- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استراتيجية القاهرة المرتقبة للتعامل مع الإدارة الامريكية الجديدة
في حين أن السيسي قد يحتاج للاستجابة للضغط الأمريكي في ما يتعلق بحقوق الإنسان، فإنه يعلم أن بايدن لن يضر بالعلاقات مع مصر طوعا.
كان للأحداث المؤسفة التي شهدتها العاصمة الأمريكية واشنطن المصاحبة لاقتحام للكونجرس ومحاولة منع أعضاءه من التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، صدى واسع في القاهرة. وبين التعاطف القلق، والدهشة الممزوجة بالسخرية، والشماتة الواضحة انقسمت الآراء. لكن الملاحظ كان أن العديد من الإعلاميين المحسوبين على النظام وجدوها فرصة للترويج بلغة ساخرة لفكرة أن الديمقراطية التي تطالب بها المعارضة والنشطاء غير مجدية، فها أنتم ترون بأعينكم معقل الديمقراطية ينتهك، وعليه فإن اليد الحديدية هي الضامن الأول لاستقرار البلدان. أما النظام المصري فهو يرى أن ما حدث يمثل فرصة جيدة تشغل الإدارة الامريكية الجديدة عن التركيز على ملف الحريات وحقوق الإنسان الذي يقلق النظام المصري.
في أواخر شهر سبتمبر/أيلول غرد محمود بدر النائب المصري المقرب من النظام معلقا على قرارات البرلمان الأوروبي الأخيرة التي تتعلق بحالة حقوق الإنسان في مصر ، قائلا "ما صدر عن البرلمان الأوروبي من قرارات هي مؤشر على المرحلة القادمة من الابتزاز السياسي اللي سوف تتعرض له مصر، ذلك القرار هو عربون محبة من البرلمان الأوروبي لجو بايدن" . ويذكر أن قرارات الاتحاد الأوروبي هذه دعت إلى إجراء تحقيق شفاف ومراجعة شاملة لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع مصر، على خلفية استمرار حملة القمع ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين وقادة المجتمع المدني.
تغريدة النائب بدر هي تعبير واضح وصريح عن مخاوف النظام المصري حيال ما سوف يواجهه من ضغوط بعد تغيير الإدارة الأمريكية وصعود بايدن للحكم. طيلة السنوات الأربع الماضية تمتعت القاهرة بعلاقات دافئة مع واشنطن نتجت عن تلاقي تصورات الرئيس الأمريكي عن الحكم، مع أفكار نظيره المصري عبد الفتاح السيسي والذي وصفه ترامب يوما مازحا أنه "ديكتاتوري المفضل".
وقد راهن السيسي على ترامب منذ بدأ حملته الانتخابية الأولى في 2016 حين أعلن دعمه بوضوح له خلال لقائه التلفزيوني مع شبكة CNN، عندما سُئل عما إذا كان يعتقد أن دونالد ترامب سيكون قائداً قوياً ورد قائلًا "لا يوجد شك". تلك الخطوة لم تكن معتادة من حكام بلدان العالم المختلفة، الذين لا يتورطون عادة في دعم مرشح على حساب الآخر خشية أن يخسروا رهانهم وينجم عن ذلك خصومه مجانية مع الرئيس الجديد.
جاء اندفاع السيسي نحو إعلان ميله صوب المرشح الجمهوري، كردة فعل لهجوم هيلاري كلينتون على نظام حكمه الذي وصفته بـ الديكتاتوري العسكري، وقد شارات بعض التقارير الصحفية إلى تحقيقات فيدرالية أجريت حول أن دعم السيسي لترامب لم يكن معنويا فحسب، بل كان ماديا أيضا عبر إرسال 10 ملايين دولار لحملته الانتخابية 2016.
لكن سواء كان دعم السيسي لحملة ترامب ماديا أو معنويا فقط، فالمؤكد أن النظام المصري استفاد من جودة العلاقات مع البيت الأبيض أثناء حكم الرئيس ترامب الذي سانده بشكل واضح وصريح في ملفات عدة، بدأ من تغاضيه عن أزمات انتهاك الحريات المتكررة، انتهاء بوقوفه مع مصر في ملف سد النهضة الإثيوبي.
ومع ذلك، يدرك النظام المصري أن تلك العلاقة الدافئة لن تستمر في ظل وصول الديمقراطيين للحكم، ولعل الإرهاصة الأولى لانتهاء شهر العسل بين القاهرة وواشنطن أتت على يد جو بايدن نفسه حين غرد في الثاني عشر من يوليو/تموز الماضي متحدثا عن وضع حقوق الإنسان والحريات في مصر قائلا: " لن تكون هناك شيكات على بياض بعد الآن لديكتاتور ترامب المفضل".
ومع وصول الديمقراطيين للحكم بدى القلق جليا في القاهرة وهو القلق الذي عبر عنه الإعلام المصري مشيرا الى أن الإدارة الامريكية الجديدة سوف تتدخل في شؤوننا الداخلية وتحديدا في ملف الحريات. مما دفع الحكومة المصرية لمحاولة تكوين لوبي في واشنطن لدعم وجه نظرها عن طريق التعاقد مع شركة "براونشتاين حياة فاربر شريك" للعلاقات العامة مقابل 65 ألف دولار شهريًا لتنفيذ تلك المهمة.
