- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بحثًا عن منطقة شبه مستقلة شمال شرق سوريا
قبل انتشار جائحة فيروس كورونا، سافرت إلى شمال شرق سوريا مرتين في غضون 12 شهرًا ووجدت نفسي خلال أحدث رحلاتي في منبج أدخل مندهشًا أحد متاجر الخردوات والكهربائيات كأي متجر كنت لأتردد إليه في موطني في الولايات المتحدة. وهناك، الكثير من الأسلاك الكهربائية واللوازم الخاصة بصناديق المقابس مصفوفة على رفوف مبعثرة قرب كتل محرك مفكك. في وسط الغرفة: إبريق شاي نحاسي موضوع على موقد يعمل على البوتان على نار منخفضة. في الخارج، رجال يكنسون بقايا ما بدا أنه شارع تملأه النفايات ولكنها في الحقيقة، على حدّ تعبيرهم، أجزاء سيارة مفخخة استهدفت جارهم الطبيب.
وكانت القنبلة أصابت هدفها جزئيًا. فخلال تلك الزيارة، أدركت أن بوابة عيادة الطبيب المعدنية قذفها التفجير بعيدًا فتوقف عمله. ومن الجانب الآخر، يحيط بمتجر الخردوات مبنى مليء بالثقوب – قرميد رمادي اللون بدون طلاء وجذوع خشب مدمر – أفرغه الانفجار من محتوياته.
بعد أن أنهى وارشين شيخو، آنذاك 27 عامًا، وبكري حسين، 28 عامًا، تكنيس الشارع، قاما بدعوتي إلى تناول كوب من الشاي وتبادل أطراف حديث أجريته مرات لا تحصى خلال الأيام التي أمضيتها متنقلًا بين مدن منبج وكوباني والقامشلي ودير الزور الشمالية والمدن الواقعة على الحدود مع "حكومة إقليم كردستان" شمال العراق. وقد رغبا في التحدث عن "القضية الكردية" والرئيس دونالد ترامب، وهو رجل يعتقدان أن خلاصهم يرتبط به حكمًا.
فقال شيخو: "أرغب في أن يقرر ترامب البقاء أو إقامة منطقة آمنة لروج آفا ويجلب الاستقرار والأمن ويقيم منطقة مستقلة معترف بها دوليًا، وعندها يكون رجلًا جيدًا".
من جهته، قال حسين وهو يحاول ملء كوبه: "لا يكفي أن نحظى بالدعم فحسب. نحن بحاجة إلى الاستقرار هنا. صحيح أنهم وفروا الاستقرار لأربع سنوات، ولكنهم يغادرون الآن مجددًا في حين أن أعداءنا..."، ليتوقف عندها عن الكلام.
والحقيقة أنّه ما كان بإمكان ترامب تقديم الكثير. وإذ كان متناقضًا حيال الإقليم وسكانه، واعدًا بإنهاء "الحروب التي لا تنتهي" في البلاد وإعادة كافة الجنود إلى وطنهم، فمن المستبعد أن يتكرر ما فعلته أمريكا لشمال العراق – الجيب الكردي وشبه الاستقلال عن حكومة بغداد المركزية.
ومن الممكن الخلط بين الإقليم المستقل شمالي العراق مع شمال شرق سوريا، غير أن مثل هذه المقارنة غير ممكنة. وكما أشار زميل في هذا المنتدى مؤخرًا، لقد عانى الأكراد شمال شرق سوريا ولا يزالون يعانون بشكل كبير. وصحيح أنّهم حلفاء ساعدوا وفق مقاربة "عبر ومع ومن خلال" على هزيمة "داعش" وجعله تنظيمًا مشتتًا في منطقة تضم أكثر فأكثر جماعات متفككة، إلا أن ما تدين به الولايات المتحدة لأكراد سوريا يختلف تمامًا عما تمّ توفيره مطلع تسعينيات القرن الماضي خلال المجازر التي ارتكبها صدام حسين بحق عائلاتهم في الشرق، أي في العراق.
تبعد منبج الواقعة شمال شرق سوريا نحو أربع ساعات بالسيارة عن المعبر الحدودي عبر نهر الفرات في الزاوية الشمالية الغربية للعراق والإقليم الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي في الشمال. ففي حين كانوا جيرانًا ويشكلون تاريخيًا جزءًا من "كردستان" أشمل تضمّ أجزاء من جنوب تركيا وشمال شرق سوريا وشمال العراق وغرب إيران، لم يحصل الأكراد على مساحةٍ للنمو والازدهار إلا في العراق.
