- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بلاد صغيرة، عواقب خطيرة: اضمحلال لبنان وانعكاساته على المنطقة العربية
تتكون عضوية جامعة الدول العربية من ٢٢ دولة. رؤساء الدول في جميعها باستثناء واحدة هم مسلمين. وقد كان لبنان إلى ما قبل عامين ونيف، الاستثناء الذي يشير إلى أن التعددية في المنطقة العربية ليست مجرد شعار. غير أنه مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية السابق في أيار/مايو ٢٠١٤، والفشل المتكرر لمجلس النواب في انتخاب خلف له، فقد خسر العالم العربي إحدى القرائن القليلة التي تضفي صدقية على الإدعاء بأنه يتجاوز الأحادية. وخسارة موقع الرئاسة المسيحية الوحيدة في المنطقة لم تأتي في سياق غزوة تكفيرية أو عرقلة إخوانية، بل هي نتيجة مباشرة للطموح الشخصي الفج لزعيم مسيحي واحد، وإن كان هذا الطموح موضع استثمار من قوى خارجية.
في عام ١٩٨٨، وفي خضم أزمة دستورية صعبة آنذاك، جرى تعيين قائد الجيش اللبناني العماد ميشال عون لرئاسة حكومة انتقالية ريثما يتم التوصل إلى انتخاب رئيس للجمهورية. إلا أن عون خاض مواجهات دامية متهورة في أكثر من اتجاه داخلي، وباشر بـ «حرب تحرير» إزاء الاحتلال السوري الذي كان يسيطر على مساحات واسعة من البلاد. وكانت بالطبع معركة غير متكافئة لم تؤدي سوى إلى تمكين النظام السوري من تشديد قبضته على لبنان، الأمر الذي أرغم عون على الرحيل إلى المنفى. وفي الأعوام التالية، توالت شعارات «عون راجع» و «عونك جايي من الله» لتحيط بالعماد المنفي هالة من القداسة في صفوف شبابية صادقة صامدة بوجه الاحتلال السوري، وإن كانت مقاومتها لسطوة النظام السوري تقارب العبثية. ولكن في عام ٢٠٠٥، مع تغيّر الإطار السياسي المهيمن على المنطقة بعد تدخل الولايات المتحدة في العراق، اضطر النظام السوري إلى تخفيف قبضته على لبنان، فأقدم على سحب معظم قواته العسكرية، غير أنه أبقى على نفوذه من خلال أدواته المحلية، ومن خلال تحالفه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي كانت قد أنشأت وشذّبت تنظيم «حزب الله» ليشكل قوة محلية ضاربة دون منازع. بل أن النظام السوري نجح في تعزيز اختراقه للساحة اللبنانية من خلال إقامته تحالف غير متوقع مع غريم الأمس ميشال عون نفسه.
وبعد الانسحاب العسكري السوري وعودة عون إلى بلاده، لم ينجح هذا الأخير في فرض نفسه زعيماً على التحالف القريب سياسياً من الغرب والمعادي للنظام السوري، فاختار بدلاً من ذلك اعتلاء الموقع البارز في التحالف المواجه المؤيد لدمشق. وبالتالي، تخلى عون عن ادعاءاته الوطنية الجامعة وانتقل إلى تولي الزعامة على اللبنانيين المسيحيين، ووقّع اتفاقية تعاون مع «حزب الله»، وتدرّج في خطابياته باتجاه الطعن بالغرب الساذج أو المنافق، والعداء لإسرائيل ولدول الخليج. وقد غصّ كلام عون بالإشارات التجريحية إلى الهوية الدينية للسعودية ومن خلالها همساً وجهاراً عموم السنة، في حين جاء ثرياً بالاعتبار والتأييد لكل من النظام السوري وإيران.