وفى محاولة لاختبار رود أفعال المجتمع الدولي، وفور فوز إدارة بايدن بالانتخابات، جاء قرار القبض على ثلاثة أشخاص من قيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (المؤسسة الحقوقية الأشهر في مصر والمعروفة دوليا) على خلفية اجتماعهم مع سفراء أوروبيين في مقرهم، وهو الاجتماع الذي نشرت المبادرة صوره على صفحاتهم الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي. وقد أراد النظام بتلك الضربة التي تحمل قدرا من العصبية والتهور، إرسال رسالة واضحة للداخل بالأساس أن قبضته لن ترتخي بتغير قاطني البيت الأبيض، وأن زمن التلويح بكارت الضغط الخارجي الذي تم توظيفه في عهد مبارك ولى بلا عودة، أيا كانت الظروف والملابسات.
تقدير الموقف المبدئي لصانع القرار في القاهرة، كان أنه من الوارد أن تحدث ضغوط للمطالبة بالإفراج عن قيادات المبادرة، لكن العواصم الهامة مثل باريس وبرلين لن تغامر بخسارة مصر من أجل حفنة أفراد، فمصر زبون هام سواء للأسلحة أو للمشاريع الضخمة، فضلا عن كونها صمام أمان أمام الهجرة غير الشرعية لأوروبا. لذلك يرى النظام انه إذا في حال نجاحه في الصمود أمام تلك الموجة وتجاوزها بأقل الخسائر، تكون الرسالة وصلت، وأيقن الجميع أن ذراع القاهرة لا تلوى.
هكذا فكر النظام ووضع استراتيجيه تحركه، لكن المفاجأة كانت في حجم الضغوط الرهيبة التي مورست من قبل المنظمات الدولية والشخصيات العامة والتي فاقت توقعات الجميع، بما فيهم أعضاء المبادرة المصرية ذاتهم. وزاد الأمر تعقيدا تزامن تلك الحملة الدولية مع الزيارة المرتقبة للرئيس السيسي الى فرنسا، والتي باتت مهددة بفعل تلك الموجة العاتية من الانتقادات، مما اضطر النظام المصري على التراجع والإفراج عن قيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية قبل سفر السيسي للقاء ماكرون، الذي قابله بحفاوة رسمية بالغة تتسق مع عمق المصالح المشتركة بين العاصمتين.
سواء كانت الضغوط الدولية وحدها أو تزامنها مع زيارة السيسي الى باريس هي السبب في الإفراج عن قيادات المبادرة، الجلي أن بالونه الاختبار هذه قد كشفت للنظام أن العند للنهاية وتجاوز الضغوط الخارجية تماما غير ممكن، وهو ما يقودنا للسؤال الأهم حول كيفية تعامل القاهرة مع الضغوط المنتظرة من إدارة بايدن بخصوص ملف الحريات؟
المؤكد انه بالتزامن مع صعود بايدن الى الحكم ستهب على القاهرة موجات ضغوط عاتية من أجل ملف الحريات. ومع ذلك، يرى النظام المصري أن لتلك الضغوط سقف غير قابل للخرق، وان إدارة بايدن قد تلوح بالورقة الأهم في يدها إلا وهي ورقة المعونات لمصر، لكنها لن تصل الى درجة قطعها، الذي يعني خسارة القاهرة تماما ودفعها لأحضان الصين وروسيا، ومن ثم، خسارة حليف استراتيجي مهم بلا معنى أو مبرر.
المشكلة الكبرى التي ستواجه النظام المصري هو أن خطورة الانصياع لرغبات الإدارة الجديدة أكثر بكثير من مغبة تجاوزها، حيث حرص السيسي من اللحظة الأولى على ترسيخ صورة ذهنية عنه في الداخل قبل الخارج فحواها أننا إزاء نظام قوي مستقر قادر على إحكام قبضته على الأمور، وسحق أي قوى تمثل تهديدا لاستقرار البلاد أو تدفعها لمصير سوريا والعراق. لذلك فان تراجع النظام المصري الآن عن ذلك الخط بعد تغير الإدارة الأمريكية يعطي ايحاءا لأعدائه في أنه مهزوز وغير قادر على الصمود، وهو ما يشكل خطرا حقيقا عليه وعلى نظامه، لا يمكن المجازفة بالوصول اليه. وفي نفس الوقت أثبتت تجربة اعتقال قيادات المبادرة الأخيرة ثم التراجع والإفراج عنهم أن التجاهل التام للضغوط الخارجية غير ممكن.
لذلك الحل الأمثل أمام النظام المصري هو المناورة في المنطقة الوسطى بين الصدام والانصياع، وذلك عبر خلق هامش وهمي للحريات والإفراج عن عدد من المعتقلين سياسيا، شريطة أن يتم ذلك بهدوء وعلى فترات متباعدة، وبذلك يقدم للخارج ما يهدئه نسبيا كلما اشتدت موجة الضغوط وعلت رياح الانتقادات، وفي نفس الوقت لا يبدو متراجعا أمام معارضيه في الداخل فيغريهم ذلك بالتحرك والحشد ضده. تلك الاستراتيجية تبدو منطقية ومتسقة مع فلسفة حكم السيسي القائمة على القوة والسيطرة، لكنها تعتمد الى حد كبير على إدراك القاهرة ان الديمقراطيين مهما بلغ الجموح بهم فلن يوصلوا بالصدام الى نقطه الاعوده.