- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أي دبلوماسية أمريكية للأكراد في سوريا؟
مصير الأكراد في شمال شرق سوريا غامضٌ وحافلٌ بالتهديدات، لا سيما في الفترة الراهنة مع انسحاب غالبية القوات الأمريكية من البلاد. فالوجود العسكري الروسي في تلك المنطقة يتخذ طابعًا عدوانيًا بين الحين والآخر، ومع اقترانه بالعدوان التركي على القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، بات يزعزع أكثر فأكثر وضع الأكراد في المنطقة. وحتى المدنيون الأكراد أنفسهم يتعرضون للعنف على أيدي ميليشيات إسلامية متطرفة مدعومة من تركيا ترتكب جرائم الحرب في المدن الكردية المحتلة من تركيا. في ضوء ذلك، يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ عدة خطوات لمعالجة هذه التهديدات وضمان سلامة حلفائها الأكراد في سوريا.
في هذا الإطار، لا بد أن يدرك المسؤولون الأمريكيون أن الولايات المتحدة – وشركاؤها الأكراد والعرب والمسيحيون في المنطقة – فقدوا الكثير من نفوذهم في سوريا. ذلك أن التوسع العسكري في شمال شرق سوريا والعدوان التركي المتزايد زعزع استقرار المنطقة وأضعف الاستراتيجية الدولية لدعم مكافحة الإرهاب وزاد من تعقيد المهمةٍ الصعبة أصلاً، ألا وهي إيجاد حل سياسي شامل للأزمة السورية.
وجدير بالذكر أن القرار الذي أخذه الرئيس ترامب في تشرين الأول/أكتوبر 2019 بسحب القوات الأمريكية من سوريا ساهم إلى حدٍّ كبير في تراجع النفوذ الأمريكي في البلاد، فوجد الأكراد أنفسهم معرّضين بالنتيجة للمزيد من أعمال العنف والشكوك. وقد أكدت الأمم المتحدة في تقرير خاص يغطي الفترة الممتدة بين تموز/يوليو 2019 وشباط/فبراير 2020 أن المتمردين المدعومين من تركيا قتلوا المدنيين ونهبوا الشركات المحلية في المدن الكردية أمثال عفرين وتل أبيض ورأس العين - وهي أعمالٌ تقع في خانة جرائم الحرب.
فضلاً عن ذلك، أثار وضع الأكراد المقلقل تنافرًا سياسيًا بين القيادتين الكردية والأمريكية. وفي اجتماعٍ عُقد خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 مع الدبلوماسي الأمريكي الرفيع المستوى ويليام روباك، ناشد قائد "قوات سوريا الديمقراطية" الجنرال مظلوم عبدي الولايات المتحدة بحماية الأكراد في سوريا، قائلاً: "لستُم مستعدّين لحماية الشعب، ولكنكم لا تريدون أن تأتي قوة أخرى لتحمينا. لقد بعتمونا، وهذا عملٌ غير أخلاقي". وأصرّ الجنرال مظلوم على ضرورة أن تسهم الولايات المتحدة في وقف الهجمات التركية أو السماح للمسؤولين الأكراد بإبرام صفقة مع نظام الأسد وروسيا لحمايتهم من القصف التركي. وفي نهاية المطاف، نجحت الولايات المتحدة في وقف العدوان التركي من خلال التهديد بالعقوبات وسحب المقاتلين الأكراد من حدود تركيا. ولكن تركيا تواصل استهداف الأكراد عبر احتلال المدن الكردية وتوطين العرب والتركمان والمتطرفين الإسلاميين في منازل الأكراد.
وفيما قرر الرئيس ترامب إبقاء عدد صغير من القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا لمواصلة الحرب ضد "داعش" وحماية حقول النفط، توسّع زحف القوات الروسية إلى المناطق الكردية، وها هي اليوم تتعاون مع القوات التركية في مهام المراقبة العسكرية المشتركة عند الحدود بين سوريا وتركيا. أضف إلى ذلك أن القوات الروسية ووكلائها المحليين لا يزالون يضايقون القوات الأمريكية والقوات المتحالفة بغية توسيع نطاق سيطرتهم وصولاً إلى آبار النفط. في الوقت نفسه، تتعاون تركيا وميليشياتها المتطرفة لمهاجمة القوات الكردية، فيما تواصل الميليشيات الشيعية الإيرانية و"حزب الله" الأنشطة العسكرية في المنطقة.
على المستوى الدبلوماسي، تسعى كل من تركيا وإيران وروسيا إلى تحقيق هدف مشترك، ألا وهو لجم الطموحات السياسية الكردية. وهي تواصل مع نظام الأسد استهداف الأكراد في سوريا لمنعهم من تحقيق الاستقلالية الفيدرالية أو نيل حقوقهم المستقبلية، مع رفض أي تمثيل فعلي للأكراد في مفاوضات جنيف المتعلقة بالحل السياسي في سوريا.
