- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بروز وتراجع الجاذبية الإسلامية لـ"حزب العدالة والتنمية" في تركيا
أتاحت الانتخابات التركية الأخيرة لـ"حزب الرفاه الجديد" إظهار نجاحه في مناطق معينة من القاعدة الدينية التقليدية للرئيس أردوغان في تركيا، ما أكد تراجع قوة رسالة أردوغان السياسية بعد تحوله بعيدًا عن السياسة الموجهة أيديولوجيًا.
أظهر رجب طيب أردوغان قدرة مذهلة على الصمود في تركيا في فترة حكمه التي اتسمت بالبراغماتية المحنكة في الداخل والخارج والتي امتدت لأكثر من عقدين. لكن نتائج الانتخابات البلدية التي أجريت في 31 آذار/مارس تشير إلى أن سياسة البراغماتية هذه قد بلغت ربما حدودها القصوى. على وجه التحديد، جاء هذا النهج بشكل متزايد على حساب الجذور الأيديولوجية لسلطة أردوغان، أو "قضية" الإسلاموية الإصلاحية التي دافع عنها والتي دفعت في الأساس "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة.
يبدو أن ابتعاد الرئيس أردوغان التدريجي عن الأفكار الإسلاومية الإصلاحية وتبنيه نظرة قومية بشكل متزايد، وذلك بالتزامن مع تفكيك التحالفات وإعادة بنائها خلال العقد الماضي لتلبية احتياجاته، قد وفر فرصة لـ"حزب الرفاه الجديد" الإسلامي الحديث العهد نسبيًا.
لاقت في ما مضى الإسلاموية الإصلاحية، التي ادعى الرئيس أردوغان أنه يجسدها، صدى لدى جماهير كبيرة وأوصلت هذا الأخير إلى السلطة وسمحت له بالفوز في معارك سياسية حاسمة ضد القوى التي كانت تعتبر أنها لا تقهر خلال أوائل حقبة ما بعد الحرب الباردة في تركيا. لكن خلال العقد الماضي، تبنى الرئيس أردوغان بشكل متزايد وجهة نظر قومية وواقعية في الداخل والخارج، مفضلًا المصلحة على الضمير. وتيتمت فعليًا قضية الإسلاموية في تركيا، وهي إحدى المدارس الفكرية الأساسية في السياسة التركية، بنتيجة هذا التحول. فانتهز "حزب الرفاه الجديد" الفرصة وحصل على ما يقارب 7 في المئة من الأصوات في جميع أنحاء البلاد من خلال نظرة إسلاموية صريحة، تُعد أكثر تحفظًا بكثير من المبادئ التأسيسية لـ"حزب العدالة والتنمية".
إن فاتح أربكان، الذي قاد الحملة الانتخابية لـ"حزب الرفاه الجديد"، هو نجل الراحل نجم الدين أربكان، الذي أسس أول حركة سياسية إسلاموية شعبية في تركيا، وكانت تدعى حركة "الرؤية الوطنية". وكان الرئيس أردوغان نفسه عضوًا في حركة "الرؤية الوطنية" منذ سنوات مراهقته في أواخر ستينيات القرن الماضي، وكان يشير إلى نجم الدين أربكان بلقب "هوكا" (المعلم/القائد الفكري). ولم ينفصل أردوغان وغيره من "الإصلاحيين" في الحزب عن "هوكا" ويؤسسوا "حزب العدالة والتنمية" إلا في عام 2001. وبعد ثلاثة وعشرين عامًا، أصبح "حزب الرفاه الجديد"، بقيادة ابن "هوكا"، ثالث أكثر الأحزاب شعبية في تركيا في الانتخابات الثانية التي يشارك فيها ليس إلا، وتفوق بذلك على الحليف الأكبر لـ"حزب العدالة والتنمية"، وهو "حزب الحركة القومية"، ولعب دورًا حاسمًا في أول هزيمة للرئيس أردوغان على الإطلاق في انتخابات وطنية.
