- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إيران على أعتاب ثورةٍ جديدة
تبدو موجة الاحتجاجات الأخيرة في إيران أكثر توحيدًا وتصميمًا ، مما يشير إلى أنها قد تكون بداية لحدث أكبر بكثير.
انتشرت الاحتجاجات في مختلف المناطق الإيرانية منذ 19 أيلول/سبتمبر، يوم توفيت مهسا "جينا" أميني بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق في الجمهورية الإسلامية في طهران بسبب ما وصفته بـ "حجابها غير اللائق." فقد كانت تلك المرأة الكردية ابنة الـ 22 ربيعًا في إجازة في العاصمة الإيرانية مع شقيقها حين ألقي القبض عليها. وما هي إلا ساعتان حتى أبلغت الشرطة عائلتها بأن جينا أصيبت بسكتة دماغية ونوبة قلبية ونُقلت إلى المستشفى في حالة غيبوبة. ومع أن الشرطة لم تسمح لوالديها بالاطلاع على التقرير الطبي، كشفت مجموعة قراصنة عن صور لجمجمة الضحية – أكّدتها وسائل الإعلام الرسمية – تُظهر كسرًا في الجانب الأيمن من رأسها نتيجة ضربة مباشرة.
ورفض النظام الإيراني الإجابة عن أسئلة العائلة حول ما حدث لأميني، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تسمح فيها إيران بحصول موتٍ أو إعدام من دون تبرير ومن دون أجوبة. أعاد موت أميني للأذهان حادثة إسقاط الرحلة الدولية الأوكرانية رقم 752 بصاروخ مباشر من "الحرس الثوري الإيراني" في كانون الثاني/يناير 2020، ما أسفر عن مقتل جميع ركابها الـ 176. ومع ذلك، نفت الحكومة الإيرانية في البداية أي تورطٍ مباشر في الحادثة.
والواقع أن مقاومة عائلة أميني للأوامر الحكومية بدفنها ليلًا على الفور وبدون متابعة القضية كانت السبب الرئيسي في تحوّل وفاة أميني إلى رمزٍ في الاحتجاجات الإيرانية اليوم. فقد تحدّث والدها علنًا عن وفاة ابنته وطلب دعم الناس لجميع النساء في جميع أنحاء إيران، وليس لابنته وحدها.
سرعان ما استجاب الكثيرون لدعوة والد أميني، وانطلقت التظاهرات من مسقط رأسها خلال مراسم الدفن، حيث خلعت النساء حجاباتهن وهتفن بصوتٍ واحد مع الرجال: "المرأة، الحياة، الحرية" – وهي بالكردية: "جين، جيان، أزادي." شكلت تلك التظاهرات بداية لحركة الاحتجاج الحالية، وسرعان ما انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد.
ففي الماضي، كانت الاحتجاجات الشعبية في إيران عادةً أكثر مركزيةً بحيث كانت تنحصر بالعاصمة طهران. أما الاحتجاجات الحالية فبدأت في منطقة هامشية، وتحديدًا في المنطقة الكردية الواقعة في غرب إيران وهي مسقط رأس أميني. تعاني تلك المنطقة من قمع مستمر، حيث يراقب النظام المنطقة عن كثب منذ اندلاع الانتفاضة الكردية الأولى ضد حكم الجمهورية الإسلامية عام 1979.وتحاول الحكومة منذ أربعة عقود تعبئة البلاد كلها ضد منطقة الأكراد، إذ يميل النظام إلى تصوير المنطقة كتهديد للأمن القومي وعنصر تقسيم وتخريب يحول دون تحقيق السيادة الوطنية الموحدة.
وينعكس هذا التكتيك في رد إيران الفوري على الاحتجاجات ضد وفاة أميني، عندما حاولت وسائل الإعلام الحكومية ووكلاؤها على وسائل التواصل الاجتماعي وصف الحركة بأنها حملة انفصالية معادية لإيران تشنّها الجماعات الكردية. وبالطبع، تجاهلت هذه السردية تمامًا حقيقة أن المحتجين في طهران والمدن الأخرى ينتمون إلى خلفيات عرقية ودينية مختلفة، ويدعمون مع ذلك الاحتجاجات ضد النظام الإيراني، مردّدين شعار "المرأة، الحياة، الحرية" بالكردية.
والجدير بالذكر أن هذا الخطاب المثير للانقسام لم يفعل شيئًا يذكر لكبح جماح المحتجين في جميع أنحاء البلاد. إضافة الى ذلك، تتحدى هذه الاحتجاجات أيضًا الفجوة النموذجية بين الجنسين التي وصمت في السابق الحركات النسائية المماثلة في إيران. ففي حين أن احتجاجات النساء السابقة ضد الحجاب الإلزامي كانت محصورةً بالنساء - ما أدى في الغالب إلى قمع المحتجّات وإجبارهن على الاعتراف نادماتٍ بأن شخصًا ما خارج إيران قد خدعهن أو ضغط عليهن للاحتجاج - جمعت الحركة الحالية كلا الجنسين في الشارع. وبالفعل، يمكن رؤية النساء والرجال ينضمون إلى الاحتجاجات ضد الحجاب الإلزامي، هاتفين معًا ضد قواعد اللباس الصارمة التي يفرضها النظام.
