- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إيران تواصل التغلغل في غرب سوريا على الرغم من الغارات الجوية
في حين تركز الجهود المبذولة لمواجهة إيران في سوريا فقط على الوجود العسكري الإيراني في البلاد، تجاهلت تلك الجهود أدوات القوة الناعمة، ومجالات النفوذ الثقافية التي تطورها إيران كاستراتيجية طويلة المدى.
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، أكّد ارتفاع عدد الغارات الجوية الأمريكية والإسرائيلية على اهتمام الطرفين بتقليص العمليات الإيرانية في جميع أنحاء سوريا. وشكّل رد الولايات المتحدة على الضربات التي تعرضت لها قاعدة التنف بطائرات مسيرة تابعة للميليشيات المدعومة من إيران أول غارة جوية أمريكية في سوريا منذ أكثر من عام. أما من جانب إسرائيل، فكانت غاراتها الجوية المتكررة أكثر اتساعًا وتضمنت استهداف مطار حلب في 31 آب/أغسطس وهجومها السابق على مطارات دمشق، واستهدفت في الحالتين عمليات نقل الأسلحة الإيرانية وتخزينها في هذه المطارات.
وتعكس الهجمات أيضًا تضاعف الأعمال الإيرانية في سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية. وشملت العلامات الواضحة على مناورتها هذه استمرارها بنقل الأسلحة إلى "حزب الله" اللبناني، الأمر الذي استحث إسرائيل على تكثيف ضرباتها الجوية.
ولكن هذا التركيز الحصري على الغارات الجوية في سوريا لم يفعل شيئًا يُذكر لردع المشروع الإيراني الأكبر المستمر منذ سنوات والهادف إلى رسم معالم المنطقة على هوى إيران، وهو ما يمكن للسوريين المقيمين في غرب البلاد ملاحظته. ومن المرجح أن هذه الجهود التي تزداد نجاحًا ستمنح إيران فوزًا عسكريًا وقوة ناعمة في السنوات المقبلة إذا لم يوضع لها حد.
الأحداث العالمية تغير دور إيران
تكيّف دور إيران في سوريا مع حدثين رئيسيين وقعا في الآونة الأخيرة. يتعلق التحول الأول بالتداعيات الممتدة للحرب الروسية الأوكرانية، التي غيّرت شكل العلاقات الروسية التركية وكذلك الأولويات الروسية في سوريا نفسها. أما الحدث الرئيسي الآخر فهو زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط والمحاولات الجارية لبناء تحالفات إقليمية قوية في مواجهة إيران.
لقد ساهمت الحرب الأوكرانية في تضييق الخناق الدولي الذي تقوده الدول الغربية على روسيا، بحيث ردّت الدول الأوروبية والولايات المتحدة بشكل مختلف تمامًا عن ردودها السابقة على المناورات الروسية. فأدى هذا كله إلى تغيّر الاستراتيجيات الروسية، بما في ذلك تزايد الاستعداد للتنسيق مع المصالح التركية والإيرانية داخل سوريا. يضاف إلى ذلك أن عجز روسيا عن الوصول إلى مصادر أسلحة بديلة دفعها إلى اللجوء إلى إيران للحصول على طائرات مسيرة تستخدمها في الحرب، ما يشير إلى إمكانية نشوء تعاون أمني أوثق قد يؤثر بسهولة في الساحة السورية أيضًا.
على المنوال نفسه، يبدو أن الزيارة الأمريكية الأخيرة إلى المنطقة، والتي ركزت على إسرائيل والمملكة العربية السعودية، تؤثر في التقارب بين روسيا وإيران في سوريا. فردًّا على هذه الزيارة التي انطوت على جهود أمريكية لإحياء فكرة "ناتو" شرق أوسطي بهدف مكافحة التوسع الإيراني، يبدو أن روسيا باتت مستعدة لمنح طهران سلطة أكبر في سوريا لتوسيع نفوذها وعملياتها.
في المقابل، تواصل إيران تغلغلها في غرب سوريا، مستفيدة على وجه التحديد من الفوضى السورية لتحاول بعزم تطوير الصواريخ التي يملكها "حزب الله" من صواريخ عادية إلى صواريخ دقيقة، وهو هدف جاهر به نصر الله علنًا. وبالطبع، يسبب هذا الاحتمال قلقًا كبيرًا لإسرائيل. فضلاً عن ذلك، إيران مصممة على تكثيف جهودها ودعم حلفائها اللبنانيين والسوريين، وعلى اختبار قدراتها الصاروخية، التي تمتلك ترسانة كبيرة منها، على الأراضي السورية وأحيانًا في العراق، كما حدث عندما قصفت أربيل قبل عدة أشهر.