تجدر الملاحظة أن الإقليم الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي شمالي العراق نشأ خلال إقامة منطقة الحظر الجوي العراقية في آذار/مارس 1991 من قبل الحكومات الأمريكية والبريطانية والفرنسية خلال حرب الخليج. وعلى ما أذكر، كانت أهداف الإدارة في ذلك الوقت مختلفة تمامًا عما هي عليه اليوم، كما هو الحال بالنسبة للدعم الدولي للبعثات الأمريكية في حروبها في الشرق الأوسط.
إضافة الى ذلك، تشكلت حكومة "حكومة إقليم كردستان" وسط اختبار أكراد شمال العراق الحكم الذاتي، وليس نتاج نية تلك الدول، بتوجيه من قرار "مجلس الأمن الدولي" التابع للأمم المتحدة رقم 688، بإنشاء دولة جديدة، ما يعني أن ما حصل في لا يمكن أن يتكرر، سواء مع الإدارة الحالية أو أي إدارة أخرى.
واليوم ما من آلية عالمية من شأنها تأييد دعم أمريكا الكامل لدولة أخرى شبه مستقلة، فذلك يتطلب، أقله اليوم، تعاون كافة اللاعبين المنخرطين: روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل ولبنان والجهات الفاعلة الحكومية أو غير الحكومية التي تعمل مع الممر الشيعي أو تدعمه. ويعتبر إلقاء اللوم في ذلك على أمريكا مضللًا. فهذه الرغبات حيال سياسة مماثلة تفتقر إلى المؤهلات الضرورية للحصول على موافقة عدة دول تخالجها، في الوقت الراهن وبأفضل الأحوال، مشاعر وأهداف وآمال مختلطة إزاء سوريا.
ولا ينبغي أن يُنظر إلى الانتخابات المقبلة على أنها تغيير محتمل في قوس السياسة الأمريكية الأوسع في سوريا. وقد تغيّر دور الولايات المتحدة سواء في العراق أو سوريا، وما هو ممكن لجهة درجة التدخل، حتى بالنسبة للحلفاء الظاهريين، مقيّد بالإرادة السياسية وبالدعم المحلي بالقدر نفسه. واحتمال أن يصف المرشح الديمقراطي جو بايدن سوريا بأنها مجرد دولة "رمل وموت" كما فعل خصمه أقل ترجيحًا. وفي حين أن كبار مستشاري نائب الرئيس السابق أشاروا إلى أن بايدن سيبقي أعداد القوات الأمريكية في سوريا على حالها أو يزيدها من أجل ممارسة ضغوط إضافية والتمتع بنفوذ أكبر على دمشق، لن تكون الخطوة النادرة المتمثلة بإقامة منطقة حظر جوي تحت سيطرة روسيا أولوية للإدارة الجديدة في حال استلامها السلطة في كانون الثاني/يناير.
ولن يتمّ تنفيذ قرار "مجلس الأمن الدولي" التابع للأمم المتحدة رقم 2254 من خلال إقامة منطقة حظر جوي، بما أن نظام الأسد لا يُعزّز صموده من خلال الدعم الجوي بل من خلال ممرات برية وتمويل خارجي، وهو ما ركزت عليه جزئيًا العقوبات الجديدة المفروضة بموجب قانون "قيصر". فمنطقة الحظر الجوي التي كانت ممكنة شمال العراق، ألغاها المسؤولون الأمريكيون والإقليميون من طاولة المساومة في سوريا.
كما أنه من غير المحتمل أن تستمر أي إدارة مستقبلية في إرسال القوات الأمريكية إلى سوريا، في حين أن الحفاظ على وجودنا المستمر والإشراف من شمال العراق يبدو مستقرًا من الناحيتين اللوجستية والسياسية. وفي شمال سوريا، قبيل وصولي إلى منبج، فجّر انتحاري نفسه في 16 كانون الثاني/يناير خارج مطعم قصر الأمراء، ما أسفر عن مقتل جندي وبحار ومقاول أمريكيين إضافةً إلى مدني من وزارة الدفاع، وجرح 3 موظفين أمريكيين ومقتل 15 مدنيًا.