واليوم، يتصرف ميشال عون من منطلق أن رئاسة الجمهورية هي حق طبيعي له غير قابل للاعتراض. وفي حين أن النظام السياسي في لبنان هو محاولة هشّة لموازنة الاعتبارات الطائفية والتمثيلية، وذلك لضمان المناصفة ضمن الحكم بين المكونان المسيحي والمسلم، بغضّ النظر عن التراجع العددي للوجود المسيحي في لبنان، فإن عون ومن يؤيده يعمدون إلى ليّ هذه المعادلة، طوعاً وقسراً، شرقاً وغرباً، لإيجاد ما يبرر زعم الأحقية بالرئاسة. فليس لميشال عون العدد الكافي من الأصوات في مجلس النواب للفوز بالرئاسة وفق مقتضى الدستور. غير أنه، بمعاضدة كتلة «حزب الله» النيابية، قادر عند تخلفه عن الحضور إلى المجلس، منعه من الالتئام لعدم اكتمال النصاب، وذلك وفق التفسير المفروض بمنطق القوة لمراد النص الدستوري. فموقف الصف المؤيد لعون كان ولا يزال أنه لن يكون للبنان رئيس إلا ميشال عون، شاءت الأكثرية أم أبت، وعلى من يعترض على انتخابه الإذعان وإلا فليبقَ لبنان دون رئيس. وهكذا تتوالى دعوات مجلس النواب إلى جلسات انتخاب الرئيس الواحدة فالأخرى، ويبقى النصاب غائباً، ويبقى كرسي الرئاسة شاغراً.
وفيما يستمر عون وأتباعه، في قوقعتهم المحلية، بإنعاش آمالهم بأن حصيلة عنادهم قد تكون الرئاسة، فإن إيران قد استفادت من العرقلة المتحققة لتقوية مواقعها على مستوى المنطقة. فلبنان اليوم دون رئيس للجمهورية، وحكومته ضعيفة مضعضعة لا مساءلة لوزرائها، ومجلسه النيابي قد انتهت ولايته وعمد مرتين قد تلحقهم ثالثة إلى التمديد لنفسه، أي أن الدولة اللبنانية غائبة وعاجزة حكماً عن فرض سيادتها. وعليه، يبدو للبعض بأن ما يظهره «حزب الله» من مؤسسات رديفة عسكرية وإدارية ليس تجاوزاً على صلاحيات الدولة، بل تعويض عن غيابها. والواقع أنه لا يمكن إهمال دور «حزب الله» وسائر تشكيلة القوى المحلية المدعومة إيرانياً في تجويف مؤسسات الدولة وتعطيلها، مما يشير صراحة إلى أن إيران ضالعة في تحقيق الوضع المتردي القائم وليست مجرد جهة مستفيدة منه عرضياً. وأهم العائدات الفورية لإيران من غياب الدولة هو انعدام أي اعتراض جدي لقرارها إرسال «حزب الله» إلى سوريا وتوليته مهام خارجية أخرى.
وفي حين أن الدور الإيراني عبر الوسائط في استنزاف الدولة اللبنانية قد يبدو جلياً عند المتابعة الموضوعية، فإن الآلة الإعلامية الضخمة الموالية لإيران تفرز باستمرار طروحات بديلة تتحدث عن مؤامرات متضاربة مصدرها الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، مع توظيف الإشارات إلى هذه الأخيرة لإثارة العواطف الطائفية المعادية للبنانيين السنة في أوساط غيرهم من المواطنين. والواقع أن الطرح الأكثر انسجاماً مع المعطيات البينة هي أن لبنان يرزح للتوّ تحت احتلال إيراني مضمر يعتمد على الولاء العقائدي والتنظيمي الذي أرسته إيران ضمن الطائفة الشيعية من خلال استثمارها في «حزب الله»، ويعتمد كذلك على الطموحات الضيقة الأفق باعتلاء كرسي الرئاسة لميشال عون، بعد أن جرى المزج بين هذه الطموحات والمخاوف الطائفية الصادقة لعدد كبير من اللبنانيين المسيحيين. فالخطاب من الصف العوني، سرّاً وعلناً، يشكك باستمرار بولاء اللبنانيين السنة لوطنهم ويعتبر أن أي تأييد للثورة السورية هو سعي لتحقيق هيمنة سنية على لبنان وجواره. ووفقاً لمقولة سارية في الوسط العوني، فإن الفارق بين تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، وبين اللبنانيين السنة الملتزمون جهاراً بالخط الليبرالي الديمقراطي المتحالف مع الغرب هو شكلي فقط. ووفق أحد الشعارات التي رفعها صفهم «ليس كل داعشي ملتحٍ، بل البعض يضع ربطة عنق».