وحيث أن هذه التطورات كلها تهدد عناصر القوات الأمريكية والدبلوماسيين الأمريكيين والمبادرات الاستراتيجية الرامية إلى تحقيق الاستقرار والتطوير، يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ عدة خطوات للتصدي للعدوان المتزايد الذي يتعرّض له حلفاؤها الأكراد، وضمان أمن المصالح الأمريكية في المنطقة.
في البداية، يجب على الولايات المتحدة إعادة إرساء وجودها العسكري في المنطقة وإعلان شمال شرق سوريا منطقة حظر جوي. فإنشاء منطقة الحظر الجوي يساعد على حماية القوات المدعومة من الولايات المتحدة من الأكراد والعرب والمسيحيين ، ويمنع في الوقت نفسه الأسد من الاستحواذ على منطقة مهمة للإنتاج الغذائي. كما يمكن استغلال منطقة الحظر الجوي للضغط على روسيا والأسد من أجل قبول قرار مجلس الأمن رقم 2254 بشأن الحل السياسي للصراع السوري.
وفي النهاية، يجب على الولايات المتحدة أن تضغط على القوات التركية للانسحاب من المناطق الكردية لأجلٍ غير مسمّى، ولكن يجب في هذه الأثناء أن يسعى المسؤولون الأمريكيون إلى منع أردوغان من إعادة توطين العرب في الأراضي ذات الغالبية الكردية.
فضلاً عن ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تدعو إلى انعقاد مؤتمر في واشنطن لمناقشة آلية ضمان مستقبل شركائها في سوريا وحمايتهم، سواء الأكراد أو سواهم. فالانقسامات الراهنة في صفوف القوات الكردية وبين حلفاء أمريكا الآخرين تستدعي تفاهمًا مشتركًا واستراتيجية دبلوماسية أمريكية واضحة في المنطقة. ويستطيع الدبلوماسيون الأمريكيون الاستفادة من النجاحات التي حققوها مع أكراد العراق - الذين يتمتعون اليوم بمنطقة فيدرالية خاصة بهم – لتشجيع التماسك والتعاون بين القوات الكردية في سوريا.
ولابد للولايات المتحدة من تقديم المزيد من الدعم الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي لحلفائها الأكراد. وتشمل الخطوات المهمة في هذا الإطار برامج التدريب على القيادة والحكم الرشيد ومبادئ الديمقراطية، وهي للأسف برامج يحتاجها الحلفاء بشدة. وبوسع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أن تساهم أيضًا في تطوير البنية التحتية في المناطق الكردية وتحسين الإنتاج الاقتصادي والزراعي. ويجب أيضًا على الولايات المتحدة أن تعرض على أكراد سوريا برامج للتبادل الثقافي والتعليم ومشاريع لتطوير الإعلام وحرية التعبير.
علاوةً على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتخذ خطوة صغيرة ولكن مهمة من الناحية الرمزية في تعزيز العلاقات الأمريكية الكردية، وهي فتح مكتب للشؤون الكردية في وزارة الخارجية الأمريكية. فمن شأن هذا المكتب أن يحدّد بوضوح أكبر الدور الدبلوماسي للقوى الكردية في سوريا ويبيّن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها الأكراد.
وأخيرًا، يجب على المسؤولين الأمريكيين التواصل الدبلوماسي مع تركيا، من أجل مواجهة التهديدات المحدقة بالشعب الكردي جرّاء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا.
ويجدر بالولايات المتحدة أن تتبنى موقفًا أكثر صرامة ووضوحًا مع تركيا، إذ أن تعاون تركيا مع روسيا وإيران يهدد المصالح الأمريكية، ويجب على المسؤولين الأمريكيين مطالبة تركيا بشكل أقوى بحماية حلفاء أمريكا وأهدافها. كما يجب على الولايات المتحدة على الأقل أن تردع تركيا عن توطين النازحين السوريين العرب والمتطرفين في منازل الأكراد وأراضيهم.
تجدر الإشارة إلى أن الأكراد يُعتبرون منذ عقود طويلة شركاء ودودين ومخلصين للولايات المتحدة. وبالتالي، من مصلحة الولايات المتحدة تطوير هذه الشراكة، ليس لمكافحة الإرهاب وحسب، بل لترسيخ التعاون المؤكد في القضايا الأخرى ذات الأهمية المشتركة. وتُعتبر هذه الخطوات مهمةً، ليس بهدف منع العدوان الموجّه ضد الأكراد السوريين فحسب، بل لتعزيز النفوذ الأمريكي في سوريا أيضًا على حساب القوى المعادية أمثال إيران وروسيا.