- تحليل السياسات
- تنبيه سياسي
عباس أمام مجلس الأمن
في سابقة لرئيس السلطة الفلسطينية، ألقى محمود عباس كلمةً أمام مجلس الأمن الدولي في 20 شباط/فبراير توجّه فيها إلى فئتين مختلفتين من الجمهور، هما الشعب الفلسطيني والدبلوماسيون الدوليون. ففي الشق المخصص لأبناء بلده، أعاد التأكيد على الأقوال والشكاوى الفلسطينية المعهودة مشدداً على رفضه المساومة على المصالح الفلسطينية الجوهرية، ومكرراً رفضه للقرار الأمريكي بالاعتراف رسمياً بالقدس عاصمةً لإسرائيل. وبالنسبة للمستمعين في المجتمع الدولي، كرر التزامه بحل الدولتين، واستعداده للتفاوض، ورفضه للعنف. كما عرض خطةً سلام لا تختلف كثيراً عن المقترحات السابقة التي تقدمت بها السلطة الفلسطينية، قبل أن يطالب بإطار عمل متعدد الأطراف وبإطار زمني للتوصل إلى اتفاق.
ومع أن كلمته أمام المجلس كانت من الممكن أن تكون فرصة مناسبة للرجوع عن المزاعم التي جاء بها في 15 كانون الثاني/يناير حين نفى وجود أي رابط بين اليهود والقدس، إلا أن ذلك لم يحدث، بل صرّح بأن العاصمة الفلسطينية المستقبلية في القدس الشرقية ستكون مفتوحة للمسلمين والمسيحيين واليهود.
وإذا وضعنا جانباً التهديد والوعيد، نرى أن خطاب عباس يُظهر اعتزامه الحفاظ على مساره الدبلوماسي الحالي. فصحيحٌ أنه دعا إلى عقد مؤتمر دولي، ولكن احتمالات إقامته ضئيلة جداً - كما أن النموذج نفسه الذي طرحه في "مؤتمر باريس للسلام" في كانون الثاني/يناير 2017 أظهر مدى هشاشة هذا النهج. وفي الواقع، يبدو أنه مصمماً على الدفع بمقاربة دولية تنطوي على مجابهة الدبلوماسية الأمريكية دون تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها الولايات المتحدة.
وعلى وجه التحديد، أشار إلى أنه سيحاول مرة أخرى الحصول على تصويت داخل مجلس الأمن لقبول فلسطين عضواً كاملاً في الأمم المتحدة. بيد، أن مصير هذه الخطة الفشل - فحتى لو نجحت في كسب الأصوات التسعة اللازمة، الأمر الذي لم تحققه في المحاولات السابقة، إلّا أنّ الولايات المتحدة سوف تستخدم حق "الفيتو" ضدها. لكن عباس يعتقد على الأرجح أن "الفيتو" الأمريكي سيصب في مصلحته بكافة الأحوال حيث سيتيح له الظهور بمظهر المتحدي أمام شعبه.
كما أشار في كلمته إلى السعي لإدخال فلسطين في أكثر من 500 منظمة ومعاهدة دولية. ولكنه حتى على هذا الصعيد تجنّب اتخاذ أي تدابير قد تضغط على واشنطن للتصرف رغماً عنها. فالقانون يُلزم الحكومة الأمريكية بقطع التمويل عن أي وكالة تابعة للأمم المتحدة تقبل بالعضوية الكاملة لفلسطين كما حدث لـ "اليونسكو" منذ بضع سنوات. وتفادياً لتكرر حالة "اليونسكو"، قال عباس إنه لن ينضم إلى 22 من تلك الوكالات التي يستدعي الانضمام إليها حكماً قطع التمويل الأمريكي عنها.
وحول الإجراءات على الأرض، ألمح عباس إلى أنه لن ينفّذ قرار "المجلس المركزي الفلسطيني" من الشهر الماضي الذي طالب بقطع العلاقات مع إسرائيل. ومع أن خطابه كان زاخراً بالانتقادات الموجهة ضد إسرائيل، إلا أنه أعرب عن التزامه بالحفاظ على "مؤسسات وإنجازات" السلطة الفلسطينية. وبالفعل فقد استمر التعاون الأمني الفلسطيني - الإسرائيلي منذ صدور قرار "المجلس المركزي"، كما عقد مسؤولون مدنيون رفيعو المستوى من كلا الجانبين اجتماعات عديدة منذ ذلك الحين.
وباختصار، في حين أن فرصة إلقاء زعيم فلسطيني كلمة أمام مجلس الأمن تعتبر ظاهرة جديدة، يمكن القول إن الخطاب بحد ذاته حمل لمسة عباس التقليدية، وهي: أنه وازن بين حاجته إلى الظهور بهيئة المتحدي والاستباقي على الساحة الوطنية، بينما تجنّب إحداث أي ضرر دبلوماسي يتعذّر إصلاحه. ومن المرجح أنه لن يبذل سوى أدنى جهد لازم في كلتا المسألتين من دون أن يرضي أي من الجمهورين. وعلى الرغم من الخطاب المحتد والموقف الدبلوماسي الأخير، فإنه لم يجد بعد طريقة للخروج من الجمود الراهن.
وقد تُرجّح خطة سلام أمريكية كفة الميزان لصالح العودة إلى المفاوضات، ولكنها تحتاج إلى تلبية الحد الأدنى من متطلبات إسرائيل والسلطة الفلسطينية. كما يجب تنسيقها مسبقاً مع الحلفاء العرب والدوليين من أجل تلبية احتياجاتهم وتعبئتهم في محاولة للتأثير على عباس. وإذا تم القيام بما هو أقل من ذلك، فمن الممكن أن ينتهي الأمر بالخطة الأمريكية بأن ترجح كفة الميزان في الاتجاه المعاكس.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن، وقد شغل سابقاً مناصب استشارية مختلفة مع السلطة الفلسطينية.