إن الطائفية، أي الفئوية القائمة على أساس الانتماء الديني الشكلي، كانت ولا تزال أساس المعضلة اللبنانية. وهي تطال كافة أوجه الحياة العامة في لبنان. وفي مطلع الربيع الماضي، شهد لبنان موجة غضب عارمة من بعض الأوساط أزاء رسم كاريكاتوري في صحيفة الشرق الأوسط السعودية تصف دولة لبنان بكذبة نيسان. ونتيجة لذلك تعرضت مكاتب الصحيفة في بيروت للاعتداء وصدرت الدعوات لمحاكمة إدارتها ومحرريها، ولا سيما من قبل ناشطين وسياسيين من الصف العوني. وفي حين أنه جرى طرح المسألة على أنها قضية كرامة وطنية، فإن المناسبة قد أتاحت المجال للمزيد من التهجم في أكثر من محفل على الصحيفة والسعودية والسنة عامة في الداخل والخارج. يذكر هنا أن بعض هؤلاء الساسة والناشطين المستهجنين كانوا قد أعربوا عن تأييدهم قبل أسابيع قليلة لمجلة شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة لحقها بالتهكم على الأديان - والإسلام في هذه الحالة - دون كبت.
إنها الطائفية التي تكيل بمكيالين، حيث تجد الأعذار إذا انسجم الفعل مع مصلحة طائفية مفترضة، وترفض أي تبربر عند إمكانية الطعن بطائفة مصنفة معادية. وقد لوحظ عدم وجود تناقض حول حرية التعبير من قبل العونيين بين حالتي شارلي إيبدو والشرق الأوسط، بل يكفي تطويع المصطلح ليصبح التعبير في الأولى حقاً من الواجب تحصينه وفي الثانية اعتداءاً يقتضي العقاب. وليس هذا التطويع حالة فريدة في الصف العوني، إذ أعلن ميشال عون أخيراً أن تياره السياسي قرر اعتماد المبدأ «الديمقراطي» القاضي بفصل من يعترض على قرارات صهره، والذي سبق أن تمّت تزكيته رئيساً لهذا التيار.
إلا أن العبث المستوطن في الطائفية السياسية اللبنانية ليس حكراً بالطبع على الصف العوني. فحسن نصرالله، أمين عام «حزب الله»، الذي تتجاوز القوة الضاربة لديه، عدة وعدداً وتنظيماً، جيوشاً نظامية كثيرة، يتأسف لعدم الإقرار بجماعته كجزء من «المجتمع المدني». وسعد الحريري، نجل رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، والذي تشير كافة الأدلة إلى أن قتلته تابعون لـ «حزب الله»، عمد اعتباطياً إلى تسمية مرشح رئاسي مقرّب من «حزب الله» نفسه. فكلا الرجلين مطمئنن إلى الولاء الطائفي لجمهوره بما يسمح له بالإقدام على أي عمل والتفوه بأي موقف وتوقع التأييد. وبهذا يكون لبنان قد استكمل الانتقال من منطق القيادة السياسية التي تحتاج إلى موافقة جمهورها (وإن لم يكن هذا المنطق يوماً مكتملاً) إلى منطق الزعامة التي تطالب هذا الجمهور بالولاء وتنتظره منه بالفعل نتيجة للارتباط الطائفي العاطفي. وما هذا التآكل في طبيعة العملية السياسية في لبنان إلا وجه واحد من أوجه متعددة لتداعي لبنان واضمحلاله المتواصل.