بعد تحالف "حزب الرفاه الجديد" مع الرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو 2023 في أعقاب تأسيسه وحصوله على 2.90 في المئة من الأصوات على مستوى البلاد إلى جانب 5 مقاعد في البرلمان، انفصلت قيادة الحزب عن "حزب العدالة والتنمية" وانتقدت بشدة تحالف الحكومة التركية المزعوم مع الغرب ورفضها قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل نهائيًا في أعقاب حرب غزة. وشددت أيضًا على الظروف الاقتصادية السيئة والمتدهورة للمتقاعدين الأتراك الذين شكلوا ما يقدر بنحو 18 في المئة من السكان في عام 2023. وقد كلف البروز الكبير لـ"حزب الرفاه الجديد" في الانتخابات المحلية "حزب العدالة والتنمية" الكثير من البلديات، وأدى في النهاية إلى تراجع نسبة الأصوات التي حصل عليها على مستوى البلاد إلى ما دون أصوات "حزب الشعب الجمهوري"، حزب المعارضة الرئيسي، وهذه المرة الأولى التي لا يحتل فيها "حزب العدالة والتنمية" المركز الأول في أي انتخابات وطنية منذ تأسيسه في عام 2001.
بروز أردوغان كإصلاحي إسلاموي
يمكن أن يُعزى نجاح "حزب الرفاه الجديد" جزئيًا على الأقل إلى القرارات السياسية التي اتخذها أردوغان مع مرور الوقت. فقد ادعى "حزب العدالة والتنمية"، عندما تأسيسه وفي العقد الذي تلاه تقريبًا، أنه يدعم تركيا التي تحتضن تراثها الإسلامي علنًا، ولكن ليس بالضرورة على حساب المبادئ العلمانية للبلاد، ورفض العقيدة العلمانية والقومية والأمنية المتشددة التي ميزت السياسة الداخلية والخارجية لتركيا الحديثة منذ قيامها. وتماشيًا مع هذه التطلعات، رفع أردوغان بصفته رئيسًا للوزراء الحظر المفروض على قواعد اللباس الديني، وتحديدًا حجاب المرأة، في المؤسسات العامة التركية، وعزز العلاقات الإقليمية مع جيران تركيا المسلمين، فيما عمل أيضًا على تحقيق هدف تركيا الحديثة القائم منذ وقت طويل والمتمثل في التكامل التام مع الغرب.
والأهم من ذلك أن الإسلاموية الإصلاحية للرئيس أردوغان عزمت على تأمين الرفاه للأتراك من الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا، وهم الفئة الديموغرافية الأساسية للقاعدة الإسلاموية التي تهيمن على المدن والبلدات الصغيرة في الداخل التركي. فقد زعمت حركة "الرؤية الوطنية" أن الحكومات المتعاقبة كانت تتجاهل بانتظام هذه الجماهير وتنظر إليها بازدراء. لذلك، برزت الحاجة إلى إنشاء "نظام عادل" يلبي احتياجات "السكان الأصليين" المتدينين في الأناضول. هذا ويعتبر الإسلامويون أن المشاكل الاقتصادية التي واجهتها تركيا في تسعينيات القرن الماضي، هي في جوهرها الاجتماعي نتاج ممارسات النخب المحوّرة الفاسدة اجتماعيًا واقتصاديًا في أنقرة وإسطنبول.
من هذا المنطلق، كانت الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا من بين المستفيدين الرئيسيين من النمو الاقتصادي الذي شهدته تركيا على مدى عقد بعد تسلم رجب طيب أردوغان السلطة في عام 2002. فقد انخفض معدل الفقر بثبات من 42 في المئة في عام 2003 إلى ما يقارب 13.80 في المئة في عام 2013. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدل بحسب تعادل القوة الشرائية في تركيا من 14800 دولار إلى 24000 دولار في الفترة عينها، فيما انخفض معامل جيني من 42.20 إلى 38.80 بحلول عام 2011، ما يشير إلى أن مستوى المعيشة تحسن بشكل كبير لصالح الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا في تركيا. وبالفعل، زادت أيضًا شعبية رئيس الوزراء آنذاك أردوغان خلال تلك الفترة، ما سمح لـ"حزب العدالة والتنمية" بالفوز بثلاثة انتخابات عامة متتالية بفضل غالبية برلمانية واضحة، وهذه سابقة في التاريخ السياسي التركي.
