد أقسم على الهواء بأن مصر خالية من المصابين بفيروس كورونا. واتهم الديهي أيضًا بعض الأشخاص والمنظمات الحكومية بنشر الإشاعات عن مصر لأنهم لا يريدون رؤية مصر خالية من فيروس كورونا.
هذا وتهاجم وسائل إعلام مصرية تابعة للنظام وسائل إعلام أجنبية وتصف أخبارها بالملفقة والمضللة كلما تعارضت تقاريرها مع الإنكار الرسمي. وفي هذا السياق، تتعرض صحيفة "ذا غارديان" البريطانية لهجوم شرس لعرضها بيان دراسة طبية كندية تتناول تحليل الانتشار المحتمل لفيروس كورونا في مصر.
وجاء في هذه الدراسة التي أجراها اختصاصيون في الأمراض المعدية من جامعة تورنتو أن عدد المصابين الحقيقي في مصر يحتمل أن يتجاوز 19000 شخص. وعلى غرار ذلك، نشر الموقع الإلكتروني المصري الشهير، "اليوم السابع"، أن أحد مراسلي "نيويورك تايمز" قد حذف "تغريدة زائفة" تتناول موضوع الدراسة. وفي هذه الأثناء، كان مصدر رسمي من وزارة الصحة المصرية قد أصدر بيانًا في 16 آذار/مارس يرفض رفضًا قاطعًا نتائج الدراسة، مؤكدًا في الوقت عينه أن مصر ليس لديها ما تخفيه. وصرحت وزارة الصحة المصرية أيضًا أن قرارها للإعلان عن الحالات تم اتخاذه بشفافية بالتنسيق مع وزارة الصحة العالمية، وبأن عدد الحالات المؤكدة الصادر عن الوزارة صادق. وفي الوقت عينه، شنت الوزارة حملة إعلامية شرسة على صحيفة "ذا غارديان" في 17 آذار/مارس، وقامت وزارة الصحة لاحقًا بإلغاء اعتماد الصحيفة وأقفلت مكاتبها في مصر.
ويعمد المسؤولون أيضًا إلى التعتيم على أي معلومة "كاذبة" برأيهم على الصعيد المحلي. وكان رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قد أعلن في منتصف شهر آذار/مارس عن نيّة الحكومة في شنّ حملة على نشر الأخبار الكاذبة بشأن فيروس كورونا. ويعتبر مدبولي أن انتشار الأخبار الكاذبة أساء لصورة الحكومة في تصديها للفيروس في الخارج وأعطى انطباعًا خاطئًا عن انتشار المرض في مصر، الأمر الذي دفع بعض البلدان إلى اتخاذ تدابير إزاء البلد". ويشار إلى أن الحكومة المصرية وضعت أيضًا خطًا ساخنًا في متناول الشعب للإبلاغ عن الأشخاص الذين ينشرون هذا النوع من الإشاعات.
وأعلن وزير الداخلية في وقت لاحق في بيان ألقاه في 13 آذار/مارس أن الشرطة المصرية أوقفت ثلاثة أشخاص بتهمة نشر الأخبار الكاذبة على منصة فيسبوك في ما يتعلق بعدد الإصابات في مصر. كما أوقفت الأجهزة الأمنية المصرية مؤخرًا عائلة الناشط المصري المسجون، علاء عبد الفتاح، جرّاء تنظيمها اعتصامًا أمام مجلس الوزراء المصري مطالبةً الحكومة باتخاذ تدابير أكثر جدية لمواجهة تفشي فيروس كورونا في السجون وكذلك إطلاق سراح المساجين. وكانت والدة عبد الفتاح، ليلى سويف، وعمته، أهداف سويف، وهي كاتبة بارزة، وشقيقته، منى سويف، وربان المهدي، الأستاذة في الجامعة الأميركية في مصر، النساء الأربع اللواتي اعتقلن.
ولجأت وسائل الإعلام والمسؤولون في مصر، بهدف دعم رواياتهم بشأن الفيروس، إلى الحديث عن مؤامرة تشمل عددًا من الدول والمنظمات والأفراد، وإلى توجيه أصابع الاتهام إليهم على أنهم المسؤولين عن انتشار الفيروس. وبطبيعة الحال، إن العنصر الأكثر ثباتًا في نظريات المؤامرة المصرية، وهو "الإخوان المسلمون"، يبرز بوضوح في هذه الروايات، إذ تقوم شخصيات دينية رسمية ووسائل إعلام باتهام "الإخوان المسلمين" بالمشاركة في مؤامرة نشر فيروس كورونا بين الناس. وعلى وجه التحديد، أثار وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة، جدلًا واسع النطاق بعد قوله إن "الإخوان المسلمين" يخططون لنشر فيروس كورونا بين أفراد الجيش والشرطة والقضاء والإعلاميين.
ولم تسلم الولايات المتحدة أيضًا من هذه الادعاءات. ففي مقطع فيديو مباشر نُشر حديثًا على منصة فيسبوك، أفادت الطبيبة النفسية وصانعة الفيديوهات على موقع يوتيوب الأميركية المصرية، مي الخرسيتي، أن ذعر المصريين من "الوباء العالمي" هو ذعر واهٍ لا أساس له لأن فيروس كورونا مجرد مؤامرة روجت لها الولايات المتحدة لدفع الناس إلى "الإفراط في التسوق" وملازمة منازلهم. عملت الخرسيتي سابقًا كمقدمة برامج في قناة "القاهرة والناس"، وهي قناة موالية للنظام، وتعمل حاليًا في صنع برامج عديدة في القناة عينها.