لقد كان لبنان في الأمس القريب معقلاً للتقدم والإقدام في منطقة غلب عليها البطء في التنمية البشرية والاقتصادية. فالانجازات في قطاعات التعليم والصحة والثقافة والحقوق السياسية تجاوزت بأشواط ما كانت عليه معظم المجتمعات العربية. وقد كان للكفاءات اللبنانية دوراً هاماً في المساهمة في زخم التطوير الذي شهدته منطقة الخليج العربي تحديداً في الثلث الأخير من القرن الماضي. والصورة الذاتية للمواطن اللبناني، بصفته المنفتح عالمياً والنشيط مهنياً والقدوة في نمط حياته، ما تزال راسخة لديه، بل تتحول في بعض الأحيان إلى قناعة واهمة بالتفوق، رغم أن العديد من المقومات التي كانت قد ساهمت في ارتقاء لبنان، ولا سيما التعليم والحقوق السياسية، قد تراجعت بفعل عقود التناحر الداخلي والحروب المفروضة. ففيما تستمر المراكز المدنية في الخليج بتوجهها العالمي المنفتح، بما يتجاوز في العديد من الأوجه ما كانت قد شهدته بيروت في أوجّها، فإن لبنان قد أضاع فرصاً عديدة للبروز كحاضنة متجددة للإبداع والابتكار. ومع توالي الأجيال، يخسر لبنان كذلك الوهج الذي ارتبط بسمعته لدى الخليجيين، فتتراجع الاستثمارات والسياحة، دون أن يظهر فيه نموذجاً جديداً منسجماً مع إمكانيات العصر لتوجيه الطاقات الكامنة فيه نحو الإخراج المنتج. ففي حين أن الجيل اللبناني الناشئ ما بعد الحرب ما يزال يجمع أفواجاً من المفكرين والمبدعين، فإن تمكينهم، ولا سيما من خلال الحضور على الشبكة العالمية، يبقى قاصراً إلى حدّ الضمور.
إن التراجع الذي شهده لبنان في العقود القليلة الماضية يعود جزئياً إلى نزوح موجات متتالية من المواطنين من الطبقة الوسطى ومن ذوي الكفاءة العلمية، بعد أن ضيّقت عليهم المحاصصة الطائفية فرص الترقي الاقتصادي الاجتماعي، وبعد أن يأّسهم استئثار الطبقة السياسية الاقتصادية والشرائح الزبائنية التابعة لها بمقدرات البلاد. ومع رحيل هؤلاء، تتعزز قبضة النخب الاقتصادية السياسية لكل طائفة على مجتمعها الذي يصبح أكثر حاجة وأكثر طواعية. فمن خلال تدفق سخي للأموال من إيران، أصبح «حزب الله» الإطار الأول للعمل والخدمات لدى الطائفة اللبنانية الشيعية، ومن خلال دفع مالي مصدره السعودية، تحقق جمع العديد من المؤسسات المرتبطة بالطائفة اللبنانية السنية، ونشأت عائلة سياسية جديدة، هي آل الحريري، كادت أن تستأثر بالوسط اللبناني السني، والذي لم يشهد في تاريخه قدراً مماثلاً من المركزية. ولا يقتصر دور المال على الطائفتين الشيعية والسنية، بل أن الأرصدة الوافدة من إيران والسعودية تبدو حاسمة حيناً ومرتفعة التأثير أحياناً في معظم المواقع السياسية والطائفية في لبنان.
إن الاضمحلال الذي يشهده لبنان ليس طارئاً أو عرضياً. بل أن انكشاف هذا الوطن أمام التجاذبات والاستقطابات الطائفية التي تتجاوز الهوية الجامعة هو ما جعله عرضة لمآسي الحروب التي عاشها بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠، وهو ما سمح للنخب الطائفية بحصر السلطة بأيديها في المرحلة التي تلت اتفاق الطائف. ولكن على الرغم من التأسف والتشكي المستمرين، والنقد المدوي تجاه الطبقة السياسية، فإن لبنان، بما يزال يكتنزه من طاقات وكفاءات، لم ينتج إلى اليوم طرحاً جدياً واقعياً، وإن اقتصر الأمر على النظرية دون التطبيق، لرسم طريق الخروج من التكبيل الطائفي باتجاه الهوية الوطنية اللاطائفية. فالتآكل الداخلي والتعرّض للاستغلال الخارجي ليسا مصيبتين جاءتا من العدم، بل نتيجة طبيعية وتلقائية لتجذر الطائفية في المجتمع اللبناني. فإلى أن يظهر في هذا الوطن جهداً صادقاً نابعاً من الداخل اللبناني ومبتعداً عن الضغائن الطائفية المستنزفة للذات والآخر، فإن لبنان، صاحب الأسبقية في الإقرار بطائفيته في منطقة كانت مصرّة على الإنكار ولكنها اليوم مضطرة إلى الاعتراف بأنها برمّتها مصابة بداء الطائفية العضال، سوف يبقى شاهداً محزناً على المستقبل القاتم الذي تتوجه عموم المنطقة نحوه.