فضلًا عن ذلك، انخرطت الحكومة التركية رسميًا في عهد أردوغان في جهود دبلوماسية وبدأت عملية سلام مع "حزب العمال الكردستاني"، الفرع المسلح للحركة الكردية الذي صنفته تركيا بذاتها والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، من أجل التوصل إلى حل سياسي للقضية الكردية القائمة منذ وقت طويل في تركيا. وغالبًا ما استخدم رئيس الوزراء آنذاك أردوغان حجة الأخوة الدينية في تجمّعاته في المقاطعات ذات الأغلبية الكردية خلال الحملات الانتخابية، معربًا علنًا عن رفضه "لجميع أنواع القومية"، سواء أكانت التطلعات القومية الكردية أو القومية التركية. ولاقى هذا الخطاب صدى لدى الأكراد، الذين يشكلون أيضًا فئة ديموغرافية محافظة دينيًا، ما سمح لـ"حزب العدالة والتنمية" بأن يبرز كالمنافس الجاد الوحيد للحركة السياسية الكردية في المنطقة الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا. وقد فاز حتى "حزب العدالة والتنمية" بأغلبية البلديات في تلك المنطقة خلال الانتخابات المحلية عام 2004، وتقاسم السلطة بالتساوي نوعًا ما مع الحركة الكردية في الانتخابات اللاحقة خلال تلك الفترة.
التحول إلى البراغماتية
اليوم، تختلف ديناميكيات تركيا وسياسة الرئيس أردوغان تمامًا. فقد عمد الرئيس إلى تفكيك تحالفاته القديمة وبناء تحالفات قومية جديدة بدلًا منها. وأتت هذه القرارات كاستجابة للتطورات الرئيسية في تركيا، مثل ما كاد أن يتحول إلى حرب أهلية في المنطقة الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا بين الفصائل الكردية المختلفة في أواخر عام 2014، وذلك بنتيجة التطورات في شمال سوريا بعد الحرب الأهلية، فضلًا عن محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016. بينما كان الرئيس أردوغان يواجه أزمات متعددة تتحدى سيطرته على السلطة خلال العقد الماضي، تقرّب بشكل متزايد من القوميين في تركيا الذين يشكلون معسكرًا سياسيًا في السياسة التركية يختلف عن الإسلامويين في تركيا من حيث التاريخ والأيديولوجية.
كان الرئيس أردوغان ينتقد بشدة القوميين بسبب هيمنتهم على سبب وجود الدولة التركية، مصوّرًا نفسه ضحية من ضحايا هذا المنظور بصفته إسلاموي إلى جانب الأكراد والليبراليين وغيرهم من الأقليات. فقد زعم أنه بنى "تركيا الجديدة" لتلك الجماعات، بعيدًا عن "آلام" و"معاناة" "تركيا القديمة". لكن في حين بدا أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يمثل تغييرًا في الأفكار الأساسية التي تشكل العقيدة التركية، أصبحت في نهاية المطاف "تركيا الجديدة" الأكثر ديمقراطية نوعًا ما التي أنشأها الرئيس أردوغان، نسخة مجدّدة ومعززة من "تركيا القديمة" القومية التي كان في الماضي من أشد منتقديها. والآن، وصل التحيّز القومي لـ"حزب العدالة والتنمية" إلى حد أصبح فيه من الصعب فعليًا التمييز أيديولوجيًا بينه وبين "حزب الحركة القومية"، اللذين يمثلان وجهين للعملة القومية ذاتها.
في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، اتبعت الحكومة التركية في أعقاب حرب غزة نهجًا مزدوجًا تجاه إسرائيل من خلال اعتماد خطاب قاسٍ مع الحفاظ إلى حد كبير على العلاقات التجارية الثنائية. وهذه هي نسخة السياسة الخارجية لنهج أردوغان العملي والواقعي. وانتقد "حزب الرفاه الجديد" بشدة الفجوة بين الخطاب والسياسة، الأمر الذي عزز بلا شك الدعم المقدم له.
