- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
إيديولوجية السلطة: خمسون عاماً على التعليم في سوريا
قبل عام 2011، كان المشهد السائد على مدى عقود في سوريا هو اعتلاء عَلمُ حزب البعث الحاكم "للدولة والمجتمع"، وصورة الرئيس "القائد" ونُصبه على كل المنصات العامة، وفي أروقة مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفي الساحات العامة، وحتى في المؤسسات غير الحكومية.
ونالت مؤسسات التعليم النصيب الأوفر من ذاك المشهد: الجامعات، والمدارس، مؤسسات المنظمات الطلابية. حيث طغى على كل عناصر المنظومة التعليمية، فعَلمُ البعث وصور الرئيس مطبوعة على الوثائق التعليمية: أغلفة الكتب التعليمية والسجلات الرسمية، وفي أركان الجامعات والمدارس وداخل حجرات وقاعات التعليم، وتم تشريب مضامين جميع المناهج تقريباً بأفكار الحزب والقائد، وبات على الطلاب حفظ أقواله وسيرته، ومؤتمرات الحزب ودور القائد فيها...
وبعد شهور قليلة على اندلاع الانتفاضة الشعبية في آذار عام 2011، وفي خضم التخبط والارتباك الذي أصاب أجهزة النظام الحاكم - اختفى عَلمُ الحزب من المشهد، وظهر العَلمُ الوطني في كل مكان، حتى على صدور الحزبيين وأنصارهم. خفتت نغمة نشيد الحزب، وارتفعت أنغام نشيد البلاد الوطني. حصل ذلك دفعة واحدة، ما دعا للاعتقاد بأن ثمة توجيهاً بذلك من قيادة الحزب كان بمثابة رسالة للمعارضين مؤداها أن هذا النظام وطني، وأن ممارساته ضدهم هدفها حماية الوطن من المؤامرة.
لقد أولى حزب البعث منذ تسلمه السلطة اهتماماً خاصاً بالنظام التعليمي. ومنذ مطلع سبعينات القرن الماضي غدت السياسة التعليمية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالسياسة، حيث جرى العمل على تطبيع المنظومة الثقافية - التربوية- الرسمية وغير الرسمية - وجعلها منظومة موجهة بأهداف سياسية حزبية غايتها إعادة إنتاج النظام السياسي - الاقتصادي المسيطر واستمراره. وذلك من خلال الدستور والقوانين، وآليات تنفيذ ملائمة.
فدستور البلاد (1973) نص على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية". (المادة الثامنة من الدستور، 1973). كما نصت المادة (21) من الدستور بأن غاية النظام التعليمي" إنشاء جيل قومي عربي اشتراكي علمي التفكير ومرتبط بتاريخه وأرضه، معتز بتراثه، مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية، والإسهام في خدمة الإنسانية وتقدمها".
وتم استثناء قطاع التعليم من التنافس الحزبي في ميثاق الجبهة "على أطراف الجبهة غير البعثية أن تتعهد بالعمل على وقف نشاطاتها التنظيمية والتوجيهية في هذا القطاع". (ميثاق "الجبهة الوطنية التقدمية"، 1972). وشكلت المنطلقات الفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ورؤيته للمجتمع والدولة إطاراً مرجعياً للسياسة التعليمية، وباتت "الديموقراطية الشعبية" الأنموذج الذي يتم العمل في إطاره لإعداد المتعلمين. وتولت قيادة الحزب أمر توجيه العملية التعليمية من خلال مكتبين: "مكتب التربية والطلائع لمرحلتي التعليم الأساسي والثانوي"، تتبعه مكاتب تعمل في إطار فروع الحزب في المحافظات. و"مكتب التعليم العالي لمرحلة التعليم الجامعي"، وترتبط به فروع الحزب في الجامعات.
ومع وجود قاعدة خطية للدستور، تصوغ المكاتب الحزبية السياسة التعليمية، وتُعيّن غاياتها، وتحدد بناها المؤسسية، وتصدر التعيينات للمناصب الرفيعة - بعد أن تنال الموافقات الأمنية اللازمة ومروراً بمكتب رئيس الجمهورية - وذلك لإدارة المؤسسات التعليمية.
وتوثيقاً لربط التعليم بالحزب تم إحداث "منظمات تربوية غير نظامية تعمل إلى جوار المنظومة التربوية الرسمية، وتكمل وظيفتها وهي: منظمة طلائع البعث، واتحاد شبيبة الثورة، والاتحاد الوطني لطلبة سوريا، تتمتع بهياكل تنظيمية مستقلة وأطر قانونية ومالية، تعمل مع جمهور واسع من الطلبة من سن السادسة وحتى سن الرابعة والعشرين. أوكلت لها وظيفة دعم المؤسسات النظامية في تحقيق أهداف السياسة التربوية. فهي بمثابة منظمات رديفة للحزب تسهم في تحقيق أهدافه في "الوحدة والحرية والاشتراكية".
لقد تأسس الاتحاد الوطني للطلبة عام 1963 باعتباره منظمة "تعمل على تنظيم الطلبة في الجامعات والمعاهد، ومنذ عام 1966 عُدَّ الممثل الوحيد الرسمي لجميع طلاب سوريا في المرحلة الجامعية. ومن أهدافه: "الإيمان بأهداف الأمة العربية في الوحدة العربية والحرية الفكرية والعيش المشترك وتعزيز روح انتماء الجماهير الطلابية إلى الوطن، والولاء لقائده، وتعميق روح الوطنية والإسهام الكامل في تعزيز بناء الوحدة الوطنية".
