- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أزمة كورونا: فرصة للانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط
أحدثت الموارد النفطية تطورات غير مسبوقة في المجتمع الخليجي، لكن هذه النجاحات شابها ما يعرف بــ "نقمة النفط". ومع ذلك، منحت السنوات العديدة الماضية منطقة الخليج فرصة لتغيير هذا المسار.
لا شك أن المكاسب التي حققتها دول الخليج على مدى العقود الماضية والتي تحققت نتيجة ثروتها النفطية كانت هائلة، لا سيما في ما يتعلق بتطوير بنية تحتية موثوقة والتقدم الحاصل في القضايا الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، تعاني منطقة الخليج أيضًا من التداعيات السلبية للنفط، الأمر الذي حال دون تنويع الأنشطة الاقتصادية وتوفير الحوافز للمنافسة في الأسواق الخارجية. لذلك نجد أن الأداء الاقتصادي والاجتماعي لعدد من الدول الغنية بالثروات الطبيعية كان أقل مقارنة بالدول الشبيهة التي تفتقر إلى مثل هذه الثروات، أي بمعنى آخر إن "نقمة النفط" صارت القاعدة، بينما مثلت "نعمة النفط" الاستثناء في دول أحسنت استعمال هذه الموارد لتحقيق التنمية، مثل ماليزيا وتشيلي.
تعود ظاهرة "نقمة النفط" إلى ما يعرف بــ "المرض الهولندي" الذي مفاده أن اكتشاف الثروات الطبيعية (مثل النفط والغاز الطبيعي والمعادن) غالبا ما يؤدي إلى زيادة سعر صرف العملة الوطنية نتيجة تدفق الأموال من الخارج بهدف الاستثمار في الموارد الجديدة. وينتج عن هذه التحويلات المالية ارتفاع سعر صرف العملة المحلية مما يحد من تنافسية الصادرات غير النفطية. وما يزيد الطين بلة إن الثروات الطبيعية لا توفر محفزات للاستثمار في الأنشطة البديلة والابتكار والمنافسة في الأسواق الخارجية، حيث يلجأ رجال الأعمال إلى مشاريع القطاع العام المغرية، بينما تفضل العمالة المواطنة المؤسسات الحكومية على حساب القطاع الخاص.
مع انتهاء العصر الذهبي للنفط بانهيار أسعاره في منتصف 2014، اعتمدت عديد الدول استراتيجيات التنويع الاقتصادي، مثل رؤيـة المملكـة العربية السـعوديّة 2030 ومبادرة "الإمارات ما بعد النفط." ما نود التركيز عليه في هذا المقال هو أن تداعيات جائحة كورونا يمكن أن تكون في حد ذاتها فرصة للإصلاح الاقتصادي بهدف الأعداد لحقبة ما بعد النفط.
غالبا ما توفر الأزمات فرصا سانحة تساعد صناع القرار على القيام بإصلاحات ضرورية كان من الصعب القيام بها في الظروف العادية. ومن أمثلة ذلك الإصلاحات التي حدثت تشيلي تحت حكم الجنرال أوغستو بينوشيه في بداية السبعينات من القرن الماضي أبان الأزمة الخانقة التي أدت إلى الانقلاب العسكري على الحكومة المنتخبة للزعيم الاشتراكي سلفادور ألندي، وإصلاحات الصدمة في أوروبا الشرقية بعد انهيار النظام الشيوعي، وإصلاحات اليونان بعد انكشاف خدعة الدين الخارجي في السنوات الأخيرة. وكل هذه الإصلاحات كان من الصعب القيام بها دون أزمات وضعت السلطة السياسية أمام أمر واقع اقتصادي لا مفر منه. وفى حين أفرزت تلك الأزمات تداعيات عديدة، إلان الأثر الإيجابي لتلك الإصلاحات الاقتصادية صار مؤشراً ونموذجا للدول الأخرى.
لا جدال إن الواقع المعاش حاليا في دول الخليج العربية هو أبعد ما يكون عن الأزمة، فبعد نمو اقتصادي سلبي للأنشطة غير النفطية لا مفر منه نتيجة الجائحة في سنة 2020 يقدر حسب بيانات صندوق النقد الدولي بحوالي 2.5% بالمملكة العربية السعودية و 6% في كل من الأمارات العربية المتحدة و البحرين و 3.9% في عمان و 2.7% في قطر و 9% في الكويت، استعادت كل هذه الدول نموا إيجابيا خلال 2021 يقدر بنسبة 4.9% في المملكة العربية السعودية و 2.8% في البحرين و 2.7% في كل من عمان و قطر و 2.2% في الأمارات و 1.8% في الكويت. ورغم تدهور الوضع من جديد نتيجة استمرار الجائحة والحرب في أكرانيا، فمن غير المستبعد أن ستستفيد دول الخليج العربية من ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، بالتزامن من عودة حركة النقل والسياحة التي سوف تعطي دفعا قويا للاقتصاد بمختلف مكوناته.
ومع ذلك، ينبغي على دول الخليج أن تنظر إلى هذه الفترة على أنها بمثابة فرصة لمواصلة العمل الذي بدأ في عام 2014، حيث اتبعت معظم الدول الخليجية المنتجة للنفط استراتيجيات الإصلاح الاقتصادي والتنويع لسنوات عديد. لذلك لا يوجد حاجة الآن لإضافة المزيد من البرامج أو الاستراتيجيات الجديدة.