مرة أخرى، حاول النظام تشكيل رواية لتبرير هذا القمع، حيث أكد أن ارتداء الحجاب طوعي تمامًا. فقد أدلى الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي بتعليقٍ بهذا المعنى في مقابلة مع شبكة "سي بي إس"، حيث أشار إلى أن الحجاب هو سلوك ثقافي عفوي وطوعي بالكامل للنساء الإيرانيات، في الوقت نفسه الذي طلب فيه من محاورته ليزلي ستال ارتداء الحجاب خلال المقابلة. وفي خلال زيارة رئيسي إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ألغى مقابلة كانت مقررة مع كريستيانا أمانبور من شبكة "سي إن" بعد أن رفضت طلبه بارتداء الحجاب خلال اللقاء.
وفى حين كان الهجوم على أميني بمثابة قوة محفزة لتلك التظاهرات، تجدر الإشارة إلى أن الاحتجاجات الراهنة في إيران تتخطى إطار الاحتجاج على الحجاب الإلزامي وشرطة الأخلاق، حيث تحول الخطاب بسرعة الى المطالبة بتغيير النظام. وللمرة الأولى في إيران، يمكن رؤية الناس من مختلف أنحاء البلاد يحرقون علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية. والأهم من ذلك هو أن مدنًا مثل قم ومشهد – اللتين كانتا تعتبران يومًا الركيزة الأساسية لعقيدة النظام الإيراني وقاعدة دعمه – تشهدان هما أيضًا احتجاجات لأبنائهما ضد النظام، على غرار أشقائهم في الوطن، حيث تصدح هتافات "يسقط النظام الإسلامي" و"المرأة، الحرية، الحياة" وتُحرَق صور المرشد الأعلى علي خامنئي واللواء الراحل في "الحرس الثوري" قاسم سليماني.
وللمرة الأولى، يبدو وكأن الإيرانيين من مختلف المناطق والأيديولوجيات يتّحدون ضد النظام. كما امتد الدعم الدولي لتلك التظاهرات أيضا وذلك على الرغم من محاولة المدافعين عن النظام في الغرب حصر مطالب الإيرانيين بمسألة الحجاب الإلزامي، تخطّت الاحتجاجات هذه المسألة بأشواط.
وبخلاف الحالات السابقة - وبالتحديد المظاهرات التي عمت جميع أنحاء إيران في عام 2009 - لم تتمكن جماعات الضغط الإيرانية غير الرسمية من التواصل مع البيت الأبيض. ورغم من اعتراف جيك سوليفان، المساعد السابق في إدارة أوباما والمستشار الحالي للأمن القومي للرئيس بايدن، بأن البيت الأبيض كان يُدفع سابقًا إلى الاعتقاد بأنه "إذا تحدثت أمريكا، فإن ذلك سيقوض جهود المحتجين الإيرانيين، ولن يساعدهم." يبدو أن البيت الأبيض تعلم من أخطائه الماضية. وقد استجابت إدارة بايدن هذه المرة بشكل مختلف تمامًا، حيث تبنت نهجًا أكثر حزماً ودعمت الاحتجاجات في إيران منذ بدايتها. وعلى الرغم من أن المؤسسات والأفراد المرتبطين بإيران في الولايات المتحدة يحاولون بالتأكيد تغيير تلك السردية، إلا أن جهودهم قوبلت بالرفض حتى الآن. ومع توحّد الشعب الإيراني بشكلٍ غير مسبوق وإعلان مطالبه بوضوح، يتنامى الدعم الدولي للاحتجاجات بينما يتراجع صوت النظام الإسلامي في الغرب.
في الواقع، يمكن أيضا رؤية دعم المتظاهرين الإيرانيين عبر الشتات الإيراني المتنوع على نطاق واسع، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا. ورغم القيود والعقوبات الصارمة التي فرضتها الحكومة الإيرانية ضد معارضي النظام - حتى خارج إيران - والتي كانت تثبط عزيمتها في السابق، صارت تلك المجتمعات أكثر جراءة حيث طالبت بتغيير النظام، وليس الإصلاح فقط.
مع كل هذا الضغط الداخلي والداخلي، صار النظام يضاعف قوته، ففي ضوء انتشار الاحتجاجات على نطاق واسع في جميع أنحاء إيران، يكافح النظام الإسلامي لقمع المتظاهرين، حيث قُتل ما لا يقل عن 76 شخصًا وتعطلت خدمة الإنترنت المحلية إلى حد كبير، مما أثار مخاوف من تفاقم حملة القمع. وفى مواجهة عمليات القمع، أثبتت هذه الموجة من الاحتجاجات أنها شاملة وموحدة بشكل واضح، حيث احتشد الناس من جميع الطبقات والأعمار والأديان والأعراق معًا للاحتجاج، وأظهروا صمودًا وتصميمًا في مواجهة القوات المسلحة للنظام. وإذا تمكن هؤلاء المواطنون الإيرانيون من مواصلة مظاهراتهم لبضعة أيام أخرى، فسيجد النظام في طهران نفسه يكافح لمقاومة ثورة - وليس مجرد احتجاج.