وفي عام 1968 تم إنشاء "اتحاد شبيبة الثورة" باعتباره منظمة تربوية سياسية تعنى بتربية الفتية من عمر 12-18 سنة، ويشترط أن لا يكون الشاب المنتسب لها منتمياً لأي تنظيم سياسي غير حزب البعث. علماً بأن جميع الطلاب في المرحلتين الإعدادية والثانوية أعضاء طبيعيين فيه فهو الممثل الوحيد لهم.
وفى عام 1974، تم تأسيس "منظمة طلائع البعث" بقرار من القيادة القطرية للحزب وتضم كل أطفال المرحلة الابتدائية وقد عُرِّفت بأنها "منظمة تربوية سياسية تضم أطفال القطر العربي السوري في مرحلة التعليم الابتدائي، وتعمل على تربيتهم تربية قومية اشتراكية، مستمدة مضامينها الفكرية والعقائدية من فكر حزب البعث ومقررات مؤتمراته القومية والقطرية".
تمارس هذه التنظيمات نشاطاتها استناداً لبرامج تأخذ اهتمامات الفئات المستهدفة من الطلبة بعين الاعتبار من خلال تقديم أنشطة كثيرة ومتعددة: ثقافية، سياسية، صحية، اجتماعية علمية، تعليمية رياضية، فنية، بيئية، معلوماتية. تُمارس من خلال أشكال من الأنشطة: الندوات والمؤتمرات وورش العمل، والمسابقات والحوارات والمهرجانات وحفلات تكريم المتفوقين، والرحلات والمخيمات والأعمال التطوعية، والملتقيات الدولية. والأسابيع الثقافية والمنتديات الاقتصادية الاجتماعية، المحاضرات، والمعارض، والمعسكرات العلمية والإنتاجية، وتبادل الوفود الطلابية، والأعمال البيئية التطوعية.
وعلى مدى خمسة عقود انتشرت في المجتمع السوري وفي مؤسساته منظومة من القيم والسلوكيات كان للنظام التعليمي النصيب الأوفر في إنتاجها ورعايتها: الولاء للحزب، الطاعة للقائد والإيمان بقدراته، وخلود فكره، الانغلاق السياسي والثقافي، القمع كسبيل لحسم الاختلاف والصراع والتوتر، الدوغمائية، التزلف والتقرب من مراكز السلطة. وأصبح معيار الوطنية الموالاة للحزب والدولة، والافتخار والطاعة للقوانين والوعي بالواجبات، إنها "تربية وطنية" يصبح الفرد من خلالها منتمياً ومفتخراً بالوطن وبقيادته السياسية الحكيمة".
هكذا يمكن القول بأن ثمة مجموعة من السمات تطبع السياسة التعليمية في سوريا منه: إطارها المرجعي هو مزيج من الثقافة المجتمعية العامة، والفكر القومي- الوطني وتجلى في مبادئ الحزب، وفكر القائد ورؤيته للمجتمع والدولة والفرد، والغاية هي تنشئة أجيال تتعايش مع مجتمع شمولي ذات نزعة وطنية - قومية متعالية، من خلال تكوين وعي جمعي يوحد أفراد المجتمع في بوتقة ثقافية واحدة، لأن ذلك شرط أساسي من شروط استقرار النظام الاجتماعي- السياسي. وعليه فإن الفرد - المتعلم - ليس أكثر من عنصر ضمن الجماعة، تتحقق مصالحه داخلها ومعها. ووفقاً لذلك، فالطالب ليس سوى عنصر داخل المجتمع تتحقق مصالحة بتحقق مصالح المجتمع ككل.
كما تتميز السياسة التعليمية أيضاً بانها منفتحة على جمهور واسع من خلال تعميم إلزامية التعليم الأساسي ومجانيته، ومجانية التعليم الثانوي ولكن من دون إلزام، وسياسة استيعاب الشباب في التعليم الجامعي، مع ضعف في معايير القبول وتراخيها من خلال الامتيازات التي تمنح لبعض الفئات من الشباب - على أسس حزبية وسياسية.
وعمل القيود المجتمعية على تكملة آثار هذه البرامج التعليمية الواسعة الانتشار. فعمليات التخطيط والإدارة والتوجيه تتم من خلال إدارة تربوية مركزية. وبالتالي يكون دور المواطن فيها كشريك معدوم تقريباً، مع وجود هامش ضئيل للمبادرة الفردية على مستوى التنفيذ.
وبالرغم من محاولات النظام الحاكم في السنوات الخمس الأخيرة العمل على إبراز النزعة الوطنية في الحياة العامة للبلاد وإخفاء النزعة الحزبية، إلا أن هذه المحاولات لم تتجاوز التغيير السطحي، فهي لم تبلغ الجذور العميقة لتبعية النظم المجتمعية ومعها النظام التربوي للنظام السياسي. فتحت ضغط النهوض الجماهيري الذي انطلق في سوريا منذ مارس/ آذار 2011 ومراعاة لضغوط عالمية وإقليمية، يجري إدخال بعض التعديلات/ التكييفات على الحياة السياسية- والتربوية، من ذلك نذكر: إلغاء المادة الثامنة من النسخة المعدلة للدستور، السماح لأحزاب الجبهة المشاركين في الحكم بالعمل في الجامعات مع الطلاب، تعديل عدد من المناهج التعليمية لناحية تضمينها بمفاهيم جديدة تعطيها صبغة ديموقراطية منفتحة، مع تقليص بعض المضامين ذات الصلة بالحزب ومؤتمراته، والقائد وأقواله، وغيرها من تعديلات/ تكييفات شكلية.
د. ريمون المعلولي، أستاذ جامعي وباحث في التربية من سوريا. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"