- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
ذكرى الإبادة الأرمنية: مناسبة لإعادة الاعتبار بثنائيات الأخيار والأشرار
الرابع والعشرون من نيسان (أبريل) هو الذكرى السنوية لبدء الأحداث التي أطلقتها السلطات العثمانية عام ١٩١٥ للانتهاء من القضية الأرمنية. والواقع أنه من الصعب مراجعة سلسلة الخطوات التي جرى تنفيذها في هذا السياق - من الترحيل الجماعي والإعدامات إلى قوافل السير القسرية وسط المخاطر - دون الخروج بقناعة أن الهدف كان محي وجود الأرمن من مواطن أجدادهم، أي، عند استعمال المصطلح الحديث، إبادتهم. ويعود للأرمن، في الرقعة التي تبقّت لهم اليوم من وطنهم الأم، وفي مهاجرهم، تبين كيفية السعي إلى إحقاق العدالة، رغم مرور أكثر من قرن ما قدّمت لهم الأسرة الدولية فيه إلا الالتباس والغموض. غير أنه من شأن هذه المناسبة أن تشكل أيضاً فرصة للثقافة العربية لبعض الاعتبار والمراجعة.
بقيت الرواية التقدمية في الثقافة السياسية العربية بشأن المجزرة الأرمنية حتى أواسط ثمانينات القرن الماضي على قدر كبير من التجانس والوضوح. فالأتراك، الذين ثار على ظلمهم العرب في الحرب العالمية الأولى، هم من أرتكب فعل الإبادة. وفي هذه القراءة دوماً مضمون صامت يجري التصريح به أحياناً، وهو أن أرمينيا (يومئذ) جزء من الاتحاد السوڤياتي، القوة العظمى المناصرة للقضايا العربية، والمساندة على وجه الخصوص للفلسطينيين، فيما تركيا حليفة الولايات المتحدة الداعمة الأولى لإسرائيل، بل بحد ذاتها صاحبة العلاقات الودية مع تل أبيب. والاغتيالات التي أقدمت عليها منظمة «أسالا» (الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا) وتصيدت من خلالها السفراء الأتراك لقيت الترحيب هنا ووسمت بالمشروعة كجزء من حركة ثورية أممية تصدّرت في طليعتها بعض الفصائل الفلسطينية.
والحرب اللبنانية كانت قد ابتدأت عام ١٩٧٥ في خضم صراع على الرواية والتوصيف بين «يمين» من التشكيلات المسلحة التي تعتز بانتمائها المسيحي وتعتبر المواجهة تحدياً وجودياً للمسيحية في المشرق، و«يسار» يحفل بالفصائل الشيوعية والعلمانية ويسقط الطائفية معتبراً أنها وحسب قناع من النخبة للمحافظة على امتيازاتها الاقتصادية والسياسية. وجاء موقف الأحزاب الأرمنية اللبنانية، المقرّبة منها من الاتحاد السوڤياتي والمتحفظة إزاءه، بالامتناع عن المشاركة بالحرب الأهلية ليثير حفيظة قيادات أحزاب مسيحية لبنانية أخرى، حيث أنه، وإن دون التصريح الكامل، كان داعماً للرواية «اليسارية». والواقع أنه قد تشكلت يومها بالفعل قراءة فلسطينية-أرمنية- تقدمية للتاريخ تفرز بوضوح صفوف الخير والشر، فالأشرار هم الإسرائيليون والإمپرياليون والأتراك، فيما الأخيار هم العرب والأرمن، غالباً كذلك الأكراد واليونانيون، والسوڤيات بالطبع.
