- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استراتيجية إيران المتجددة في شرق سوريا
على الرغم من أن النموذج الإيراني المتمثل في إنشاء ودعم مجموعات بالوكالة يتسق عبر "الهلال الشيعي"، إلا أن طهران بدأت مؤخرًا في استخدام تكتيكات جديدة ومثيرة للقلق فقط تهدد بتوسيع نفوذها.
منذ تدخلها أول مرة لدعم نظام الأسد في الحرب الأهلية السورية، واصلت إيران ترسيخ وجودها، حيث قامت بدعم العناصر الموالية للنظام وشاركت بقوة في قمع الحراك الشعبي السوري. وفي حين يُشكل الوجود العسكري الإيراني النشط أحد أهم العناصر لاستعراض قوتها، نجحت طهران في الوقت عينه في تحقيق نجاحات كبيرة على الصعيد الاجتماعي والسياسي أيضًا، كما تلعب على الانقسامات الطائفية وتستقطب عدداً متزايداً من الميليشيات إلى فلكها. ومن ثم، تجعل تلك الجهود من إيران القوة الأكثر فعالية في المشهد السوري، كما تُبرز أنشطتها الأخيرة في شرق سوريا نهجها متعدد الأوجه لتوسيع نفوذها بشكل أكبر.
وغير خفيّ على المتابع أهداف إيران القريبة والبعيدة والمتعدّدة، إلا أنّ أكثرها إلحاحا هو الطريق الاستراتيجي الذي يخترق العراق نحو سوريا ومن ثم لبنان، والذي يرمز إليه عبر العواصم بطريق طهران - بغداد - دمشق - بيروت، والذي تحتله إيران بشكل كامل كحزام بريّ لنقل الأسلحة والعتاد لحلفائها مثل حزب الله في لبنان والمليشيات في العراق.
وإيران إذ تحافظ على فاعليتها في الملف السوري، فإنّما تكتسب زخمها الميداني خاصة من الجماعات المتمركزة في العراق، فالميليشيات جزء أساسيٌّ من التحالفات والديناميات الإقليمية القائمة في المنطقة، وكانت دراسة بعنوان (شبكات التسلل الإيرانية في الشرق الأوسط) نُشرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 قالت أنّ إجمالي إنفاق إيران على ميليشياتها في سوريا والعراق واليمن بحوالي 16 مليار دولار سنويا، بينما ينفق النظام الإيراني حوالي 700 مليون دولار سنويًا لدعم ميليشيات حزب الله اللبناني. وعلى الرغم من أن النموذج الإيراني المتمثل في إنشاء ودعم مجموعات بالوكالة يتسق عبر "الهلال الشيعي"، إلا أن طهران بدأت مؤخرًا في استخدام تكتيكات جديدة ومثيرة للقلق فقط تهدد بتوسيع نفوذها.
شحنات الأسلحة المتزايدة في شرق سوريا
منذ بدء الحرب في غزّة، كانت إيران ووكلاؤها - المعروفون بـ "محور المقاومة" - في موقف مُحرج بشكل واضح، حيث أصبح الخطاب المكثف والعدواني الذي تبنته تلك الجماعات يتناقض مع رد فعلها الفاتر تجاه العملية العسكرية الإسرائيلية. ورغم الادعاءات بوجود شبكة تضامن عابرة للحدود القومية، إلا أن محور المقاومة قد فشل في التدخل بشكل حاسم لدعم حماس. لذلك تُحاول إيران التغطية على ذلك بزيادة شحنات الأسلحة عبر سوريا والعراق، لتصل أخيرا إلى يد حزب الله.
وبغض النظر عن الهدف، هناك زيادة في حركة شحنات الأسلحة هذه، فحسب المتابعة الميدانية وخاصة في غرب الفرات يُلاحظ ازدياد شحن الأسلحة ونقلها من العراق صوب سوريا، وهو أمر يعكس ضعف الضربات الإسرائيلية والأمريكية ضدّ إيران وميليشياتها، كما يعكس ضعف قوات سوريا الديمقراطية. وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية، المتحالفة مع الولايات المتحدة، على منطقة دير الزور منذ سنوات. لكن في الآونة الأخيرة، تدهور الوضع الأمني بشكل كبير حيث قامت الميليشيات المدعومة من قبل إيران بدعم القائد العسكري المحلي الشيخ إبراهيم الهفل زعيم قبائل (العكيدات)، لمواجهة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ويُنظر إلى هذا التوجّه أنّه يهدف إلى التغطية على حركة شحنات الأسلحة الضخمة، كما أنّه يُساهم في إضعاف الولايات المتحدة وحلفائها وإثارة القلاقل في مناطق تواجدها. بالإضافة إلى النفوذ الإيراني غرب الفرات، يمكن أن تؤدى حالة عدم الاستقرار هذه على الجانب الشرقي، إلى فتح ممر جديد لمزيد من الميليشيات الموالية للأسد والموالية لإيران لدخول المشهد.
