- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استراتيجية قيس سعيد الثابتة لاجتثاث نموذج الحكم التونسي القائم ما بعد سنة 2011
في حين يقوم الرئيس بتقويض المعايير الديمقراطية التونسية، صارت المؤسسات المدنية المستقلة هدفا رئيسيا.
نُسب إلى نموذج الحوكمة التونسي الفضل الأكبر في قدرة تونس خلال العقد المنقضي على الحفاظ على زخم مسيرتها الانتقالية نحو الديمقراطية في ظل التجارب الديمقراطية الفاشلة في المنطقة. فبعد اعتماد نموذج "منفتح" و"جامع" و"تشاركي" - لم تشهد البلاد مثيلًا له في تاريخها الحديث- أخذت الجهات الفاعلة المستقلة تضطلع بدور رئيسي في صنع القرار وتحديد التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الرئيسية. إن الاستثناء التونسي يقوم في جوهره على ظهور مجموعة من الجهات الفاعلة التي، على عكس الأحزاب السياسية، لا تسعى للوصول إلى السلطة ولكنها قادرة على ه تحدي الدولة للتأثير على سياستها في عدة مجالات والضغط عليها لتحديد أطر استجابتها لمطالب التغيير الاجتماعي.
وتشمل تلك المجموعة المتميزة منظمات المجتمع المدني، والاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمة الأعراف بالإضافة إلى منظمات مهنية وهيئات مستقلة (قائمة بموجب الدستور). وقد تُوّج الدور الذي لعبته من خلال رباعي الحوار الوطني التونسي في "المساهمة في بناء ديمقراطية تعددية" بجائزة نوبل للسلام في عام 2015.
نجح هذا الرباعي في وضع الحوار والتفاوض في إطار مؤسسي ليس كنهج تكميلي ولا كآلية دعم، بل كآلية بديلة للسلطة وصنع القرار. وإذ ثبت أن الدولة في تونس قادرة على أن تصبح "جهة فاعلة" ا ضمن جهات فاعلة أخرى، أقله في اللحظات السياسية الحاسمة والتاريخية، أصبح من الواضح أن الحفاظ على هذا النموذج هو الحصن الحقيقي الذي يحمي من أي محاولات لفرض الحكم الاستبدادي.
مع ذلك، يبدو أن قيم "الحوار" و"التفاوض" و"الشمولية" و"التعددية" بأي شكل من أشكالها تمثل مصدر إزعاج حقيقي للرئيس التونسي. والأهم من ذلك هو أنها تشكل تهديدًا حقيقيًا لحكمه الفردي الذي عمل على توطيده بعد انقلاب 25 تموز/يوليو، وفرضه"للحالة الاستثنائية" التي وضعت السلطة التشريعية والتنفيذية وجزءًا من السلطة القضائية في يده.
فالأمر الرئاسي الصادر في 22 أيلول/سبتمبر 2021 ينص على أن "يتولى رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي". هذه الصيغة، التي تسمح للرئيس باختيار مجلسه الذي يسعى إلى تركيزه خلال هذه المرحلة، شكلت الخطوة القانونية الأولى لفرض سيطرة سعيد على الإصلاحات السياسية ولكنه سرعان ما سارع باتخاذ خطوات مهمة أخرى لعرقلة دور الجهات الفاعلة غير الحكومية ومنعها من المشاركة بشكل فاعل في رسم المسار السياسي المستقبلي في الوقتالذي تتوجّه فيه البلاد إلى استفتاء بشأن الإصلاحات الدستورية في 25 تموز/يوليو 2022 تليه انتخابات تشريعية في 17 كانون الأول/ديسمبر.