وجدير بالذكر أن المحاولات الإيرانية لتغيير قواعد اللعبة من خلال إطلاق نظام دفاع جوي لحماية مصالح طهران العسكرية في سوريا سبق أن استحثت إسرائيل على تنفيذ ضربات في تموز/يوليو استهدفت موقعًا بالقرب من طرطوس في سوريا. مع ذلك، لا تزال إيران تحتفظ بأكثر من 20 ألف عنصر من الميليشيات المسلحة في المنطقة، مع تمركز الكثير من هذه القوات في مناطق رئيسية في سوريا، وتحديدًا دمشق وحلب ودير الزور.
تبيّن هذه المؤشرات كلها كيف تواصل إيران ترسيخ مكانتها في سوريا. فخلال الأشهر القليلة الماضية، أظهرت إيران أنها على أتم استعداد لاستغلال موافقة روسيا الضمنية على دورها المتنامي في البلاد، حتى لو كان استمرار روسيا في السماح بالضربات الجوية الإسرائيلية، باستثناء نقطة مواجهة واحدة مؤخرًا، يشير إلى أن هذه الموافقة متضاربة.
إيران تصدّر "ثورة عبر الحدود"
تأسست الجمهورية الإسلامية الإيرانية على فكرة "تصدير الثورة"، واستمرت في تطبيق هذه الأيديولوجية سواء في العراق أو اليمن أو لبنان. وثبت أن سوريا، ذات الأغلبية السنية، هي عنصر ضروري وإن كان غير مرجح في هذا المسعى إلى تشكيل "هلال شيعي" موالٍ لإيران.
لهذه الغاية، تسعى إيران جاهدة إلى ترسيخ موطئ قدم في سوريا اجتماعيًا وأيديولوجيًا من خلال تعزيز نفوذها في الأضرحة الموجودة وبناء أضرحة جديدة مثل ضريح السيدة زينب في دمشق. وفي مناطق مثل دير الزور ذات الغالبية السنية المطلقة، عملت على تغيير تركيبة المنطقة من خلال جذب الشباب إلى ميليشياتها ومحاولة تغيير مذهبهم بواسطة المخصصات الاجتماعية أو الأنشطة الثقافية. وتشمل هذه الأخيرة "كشافة المهدي" ودورات تحفيظ القرآن ودروس اللغة الفارسية والرحلات إلى الأضرحة التي بنيت مؤخرًا مثل ضريح عين علي. كما سعت إيران إلى استقدام عناصر الميليشيات الأفغان والعراقيين وغيرهم من خارج سوريا، وحرصت أيضًا على تأمين أماكن للذين يتحوّلون إلى مذهبها.
وقد بدأت هذه الجهود في تحقيق بعض النجاح، إذ تمكّنت إيران من تجنيد الكثير من الشباب وعائلاتهم مع أنهم قليلون مقارنةً بالتركيبة العامة لمنطقة قبلية مثل دير الزور. مع ذلك، لا يزال الكثيرون من سكان دير الزور يخشون الاستراتيجية البطيئة ولكن الثابتة الفعالية التي انتهجتها إيران على مر السنين.
وفي حين يعتقد البعض أن الزيادة الإجمالية في عناصر الميليشيات قد تفوق في نهاية المطاف الحوافز الاقتصادية، تعمل إيران بالفعل على تحصين هذه الاستراتيجية من خلال رفع أجور مقاتليها وزيادة أنشطتها الطائفية "التبشيرية." كما طورت إيران استراتيجيات للحفاظ على أجور مقاتليها، إذ تبنّت طريقة النظام في تمويل نفسه من خلال تجارة الكبتاغون. فمع أكثر من 50 موقعًا لتصنيع المخدرات ينتج الكبتاغون والميثامفيتامين والحشيش، أصبحت سوريا تسمى الآن بـ"جمهورية الكبتاغون."
مواجهة إيران في سوريا
في حين تستهدف الضربات الجوية قدرات عسكرية إيرانية محددة داخل سوريا، إلا أن مواجهة وجود إيران الفعلي في سوريا أو الحد من تغلغلها هو مهمة لا يقوم بها أي طرف خارجي.
ومثال على ذلك هو الغارات الجوية الأخيرة التي شنّتها الولايات المتحدة والتحالف يومَي 23 و24 آب/أغسطس. فقد قصفت الطائرات الحربية الأمريكية المزعومة عدة أهداف في دير الزور، من بينها أهداف إيرانية في جزيرة الحويجة صقر في الجزء من نهر الفرات الذي يمر عبر مدينة دير الزور. وتم أيضًا استهداف موقع آخر للميليشيات الإيرانية في صحراء الميادين في ريف دير الزور الشرقي، بينما استهدفت غارة للتحالف الدولي عدة نقاط على ضفة الفرات في ريف دير الزور الشرقي. وجاءت هذه الغارات الجوية في أعقاب غارة أمريكية على مستودعات عياش في ريف دير الزور الغربي، وشكلت ردًا أمريكيًا على الاستفزازات الإيرانية من خلال هجوم صاروخي على قواتها شرق الفرات.
