- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إيران: تحديد مسار النفوذ الإقليمي واحتمال تغيير سياسة الولايات المتحدة
لكي يتوصل بايدن إلى اتفاق مع إيران، ستحتاج الإدارة الجديدة إلى معالجة مجموعة من القضايا الصعبة. وفي حين أن أي تغييرات في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران قد يكون لها تأثير كبير، إلا أن الوصول لاتفاق نووي قد يكون مجرد أوهام.
ليست إيران واثقة من الاتجاه الذي ستسلكه السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة بعد فوز الرئيس المنتخب جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، لا بل تشعر بالارتياب إزاءها. ولذلك جاءت ردود الفعل العلنية للمسؤولين مختلطة: فقد أعرب المرشد الأعلى علي خامنئي عن تشكيكه في العملية الانتخابية الأمريكية برمّتها، في حين أن الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف طلبا من الرئيس المنتخب فتح صفحة جديدة مع الشعب الإيراني، حيث شدد روحاني في خطاب على أنه بوسع كلا البلدين "أن يقررا ويعلنا أنهما سيعودان إلى الأوضاع والشروط التي كانت سارية في 20 كانون الثاني/يناير 2017".
بيد أن هذا الاقتراح يتعارض مع حقيقة أكثر تعقيدًا، ألا وهي أن السنوات التي حكم خلالها ترامب تركت وقعها على المناخ السياسي في إيران، ومن المرجح أن تتأثر أي محاولات للتفاوض مع بايدن بالصراعات الداخلية المختلفة في إيران. إذ تخشى طهران أن تعزز التصورات السائدة عن نقاط ضعفها في ضوء الهجوم الأمريكي على قاسم سليماني، وجائحة فيروس كورونا المستشرية، والأزمة الاقتصادية الحادة الناجمة عن العقوبات الأمريكية المستمرة. من هنا، قد تكون طهران مستعدة لإحراز تقدم في المفاوضات النووية بينما تعاند في الوقت عينه بشأن مسألة نفوذها الإقليمي. حيث يرى خصوم إيران الإقليميين انهما قضيتان متشابكتان. علاوةً على هذه القضايا، سيعود بايدن إلى طاولة المفاوضات مع مسؤولين إيرانيين قلقين ومرتابين من المساعي الأمريكية المستقبلية في المفاوضات. وعلى هذا النحو، يبدو واضحًا من منظور إقليمي أن الإدارة الأمريكية المقبلة ستجد صعوبة لتقرر كيف تود معالجة نزعة إيران التوسعية في المنطقة إذا كانت تأمل التوصل إلى اتفاق نووي.
نهج بايدن
في ما يخص التعامل مع إيران، ثمة دلالة إقليمية قوية على أن بايدن سيتبع نهج الأمن الجماعي للرئيس السابق أوباما من خلال إقامة التحالفات بدلاً من الاعتماد على تدابير أحادية الجانب كما حدث في عهد ترامب. ذلك أن بايدن ينتمي إلى المدرسة الليبرالية المثالية في السياسة، وهذه المدرسة تعطي الأولوية للعمل الجماعي داخل المؤسسات الدولية في الشؤون الخارجية.
لذلك من المتوقع أن يلجأ إلى المساعي الدبلوماسية الدولية لزيادة الضغط على إيران في ما يتعلق بالانتشار النووي والنفوذ الإقليمي، مع السعي في الوقت عينه إلى إبرام اتفاق يخفف من حدة التوتر في العلاقات الأمريكية الإيرانية. ومن المتوقع أيضًا أن يعمل مع الحلفاء الذين تأثروا سلبًا بسياسة إيران الخارجية، فيسهم بنهاية المطاف في إرساء الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط بأسره. وفي هذا السياق، تلعب إسرائيل والمملكة العربية السعودية دورًا مهمًا بشكل خاص، فما من شيءٍ يمنعهما من المشاركة في اتفاق نووي جديد مع إيران.
والواقع أن هذا الموقف ينسجم تمامًا مع التغير الحاد المتوقع أن يُحدثه بايدن في نهج ترامب المتبع حيال المسألة الإيرانية. فخلال الحملة الانتخابية، وعد بايدن "بتجديد القيادة الأمريكية من أجل حشد الجهود العالمية إزاء التهديدات العالمية". وفي مقالة بايدن التي نُشرت في مجلة "فورين أفيرز" تحت عنوان "لماذا يجب على أمريكا أن تقود من جديد: إنقاذ السياسة الخارجية الأمريكية بعد ترامب"، ذكر أن إيران "انخرطت في سلوك مخلّ بالاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط"، وأنه لا يمكن السماح لإيران بتطوير سلاح نووي. كما وصف نهج ترامب تجاه إيران بالكارثي، وتعهد بالانضمام مرة أخرى إلى الاتفاق الذي انسحب منه ترامب إذا ما كانت إيران لا تزال مستعدة للالتزام به.