فقد صارت منظمات المجتمع المدني محط تدقيق وهجوم من قيس سعيد حين اتهم علنًا المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلًا دوليًا بأنها "امتداد للقوى الأجنبية" وأنها "تمارس أنشطة مشبوهة". وفي 24 شباط/فبراير 2022، أعلن الرئيس أنه يخطط لتعديل قانون الجمعيات لفرض رقابة أكبر على الأموال الأجنبية، وهو ما ينص عليه أصلاً القانون الساري. علاوة على ذلك، وفى حين تتمتع منظمات المجتمع المدني بإمكانية الاستفادة من التمويل الدولي، فإن القانون ينص أيضًا على نظام عقوبات تتراوح بين التنبيه الرسمي وحل المنظمة. لقد أصبح من الواضح أن هذا يمثل جزءًا من استراتيجية قيس سعيد للقدح في الانتقادات التي وجهتها منظمات المجتمع المدني بشأن تدابيره الاستبدادية والتشكيك في مصداقيتهم.
ومع استبعاد المجتمع المدني عن طاولة المفاوضات وإدراجه من الآن فصاعدًا على القائمة الشاملة "للخونة" الخاصة بقيس سعيد، اتجهت الأنظار إلى "الاتحاد العام التونسي للشغل" باعتباره قوة رئيسية في تونس منذ استقلال البلاد. فقد بقي ثقل الاتحاد على الساحة الاجتماعية والاقتصادية وأيضًا على المستوى السياسي ثابتًا لا يتزعزع على مدى السنوات العشر الماضية. ولكن ذلك لم يمنع رئيس الجمهورية من شمل الاتحاد بقائمة المستبعدين لينهي بذلك عشر سنين من الممارسات في عملية الحكم
وجاء استبعاد "الاتحاد العام التونسي للشغل" في شكل قرار للرئيس يقضي بإطلاق آلية بديلة للحوار، وصفها بـ "الحوار الحقيقي"، من خلال استشارة إلكترونية أُطلقت في 15 كانون الثاني/يناير 2022، معلنا بذلك رفضه لدعوة الاتحاد إلى حوار وطني. واستمرت "الاستشارة الشعبية الإلكترونية" لمدة شهرين بهدف تمكين جميع المواطنين، وخاصة الشباب فوق سن السادسة عشرة، من التعبير عن احتياجاتهم واختياراتهم عبر الإجابة عن مختلف الأسئلة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية، ولكنها مُنيت بفشل ذريع إذ اقتصر عدد المشاركين فيها على 534.915 تونسيًا فقط.
ولم يبادر الرئيس إلى التواصل مع "الاتحاد العام التونسي للشغل" إلا بعد أن دعا صندوق النقد الدولي مؤخرا إلى إطلاق حوار اجتماعي أوسع نطاقٍا في تونس كشرط مسبق للمضي بالنقاشات حول حزمة إنقاذ جديدة. فقد أعلن مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور أن "الحوار الوطني يبقى الإطار الصحيح لإنعاش الاقتصاد التونسي وبدء الإصلاحات".
إضافة إلى ذلك، سيتم اختبار قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل على لعب دور مركزي في تشكيل الاتجاه السياسي المستقبلي للبلاد قريبًا حيث أعلن الاتحاد للتو عن قراره بمقاطعة الحوار الوطني، والذي تمت دعوته للمشاركة فيه - جنبًا إلى جنب مع أعضاء آخرين في اللجنة الرباعية للحوار الوطني - من قبل الرئيس. جاء الإعلان الذي صدر في 23 أيار /مايو، بعد أن أصبح شبه مؤكد أن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي أيدت مسيرة 25 تموز/يوليو هي فقط التي ستشارك في الحوار. وفى السياق ذاته، أعرب الاتحاد العام التونسي للشغل عن رفضه "لأي حوار يتم فيه تحديد وفرض الأدوار من جانب واحد، ويُستبعد منه القوى المدنية والسياسية الوطنية". وفي تصعيد آخر، أعلن اتحاد العمال عن نيته في الدخول في إضراب في القطاع العام، على أن يتم تحديد التاريخ في وقت لاحق. ويجدر التذكير أنه تاريخياً، كانت الإضرابات العامة في تونس مصحوبة دائمًا بتعبئة اجتماعية واسعة، لذلك سيكون من المهم اختبار قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل ليس فقط على القيام بدور قيادي في استعادة آليات التعددية الديمقراطية، ولكن أيضًا قدرته علىإحداث تغيير سياسي ملموس.