بعد خمسة أيام، أسفر هجوم آخر عن جرح أفراد من موكب مشترك أمريكي-كردي حصل على بعد ساعة شرق الانفجار. وخلال السنتين الماضيتين، وفي ظل سحب ترامب تدريجيًا للجنود (رغم إرسال عدد كبير مؤخرًا من المركبات المقاتلة المدرعة المضادة للألغام لدعم الجنود في وجه عدوان روسيا).
ونظرًا للمخاطر الحالية، من غير المرجح أن تعكس أي إدارة أمريكية مسارها بشأن زيادة وجود القوات بشكل كبير في سوريا. وكما كتب زميلي، ربما يمكن لإنشاء مكتب لشؤون الأكراد في وزارة الخارجية المساعدة على "تحديد الدور الدبلوماسي للقوات الكردية في سوريا بشكل أوضح وإيضاح التزام الولايات المتحدة بحلفائها الأكراد"، ولكن حتى هذه الخطوة قد تكون قليلة جدًا ومتأخرة جدًا.
إن احتمالات إقامة منطقة شمال شرق سوريا تحاكي تلك التي ناضل الأكراد العراقيون في سبيل الحفاظ عليها (وفشلوا) ضئيلة، إن كانت موجودة أساسًا. فتحقيق المكاسب في ظل القيادة الحالية في أنقرة غير ممكن، نظرًا إلى أن أساس حكومة هذه المنطقة يتوقف على ارتباط مبهم بـ "حزب العمال الكردستاني" المصنف إرهابيًا. كما أن السعي إلى التوصل إلى اتفاقات ودية مع دمشق قد يمنع الولايات المتحدة من تقديم أي دعم إضافي.
وبالتالي، فإن السيناريوهات التي لا تزال ممكنة ضئيلة للغاية، من بينها استمرار الوجود الأمريكي الذي يحمي حلفاء الولايات المتحدة رغم انعدام جدوى العلميات البرية: من خلال مواقف متشددة إزاء اعتداءات الخصوم، وصد التقدم التركي ودعم أكبر ومستمر للجهات التي تعمل الولايات المتحدة "عبرها ومعها ومن خلالها". وليس من الضروري أن تكون الاستقلالية أو الازدهار الهدف المباشر للسياسة الأمريكية، بل يمكنهما أن يكونا منتجًا ثانويًا ويخدما في الوقت نفسه مصالح الإدارة بإرغام الحكومة السورية على إجراء محادثات برعاية الأمم المتحدة ورفض استمرار توغل الأصول الروسية والإيرانية.
وكما صرحت لمجلة من منبج حول الزيارة الأخيرة التي قمت بها، فإن تواجد الجنود الأمريكيين بحد ذاته، حتى خلال فترة تخفيض الأعداد، عزز ازدهار المنطقة وزرع بذور الأمل فيها. ومشيت من متجر الكهربائيات إلى موقع التفجير الانتحاري الذي تسبب بمقتل قوات أمريكية. وكان هناك بالقرب من الموقع رجل يبيع أجهزة لشحن الهواتف المحمولة وأغلفة واقية مقلدة لأجهزة آيفون. وأخبرني أبو عمر، وهو مهندس كهرباء سابق كان يبلغ في الثلاثين من عمره آنذاك، أن الانسحاب الأمريكي، رغم أنه كان متوقعًا حينها لكنه لم يتحقق بعد، أدى إلى تقييم حسنات وسيئات الحكم الجديد.
وقال لي "قد تحتل أطراف أخرى المنطقة، قد يدخل إليها "الجيش السوري الحر" أو جيش النظام أو قد يعود تنظيم "داعش". وكل ذلك قد يؤدي إلى اضطرابات ويزعزع الاستقرار". وأضاف "أو ربما تكون الجهة المحتلة قوية بحيث تعود بالخير على البلاد وتحييها، لكن هذا الأمر لن يحصل إلا إذا كانت هذه الجهة قوية وسيطرت على المنطقة وأعادت الأمن والسلامة. وفي هذه الحالة، سواء غادر الأمريكيون أو بقوا، سيكون الأمر سيان".
كينيث أر. روزين هو صحافي مقيم في معهد واشنطن وأحد كبار المحررين في "نيوزويك" في إيطاليا. يحمل أحدث كتاب أصدره عنوان "السترة الواقية من الرصاص" (دار النشر بلومزبري).