غير أن الغارات الجوية الأمريكية المماثلة غالبًا ما تكون عقابية ويُقصد بها توجيه رسالة إلى إيران تحذّرها من توسيع مناطق نفوذها في شرق الفرات والحؤول دون نقل الصواريخ إلى "حزب الله"، خصوصًا عبر المستودعات. في المقابل، لم يتخذ أي طرف أي تدابير جدية للحد من نفوذ إيران في غرب الفرات.
والواقع أن إيران تعمل وفق الاستراتيجية الطويلة الأمد نفسها التي لطالما انتهجتها، وتبقى ثابتة على أمل تحقيق نتائج في المستقبل. وقد بدأت هذه النتائج تتبلور، إذ أصبح من الممكن الآن رؤية معالم إيرانية في مدينة الميادين الغربية على سبيل المثال. فالعمل الدؤوب للمراكز الثقافية الإيرانية والحسينيات والأضرحة هو خير مؤشر على الرؤية التي تتبناها إيران إلى ما هو أبعد من توسعها العسكري.
في ظل الاهتمام الدولي المحدود بمنع الجانب الألطف من النفوذ الإيراني في سوريا بشكل ملموس، فإن أهم ما يمكن فعله مع السوريين في ما يخص إيران هو العمل مع المجتمعات المحلية لمواجهة التوسع الأيديولوجي الإيراني. فالكثير من السكان يخشون اختراقًا أيديولوجيًا إيرانيًا حقيقيًا ومتناميًا ومتعمدًا، ويتوقون للحفاظ على تراثهم الثقافي وهويتهم المنفصلة حتى في مواجهة المحاولات الإيرانية المنسقة لمحوه.
وتتمثل إحدى الاستراتيجيات المهمة المتبعة لمواجهة النفوذ الإيراني حتى الآن في عمل الناشطين والإعلاميين في دير الزور الذين يفضحون أنشطة الميليشيات الإيرانية وأساليب القوة الناعمة التي تستخدمها إيران عبر وسائل الإعلام المحلية. وقد لعبت هذه التغطية الإعلامية دورًا بارزًا في الحؤول دون انجرار السوريين في المنطقة إلى الفخ الإيراني، الذي ينص على تجنيد رجال القبائل في الميليشيات الإيرانية لخدمة الأجندات السياسية والعسكرية للنظام، وفي الوقت نفسه محاولة تغيير مذهبهم لخدمة أجندة إيران الطائفية.
ولا شك في أن شبكة دير الزور 24 هي مثال ممتاز على وسائل الإعلام المحلية التي تفضح استراتيجيات إيران، حتى أن التغطية الفعالة التي تقوم بها استدعت ردًا من إيران. فوفقًا للفريق الفني لهذه الشبكة، تعرّض الموقع لعدة محاولات قرصنة، وتم إثبات تورط إيران فيها. بطبيعة الحال، يعكس هذا الأمر التأثير الذي تُحدثه الشبكة، وغيرها من الشبكات المماثلة، على الرأي العام والتوعية في دير الزور كونها تفضح جهود إيران غير المعلنة.
ولكن إذا لم تحظَ هذه الجهود المحلية لمواجهة النفوذ الإيراني بدعمٍ خارجي، سيواجه السوريون في نهاية المطاف ضغوطًا شديدة لمنافسة الفرص الاقتصادية التي يمكن أن توفرها إيران على المدى الطويل، لا سيما وأن طهران تستهدف عمدًا الأطفال والشباب في محاولة لتشكيل نظرة الجيل الجديد إلى الجمهورية الإسلامية.
إن سياسات إيران الخارجية، سواء في سوريا أو في البلدان العربية الأخرى التي استهدفتها، تنبثق من الفوضى. وقد أثبتت إيران أنها ربما تكون الرابح الأكبر وسط انعدام الاستقرار الذي تتخبط فيه المنطقة منذ أكثر من عقد. من هنا، إذا كانت الجهات الفاعلة الخارجية الأخرى مثل الولايات المتحدة ترغب حقًا في لجم النشاط العسكري الإيراني في سوريا، ستحتاج في النهاية إلى مساعدة السوريين المحليين لمعالجة مسألة إيران في صميمها من خلال المساعدات وغيرها من أشكال الدعم المحلي، بدلًا من التركيز على الضربات العسكرية وحدها، وإلا، مع ابتعاد أنظار المجتمع الدولي أكثر فأكثر عن سوريا، سيُفسَح المجال أمام إيران لإرساء تهديد عسكري وقوة ناعمة أكثر خطورة على جانبَي الفرات.