و إذ لم ينجح سعيد في تهميش دور الاتحاد حتى الآن، فقد اتخذ قيس سعيد منذ انقلاب 25 تموز/يوليو سلسلةً من الإجراءات القانونية الحاسمة لإلغاء دور المؤسسات المستقلة.
ظهرت تلك الهيئات الوطنية المستقلة بعد عام 2011 كرد على أزمة الثقة الناجمة عن تدخل الدولة في مجالات وقطاعات محددة. وكان لظهورها أيضًا علاقة بالنزعة الاستبدادية التاريخية الذي تهدد بعض الحقوق والحريات الأساسية. فبعد أن كانت وسائل الإعلام والانتخابات خاضعة لسلطة وزارة الداخلية في ظل نظام بن علي، باتت اليوم تحت إشراف هيئات دستورية مستقلة. وقد سعى المشرع من خلال ضمان عدم التدخل في إدارة هاته الهيئات ،إلى دعم مبادئ الحياد والنزاهة والحكم الرشيد.
غير أن الرئيس وبعد مرور أقل من شهر على يوم 25 تموز/يوليو، أقدم على إقالة الأمين العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وأمر بإغلاق مبانيها من دون إعطاء أي تبرير. ولكن يبدو واضحًا أن هذا الإجراء يجسد رفض قيس سعيد تدخل أي جهة أخرى في حربه ضد الفساد وخطته الرامية إلى "تطهير" البلاد والتي استُخدمت جزئيًا لتبرير انقلاب 25 تموز/يوليو والإجراءات القانونية غير الديمقراطية التي أعقبته. وبالتالي فإن وجود هذه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كان سيمثل عائقا بما أن لها الصلاحية لاقتراح سياسات مكافحة الفساد، ووضع مبادئ التوجه العام، وإبداء رأيها في مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمكافحة الفساد في تونس.
ولكن ما يعد أكبر هزة شهدتها الهيئات المستقلة والتي طالت بدورها أحد المكاسب الديمقراطية الأساسية تمثل في إصدار قيس سعيد في 21 نيسان/أبريل 2022 مرسوما رئاسيا مثيرا للجدل السياسي نص على تنقيحوإتمام بعض أحكام القانون الأساسي المتعلقة بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات. ولقد تمكن الرئيس من خلال هذه الخطوة بتعطيل دور هذه ال الهيئة الدستورية من خلال تقويض نزاهتها واستقلاليتها والتي تعتبر السبب الأساسي لوجودها حيث أن المرسوم يمنح للرئيس فقط صلاحية تعيين أعضاء الهيئة السبعة (تسعة سابقًا) أو إقالتهم أو رفع الحصانة عنهم، علمًا بأنهم كانوا يُنتخبون حتى ذلك الحين من النواب.
تأتي هذه الخطوة في لحظة حرجة جدًا قبل ثلاثة أشهر فقط من الاستفتاء الذي سيمكّن الرئيس من إقرار دستور جديد تصيغه لجنة يعيّنها بنفسه، دستور سيضع أساسًا قانونيًا متينًا لهذا الحكم الاستبدادي، خصوصًا وأن ولاية اللجنة تمتد على أربع سنوات، ما يعني أنها ستنظم الانتخابات الرئاسية المقبلة التي من المرجح أن يترشح فيها سعيد.
يبدو أن الاستحقاقات الانتخابية القادمة ستدار من قبل ما أصبح يعرف ب "لجنة الانتخابات" التابعة لقيس سعيد، وهو ما يثير مخاوف جدية على المستويين الوطني والدولي من أن اللجنة تهدد بشكل خطير شرعية العملية الانتخابية برمتها ونتائجها.