وبالإضافة إلى ذلك، أفادت المقدمة التلفزيونية المؤيدة للنظام، بسمه وهبة، بأن الفيروس هو شكل جديد للحرب البيولوجية وتم إنتاجه في أحد المختبرات، مشيرةً إلى أن الحروب لم تعد تُشن بالطائرات المقاتلة والأسلحة الرشاشة. إلا أن وهبة لم تتهم أي بلد أو تنظيم معين في إنتاج الوباء ونشره.
ولكن من المرجّح أن يتزايد عدد الحالات في مصر، إلا أن وسائل الإعلام والمسؤولين في مصر يواجهون التهديد بالسخرية وتبسيط تعقيدات المشكلة القائمة. وفي هذا السياق، ظهر المقدم التلفزيوني، جابر القرموطي، على شاشة قناة الحياة وأجرى مقابلة مع شخص متنكر بزيّ فيروس كورونا للسخرية من التهديد. وشكر القرموطي خلال المقابلة "الفيروس" على مجيئه قائلًا له: "يشرفنا وجودك معنا في البرنامج"، بينما تذمّر "الفيروس" مصرحًا: "أنا الملام على جميع المشاكل". كما أجاب "الفيروس" على ما يقال بشأن أنه يتسبب بالذعر للعالم بأسره: "إن عطس أو سعل أحدهم، يلقي اللوم على كورونا". وأردف قائلًا: "ماذا لو حافظت على نظافتك؟ ماذا لو استخدمت المناديل الورقية بدلًا من المناشف؟"
وفضلًا عن ذلك، لم يظهر وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة، أي حسّ بالمسؤولية في تعامله مع الأزمة. وعلّق على النقاش القائم بشأن الحاجة إلى إلغاء صلاة الجمعة للحد من الإصابات، وهي خطوة اعتمدتها دول أخرى عديدة، قائلًا: "جوامعنا مفتوحة أمام جميع المصلين، فإن نفسًا لن تموت قبل أن تستوفي رزقها".
وتحدث مقدمون تلفزيونيون آخرون عن حيل طبية لتبرير التقاعس وأشاروا إلى أن فيروس كورونا لن يصيب المصريين لأن معظمهم يتناولون البصل والعدس والفاصولياء أو أن المصريين "متحصنين" من أي فيروس. وبالإضافة إلى ذلك، استضاف المقدم التلفزيوني الموالي للنظام، تامر أمين، الصحافي الكبير، مفيد فوزي، في برنامجه، وقال فوزي إن الهند هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تتأثر بفيروس كورونا لأنهم يضيفون معادن "الكروميوم" إلى طعامهم.
يجدر بوسائل الإعلام والجهات المسؤولة المصرية التعلم من تجربة إيطاليا، وهي دولة تتمتع بنظام طبي متطور ومع ذلك حصدت أعلى نسب وفيات بفيروس كورونا في العالم. فقد شاركت إيطاليا في البداية في حملة إنكار رسمية تشبه إلى حدّ كبير الموقف المصري الحالي، واستمر المسؤولون الإيطاليون بالقول إن الأمور تحت السيطرة إلى أن امتلأت مستشفياتهم بالمرضى. وبرر المسؤولون الإيطاليون إحساسهم بالأمان بحديثهم عن أن نظام الحماية الذي تنفذه إيطاليا هو الأكثر صرامة بين جميع دول أوروبا. وكما يحدث في مصر، أخطأت وسائل الإعلام والجهات المسؤولة الإيطالية في تقدير فداحة التفشي وبالتالي أساءت التعامل مع الأزمة.
إذا كان المسؤولون المصريون يودون فعلًا الحدّ من تأثير الفيروس في مصر، يجب على وسائل الإعلام والمسؤولين تغيير مسارهم والتعامل مع الأزمة بمسؤولية وشفافية. فبالشفافية وحدها تستطيع الحكومة إعادة ثقة الشعب في إجراءاتها وثقة أولئك السياح المستقبليين المحتملين الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من الاقتصاد المصري.
ويمكن لوسائل الإعلام تأدية دور أساسي في موضوع الحماية، بتوعية الشعب بتدابير الحماية التي يمكنهم اتباعها لوقف انتشار الفيروس وتجنب نشر الأكاذيب التي من شأنها الحفاظ على ماء وجه النظام على حساب تدابير الحماية الحقيقية للشعب المصري.
عندما تفاقم الوضع وازداد التفشي في إيطاليا، بدأت الحكومة بالتحذير من التجمعات الاجتماعية، ما تحول سريعًا إلى حجز منزلي في جميع أنحاء البلاد. ولكن الأشخاص المقيمين خارج "البؤرة الخطرة" في إيطاليا استمروا بارتياد الحانات والمراقص وتناول الطعام في مطاعم مكتظة والعناق والتقبيل مستخفين بقدرة الفيروس على القتل. ويسجّل الإيطاليون الآن رسائل يؤنبون فيها أنفسهم على سلوكهم المتعجرف. أما بالنسبة إلى المصريين، فيمكنهم التعلم من أخطاء إيطاليا والقيام بالتزام عام بالتباعد الاجتماعي وبتدابير أخرى ضرورية... قبل أن يفوت الأوان.