وفي أواخر حملة بايدن الانتخابية، كان واضحا للمحللين أن أصبحت إيران نقطة نقاش متكررة، حيث لفت إلى أنه يفضّل اتباع نهج أكثر اعتدالًا تجاه الجمهورية الإسلامية. وعلى المنوال نفسه، ذكر أن سياسات ترامب جعلت إيران "أقرب إلى امتلاك مواد نووية تكفي لصنع قنبلة". لكن من المرجح أيضًا أن يكون التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين بشأن اتفاق نووي مصحوبًا بتوقعاتهم بأن الولايات المتحدة والإدارة ستضغط بشكل كافٍ على إيران بشأن أنشطتها الإقليمية.
الاتفاق النووي: معضلة خطيرة
من المرجح أن تواجه إدارة بايدن سؤلا يتعلق بدور إيران في المنطقة إدارة بايدن وهي تصوغ سياسة إيران الجديدة. فقد سعى خامنئي إلى إظهار مرونة إيران عبر الإعلان عن تخفيف التوتر بشكل مؤقت والتودد إلى بايدن من خلال طرح إمكانية عودة طهران إلى الاتفاق النووي. ولا شك في أن "خطة العمل الشاملة المشتركة" شكلت واحدة من أهم التحولات الاستراتيجية في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة.
مع ذلك، وبالرغم من استعداد بايدن وإيران المتصوَّر لإحياء الاتفاق النووي، ستواجه هذه العملية واقعًا صعبًا خلّفته إدارة ترامب يتمثل في تفاصيل الصفقة نفسها. فانسحاب ترامب من "خطة العمل الشاملة المشتركة" ترك أثرًا دائمًا على احتمالات إبرام اتفاق جديد بين إيران والولايات المتحدة كما يتضح من تصريحات إيران العامة المتضاربة. وبخلاف تصريحات روحاني وظريف، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده إن احتمال معاودة التفاوض على الاتفاق النووي غير وارد.
لقد صرح المسؤولين في الإيرانيين مرارًا وتكرارًا أن الاتفاق كان نتاج مفاوضات طويلة، ليس بين إيران والولايات المتحدة فحسب، بل مع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا ككل. ثم أصبح الاتفاق قرارًا دوليًا ملزمًا – هو قرار مجلس الأمن رقم 2231. وعلى هذا النحو، فأن الاتفاق النووي بات من الماضي ولا يمكن إعادة فتحه أو التفاوض بشأنه. أضف إلى أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب أظهر التحول الذي طرأ على وضع برنامجها النووي الراهن، حيث أفادت مؤخرًا "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" أن البلاد بلغت مستويات تفوق باثني عشر ضعفًا تلك المتفق عليها في "خطة العمل الشاملة المشتركة".
في ضوء هذه الحقائق، من المرجح أن يواجه بايدن شريك في المفاوضات يكون حريصًا على فرض شروط على الولايات المتحدة أكثر صرامة من تلك التي وافق عليها الرئيس السابق باراك أوباما. وسوف تكمن المشكلة الأساسية في إبطال قدرة الولايات المتحدة على الانسحاب من اتفاق آخر يتم التفاوض عليه، وبالتالي الحؤول دون تكرار أعمال الرئيس ترامب.
وما يزيد هذه الصعوبات صعوبةً هو أن ترامب سيبذل حتمًا جهدًا أخيرًا لتعقيد توجيهات بايدن المستقبلية بشأن السياسات. فقد أفاد موقع "أكسيوس" الإخباري الأمريكي بأن إدارة ترامب ستفرض "سيلاً من العقوبات" على إيران، وذلك بالتنسيق مع إسرائيل ودول الخليج. ومع فرض هذه العقوبات، ستجد إدارة بايدن نفسها حتمًا مضطرة للتعامل مع مجلس الشيوخ - الذي يُتوقع أن يسيطر عليه الجمهوريون - من أجل تخفيف أو رفع العقوبات عن إيران قبل استئناف المفاوضات.
إيران في المنطقة الرمادية
جنبًا إلى جنب مع جهود إيران المحتملة لتخفيف بعض بنود الصفقة، هناك رأى إقليمي يسلم بـأن هذه المخاوف مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدور الذي تلعبه إيران في المنطقة والآثار التي أحدثها هذا القلق، بما في ذلك تطبيع العلاقات بين عدة دول عربية وإسرائيل.