وانعكس التحول في الجمهور السياسي للرئيس أردوغان أيضًا في السياسة الاقتصادية، ما أثر مباشرةً في الحياة اليومية للقاعدة التقليدية لـ"حزب العدالة والتنمية". ومع تزايد حالة عدم اليقين السياسي في أعقاب الأزمات المتعددة والتحول الذي طرأ على نهج الرئيس أردوغان في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تباطأ تدفق الأموال الأجنبية إلى تركيا. وبدلًا من اعتماد سياسة نقدية أكثر صرامة لمعالجة المشكلة، دعا الرئيس أردوغان مرارًا وتكرارًا إلى خفض أسعار الفائدة، ما أدى إلى استمرار مشكلة التضخم وتكلفة المعيشة. وقد استفاد من معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض تكاليف الاقتراض أولئك الذين لديهم مدخرات حالية وأولئك الذين تربطهم علاقات وثيقة بالحكومة. وظل سعر الفائدة الرسمي أقل من سعر السوق، ولم يتمكن الجميع من الحصول على قروض رخيصة.
وبنتيجة ذلك، في حين استمر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المعدل بحسب تعادل القوة الشرائية بالنمو خلال تلك الفترة، ليصل إلى 33600 دولار في عام 2023، ارتفع معامل جيني إلى 44.1 في عام 2021، وهي نسبة أسوأ حتى من تلك التي سجلها عام 2002، ما يشير إلى أن المجموعة العالية الدخل كانت المستفيد الرئيسي من النمو الاقتصادي الذي شهدته تركيا خلال العقد الماضي. بالإضافة إلى ذلك، بعد انخفاض مطرد خلال العقد الأول من حكم الرئيس أردوغان، ظل معدل الفقر راكدًا طوال العقد الماضي في تركيا، بحيث بلغ 13.90 في المئة في عام 2023، وهي النسبة ذاتها تقريبًا بالمقارنة مع عام 2014.
وشهدت الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا في تركيا، وهي القاعدة الإسلاموية الأساسية للرئيس أردوغان، تراجع ثروتها النسبية خلال العقد الماضي. وفي الوقت عينه، دعم المستفيدون الجدد من البرنامج الاقتصادي، أصحاب الدخل المرتفع، أردوغان للانتهازية الاقتصادية والسياسية أكثر منه التوافق الأيديولوجي. وبنتيجة هذا التحول في الدعم، باتت القاعدة الأساسية للرئيس أردوغان تعاني من أزمة في تكلفة المعيشة بينما يجني القادمون الجدد الانتهازيون الفوائد الاقتصادية والسياسية لحكومة وصلت إلى السلطة بفضل قاعدة أردوغان المتدينة.
لا تزال أزمة تكلفة المعيشة متفشية. وبالتالي، من المحتمل أن يواجه "حزب الرفاه الجديد" خيبة الأمل والإحباط لدى الجماهير المهمَلة. لكن هذا الحزب ليس الحل الأمثل لأزمة الملكية التي تواجهها الإسلاموية في تركيا. فقد لاقت الحركة الإسلامية الإصلاحية التابعة للرئيس أردوغان تأييد الجماهير الكبيرة بفضل نظرتها الليبرالية تحديدًا. وفي المقابل، يُعد "حزب الرفاه الجديد" محافظًا جدًا بما يمنعه من اكتساب هذا التأييد في الوقت الحالي. مع ذلك، تشير انتخابات 31 آذار/مارس إلى أنه منافس جدي بالفعل على ملكية "القضية" الإسلاموية.
يُزعم أن "حزب العدالة والتنمية" يعتزم الخضوع لإصلاحات بموجب توجيهات الرئيس أردوغان بعد نتائج الانتخابات، ومن المرجح أن يأخذ أردوغان في الاعتبار بعض هذه القضايا عند صنع القرارات. وتماشيًا مع ذلك، ستكون النقاشات الثقافية والدستورية في تركيا، بالإضافة إلى سياسة تركيا تجاه إسرائيل، من بين القضايا الأكثر دقة وحساسية. لكن لا يزال النجاح المحتمل لهذه الإصلاحات غير مؤكد نظرًا لتطلعات أردوغان القومية الجديدة القائمة على الصفقات والراسخة في الداخل والخارج.