وجدير بالذكر أنّ الميليشيات الإيرانية المختلفة تمتلك ما يقارب من مائة ألف عنصر لها على أقل تقدير في سوريا يتوزّعون في سبعين ميليشيا بسوريا كما صرّح قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، ويمكن ذكر بعض هذه الميليشيات الفاعلة في سوريا: لواء فاطميون، ويتكون من الأفغانيين، ولواء زينبيون من الباكستانيين، وحزب الله اللبناني والعراقي، ولواء أبو الفضل العباس وحركة النجباء من العراقيين ولواء صعدة اليمني.
استراتيجية أيران القديمة والجديدة
تتمثّل استراتيجية إيران في سوريا على عدة مستويات تعمل عليها منذ دخولها في سوريا، وهي استراتيجيات عسكرية، وسياسية، واقتصادية، وطائفية، وثقافية. وفي دراسة مشتركة نشرها مركز جسور صيف 2023 خلصت إلى زيادة المواقع الإيرانية العسكرية في سورية التي وصل عددها إلى 570 موقعاً (منها 55 قاعدة عسكرية و515 نقطة عسكرية)، وهو أكبر حجم نفوذ خارجي في الخريطة السورية ومن هذا العدد فإنّ حصة دير الزور هي 7 قواعد عسكرية و70 نقطة عسكرية. وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) فإنّ الأهمية الاستراتيجية لإيران عبر شبكاتها وميليشياتها تتمثّل بـ: استمرارية الممر البري من طهران إلى بيروت، والسيطرة على شواطئ البحر المتوسط، وعقد اتفاقيات مع النظام السوري لعقود قادمة، والسيطرة على قطاعات الصحة والكهرباء والغذاء والتمويل، وتوسيع نطاق الدعم الإيراني "الاستشاري والمالي والعسكري" حيث أنّ قيمة التجارة الإيرانية في سوريا بلغت 869 مليار دولار.
وعلى الرغم من تعدّد النقاط والقواعد الإيرانية بسوريا، إلا أنّ محافظة دير الزور تعد أهمّها لأسباب متعددة حيث تشكل الجسر الرابط للميليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق في محيط نهر الفرات، ولذلك في حال ضعفت أو فقد الإيرانيون هذه النقطة سيكون من المستحيل العثور على ممر من طهران إلى ساحل البحر المتوسط إلا عبر الجو، خاصة مع احتفاظ الولايات المتحدة بوجود عسكري في قاعدة "التنف" في حمص المجاورة.
وعلى الجانب الثقافي والطائفي، نجحت إيران في تشكيل ميليشيات طائفية محلية وأخرى غير طائفية مارست وتمارس معها أساليب متعددة بهدف كسبها إلى جانب الطائفة الشيعية أو على الأقل التعاطف معها، ومن ثم ترغيبها بالتشيّع (وهي استراتيجية تهدف لتغيير طائفي في مناطق متعددة بسوريا وخاصة مناطق شرق سوريا بدير الزور ذات العمق السني العربي).
وإلى جانب الاستراتيجيات السياسية والعسكرية، لا تتوقّف إيران عن استراتيجيتها الناعمة في زيادة نفوذها الثقافي/الطائفي عبر زيادة افتتاح المراكز الثقافية في مناطق متعددة وخاصة دير الزور، حيث رصدت شبكة دير الزور 24 على سبيل المثال مؤخّرا مركزين ثقافيين في دير الزور المدينة. ومع أنّ أنشطة هذه المراكز الثقافية متعدّدة منها دورات الكومبيوتر والرحلات الكشفية، إلا أنّها تستعرض كذلك تاريخ إيران ودورات لتعليم اللغة الفارسية وترغيب الملتحقين بكل ما هو إيراني، وبشكل ناعم وتدريجي التشيّع، الذي يحصل معه أولئك الذين يرتضون باعتناق المذهب الشيعي على مكافآت وحوافز عدة.
ويُنظر إلى النشاط الإيراني الثقافي كجزء من دعوتها إلى نشر التشيّع، والذي يُمكن اعتباره ضمن استراتيجيات عدة لكسب قاعدة شعبية أكبر والتغلغل في المجتمع السوري والذي لا يمكن ضمان تأثير بعيد المدى فيه دون ارتباط ديني/طائفي، وخاصة أنّ المذهب الشيعي ينطوي على إطاعة الأئمة في المذهب بشكل شبه تام.
ختاما، لا شكّ أنّ التدخّل الإيراني في سوريا يمثّل أحد أبرز التحولات في الصراع السوري، حيث تمكّنت من ترسيخ وجودها بطرق متعددة؛ تشمل الأبعاد العسكرية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. ومع تزايد نفوذها، الذي لم يقتصر على استراتيجيات الدعم العسكري للنظام السوري فحسب، بل شملت أيضًا محاولات مستمرة للتغيير الطائفي والثقافي من خلال إنشاء المراكز الثقافية وتعزيز التشيّع في المجتمع السوري، أصبحت إيران لاعبا رئيسيا لا يمكن تجاهله في الملف السوري، مما يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل المنطقة وتوازن القوى فيها. إنّ مراقبة تحرّكات إيران وتكتيكاتها ستظل ضرورية لفهم الديناميات المتغيرة في سوريا والمنطقة ككل، خاصة في ظل التحديات والتوترات المستمرة التي تواجهها القوى الدولية والإقليمية المتورطة في هذا الصراع المعقد.