اتجهت دول الخليج على وجه الخصوص إلى هذا الخيار وذلك على الرغم من التصريحات الإيرانية الداعية إلى تجديد العلاقات مستخدمة لغة تتناقض بشكل حاد مع نظرة إيران العدائية لإسرائيل. قامت إيران منذ العام 1991 بمفاتحات متكررة على دول الخليج من أجل إعادة العلاقات بين الطرفين. وقد تجسد هذا الموقف في رد المسؤولين على الانتخابات الأمريكية، بحيث غرّد وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر أن دونالد ترامب خسر الانتخابات وسيغادر منصبه ولكن إيران والدول المجاورة باقية. وكتب: "نحن نمد أيدينا إلى جيراننا للتحاور وحل الخلافات. إذ لا يمكننا بناء مستقبل أفضل للجميع إلا بالعمل معًا".
غير أن التطبيع أظهر التهميش المتزايد الذي تواجهه إيران في المنطقة. فهي تفتقر إلى إمكانية الوصول إلى معظم المنظمات السياسية أو الأمنية الإقليمية، وتراهن بدلاً من ذلك على الأزمات لتشكيل التحالفات. فضلاً عن ذلك، من غير المرجح أن تعيد دعواتها المستمرة لإنشاء شبكة أمنية مشتركة مع دول الخليج - في ظل الافتقار إلى المصالح المشتركة - إعادة هيكلة التحالفات التي تتعزز الآن ضد النفوذ الإيراني.
وفى حين تستميت إيران لتعزيز وجودها في العالم العربي، فإن المخرج الوحيد لها الأن هو التنظيمات العربية التي تقاتل بالوكالة عنها مصنّفة على قائمة الإرهاب الأمريكية – علاوةً على تصنيف "الحرس الثوري" الإيراني نفسه عام 2019 – ناهيك عن أن إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تجدان في تلك التنظيمات تهديدًا لأمن إسرائيل القومي. في هذه المرحلة، يجب اعتبار كل هذه المخاوف عقبة أمام إعادة الاتفاق النووي مع إيران بصيغته الأصلية – حتى لو افتراضنا أن إيران ستكون على استعداد للموافقة على المعايير الأصلية. وصحيحٌ أنه يجب معالجة هواجس إيران الجيوسياسية الإقليمية، ولكن ليس بطريقة تضر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، وتحديدًا أمن إسرائيل. أما السؤال عما إذا كانت إيران ستكون فعلاً مهتمة بالتعامل مع هذه الهواجس فهو مسألة مختلفة تمامًا.
يعتبر الخلاف المستمر حول النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق هو إحدى القضايا الرئيسية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية وحدها، ظهرت في العراق فصائل جديدة موالية لإيران، ليزيد بذلك العدد الكبير أصلاً من الميليشيات الوكيلة لإيران. والملفت بشكل خاص هو تأسيس حركة "عهد الله". وحيث أن هذه الجماعات العاملة بالوكالة لا تزال تطالب بإخراج القوات الأمريكية من العراق، ومن المرجح أن يراقب كل من العراقيين وحلفاء الولايات المتحدة الإقليميين بعناية كيفية تعامل بايدن مع هذه النقطة التي تمثل مصدر توتر مستمر. في مطلق الأحوال، أإيجابية كانت أم سلبية، من الواضح أن أي خطوات جديدة قد يتخذها الرئيس المنتخب بايدن في تعاملاته مع إيران ستؤثر بشكل مباشر على شؤون العراق الداخلية ككل. وينطبق هدا أيضا على الدول العربية الأخرى التي جاولت فبها إيران إنشاء موطئ قدم لها.
وفي النهاية، قد يكون كلا الطرفين مستعدًا لإبرام اتفاق جديد، ولكن تفاصيل القضايا المتعلقة بالاتفاق ستشكل عقبات أمام عملية التفاوض. ومن شأن خطوات معالجة التوتر في العراق، وكسب تأييد حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، وتوفير فرصة للنهوض الاقتصادي في إيران، أن تؤدي كلها إلى اتفاق يفضي إلى علاقات أقل توترًا بين إيران والعالم، علمًا بأن كل عامل من هذه العوامل هو هدف متحرك. وفي ظل اللحظة الراهنة، قد يبدو أي اتفاق شامل مماثل بمثابة حلم بعيد المنال، وعليه فإن إي جديد قد يقدم عليه الرئيس بايدن، سينعكس بصورة مباشرة على الداخل الإيراني، سواءً كان الأمر بالسلب أم الإيجاب.