وفى هذا الصدد، حققت كل من الأمارات العربية المتحدة باعتبارها الاقتصاد الأكثر تنوعا والمملكة العربية السعودية باعتبارها الاقتصاد الأكبر في المنطقة وطموح رؤية السعودية 2030، تقدما ملحوظا في هذا الشأن. بالنسبة للإمارات، تم إطلاق رؤية الإمارات 2021 من قبل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء في سنة 2010 وتم الإعلان عن الهدف الرئيسي وهو تحقيق اقتصاد تنافسي معرفي مبني على الابتكار. كذلك، تم الإعلان عن رؤية السعودية 2030 بصفة رسمية من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، باعتباره نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، مما أعطى إشارة واضحة عن التزام القيادة بتوفير فرص النجاح للخطة الطموحة، إذ أن الفشل سوف يكون مكلفا من حيث سمعة الدولة والتداعيات السلبية لذلك على مصداقية برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في المستقبل.
وفى ما يتعلق بوضع الخطط وجودة التنفيذ بما في ذلك قياس مؤشرات الأداء، تعتمد رؤية الإمارات 2021 على أولويات أهمها توفير بيئة مستدامة وبنية تحتية متكاملة، مع التركيز على البعد المجتمعي للإصلاحات. و على نفس السياق اعتمدت رؤية السعودية 2030 على برامج منها برنامج صندوق الاستثمارات العامة هدفه تحويل الصندوق إلى أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، يقود قاطرة الاستثمار ذي البعد الإستراتيجي، و برنامج الاستدامة المالية الهادف إلى تحسين أداء الحكومة من خلال كفاءة الإنفاق ونمو الإيرادات وإدارة المخاطر، وبرنامج تنمية القدرات البشرية الذي يسعى إلى أن يمتلك المواطن قدراتٍ تمكنه من المنافسة عالمياً.
تتضمن رؤية 2030 بعض البرامج التي تهدف الى تطوير القطاع المالي بحيث يصبح قطاعا متنوعا وفاعلا يحفز على الادخار والتمويل والاستثمار، من خلال تطوير وتعميق المؤسسات المصرفية و المالية، وتطوير سوق الأوراق المالية لتلعب دورا مكملا لدور المؤسسات المصرفية و المالية. كذلك، تم وضع برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية بغية تحويل المملكة إلى قوة صناعية رائدة برفع المحتوى المحلي للتصنيع بناء على الموارد الطبيعية المتاحة، ومنصة لوجستية عالمية أسوة بما حققته دبي في هذا المجال.
بطبيعة الحال لا تخلو أي عملية إصلاح من التحديات، فالعمالة الوطنية التي كانت تعتمد في السابق على الوظائف المريحة في القطاع العام لم يكن من السهل إعادة تأهيلها لتلبية متطلبات القطاع الخاص. فخفض أو حتى مجرد تجميد الأجور بالقطاع العام لترشيد الأنفاق والتقليل من عبئ الدين العام تكون له انعكاسات سلبية لدى الرأي العام وقد يؤدي إلى فقدان المؤسسات الحكومية لكفاءات وطنية هي في أمس الحاجة إليها، مثل هجرة المدرسين و الأطباء إلى القطاع الخاص الذي يمتاز بتوفير بيئة عمل مرنة وتنافسية.
الآن، يجب التركيز على الوسائل التي تستطيع من خلالها هذه البلدان تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الأزمة الحالية، مما قد يسمح بتنفيذ أسرع لتلك الإصلاحات المقترحة بالفعل. كما تستحق الإصلاحات الرئيسية الأخرى التي لا تحمل طابع اقتصادي بحت الاهتمام أيضًا، وتشمل إصلاح التعليم بشكل يتماشى مع متطلبات العولمة مع التركيز على التعليم المهني والتدريب داخل المؤسسات. يمكن أيضا اعتماد قانون موحد للاستثمار (المحلي و الأجنبي) وإلغاء العراقيل أمام مزاولة الأعمال. يمكن أيضا تحقيق التنفيذ الفعال من خلال الإعلان الرسمي عن الالتزام برزنامة الإصلاح ضمن جدول زمني محدد، كما أن تكليف فريق عمل من الخبراء المتميزين بإعداد تقارير منتظمة حول الأداء والتقدم الحاصل في عملية الإصلاح، سيساعد في رفع مصداقية برامج الإصلاح وتلافي التأخر في التنفيذ ومقارنة النتائج بالتوقعات السابقة وتغيير مسار الإصلاحات حسب الحاجة.
ومع الالتزام الحكومي بإنجاح تلك الإصلاحات، لا يوجد خيارا آخر غير المتابعة المتأنية للتقدم الحاصل والعمل على التعامل مع أوجه الخلل عند ظهورها. والأهم من ذلك، اعتبار التحديات الحالية بما فيها التحديات الناتجة عن جائحة كورونا فرصة للمضي قدما في الاستعمال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية للانتقال إلى اقتصاد تنافسي مبني على المعرفة. الآن يبدو أن دول الخليج تعلمت كيفية إدارة التداعيات الشديدة الناتجة عن تفشى الوباء، وتوجهت من جديد نحو التطلع للمستقبل.