هي قراءة واحدة وحسب ضمن أسلوب تعامل مع التاريخ لخدمة الغاية السياسية، بما يتوافق مع التعبئة والسجاليات، وإن تعامى عن وقائع مزعجة. وثنائيات الأخيار والأشرار والتي تتبدل مع التحولات التي تطال المعترك السياسي، لا تزال هي الطاغية على قراءات الثقافة السياسية العربية. ففي قراءة لاحقة، توضّحت في أواخر التسعينات وبقيت مهيمنة إلى حين اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١، نُزعت جبة الأشرار عن الأتراك وألبسوا عباءة الأخيار فيما خفتت الإشارات إلى التآخي العربي الأرمني. وفي الإصدارات الأخيرة للقراءات السياسية العربية بشأن الأتراك، يظهر التشعب والتباعد في التقييم، على أن كل الصيغ المعتمدة تلتزم الثنائيات المتعارضة، فالأتراك أخيار وأشقاء مسلمون سنة لدى البعض، أو هم أشرار عثمانيون جدد وأذناب للولايات المتحدة لدى البعض الآخر، أو في قراءة ثالثة أشرار انتفاعيين وأمعات للروس. أما الضائع في زخم هذا الشحن العاطفي إزاء الأتراك، فهو النظر بموقع فعل الإبادة الأرمنية في تاريخ المنطقة. والضائع كذلك هو قراءة للدور العربي في هذه المأساة خارج إطار التعارض في الثنائيات.
لا شك أن الأتراك العثمانيين، وتحديداً ضباط تركيا الفتاة الذين أرسوا أسس الجمهورية التركية فيما بعد، هم المسؤولون عن فعل الإبادة تصميماً وتنفيذاً. وحتى عند ذكر هذا المعطى، فإن الحقيقة المزعجة حول طريقة التنفيذ لهذا االفعل الشنيع تكاد أن تستثنى من الذكر دوماً. بل إن الرواية التقدمية لهذه المأساة تبرز ما يفيد بأن اللاجئين الأرمن وجدوا الملاذ في المدن المشرقية العربية، والكثير منهم انتهى به المطاف إلى الاستيطان في لبنان وسوريا، ومنهما إلى خارجهما. وروايات الشهود العيان توثّق بالفعل تدخل من مسلمين ومسيحيين لإنقاذ مرحّلين أرمن من موت محتوم. إلا أن هذه قراءة انتقائية لسجل الوقائع، ذلك أن العثمانيين ارتكبوا فعل الإبادة، جزئياً على الأقل، من خلال إرغام الأرمن على السير الصعب والمميت في بر الشام، تاركين إياهم عرضة لاعتداءات العشائر العربية والكردية. فمن نجا من الأرمن من قساوة البيئة والطقس، وقع في أكثر من حالة فريسة لمغيرين من الأكراد والعرب. ليس في الأمر طبعاً إدانة إجمالية لكافة المسلمين، إلا أن تعارض الثنائيات، بين الأتراك الإشرار والعرب الأخيار (ومقولة الأكراد كضحايا دائمين) أمر لا بد من إعادة النظر به.
صياغة السرديات السياسية في المشرق العربي جاءت استجابة لمقتضى الحال السياسي فأنتجت ظالمين البتة ومظلومين البتة. وما تطمسه هذه السرديات هو تفشي التوحش وتكراره على مدى تاريخها. فالمجتمعات هنا محرومة من فرصة مواجهة هذه الظاهرة والاعتبار من تاريخ القسوة، ومدفوعة بدلاً عن ذلك إلى ازدواجية في الخطاب، فهي تتوحد في العلن بوجه العدو الخارجي وفق تصنيفه الآني، وتعمد في السرّ إلى التشكي من مظلوميتها الفئوية.
وفي لبنان عام ١٩٧٠، أعيد طبع كتاب صادر قبل قرابة نصف قرن، عنوانه «القصارى في نكبات النصارى». كانت بيروت يومئذٍ الحاضرة العربية الحديثة والمتقدمة والمتألقة بلباس تجاوز الطائفية، فكان من شأن هذا الكتاب أن يشكل إحراجاً. وبما أنه يستعرض أحداثاً جرت فيما أصبح الجنوب التركي والشمال السوري، وبما أن دقة تسلسله التاريخي ليست محكمة، فقد تمّ تجاهله. والواقع أن طابع الكتاب العفوي والإخباري كان يوجب له المزيد من العناية. فالكاتب، والذي تحفّظ عن ذكر اسمه، نقل من شهود عيان تضاءلوا على مرّ الفصول أحوال البلدات التي عاينها أو عرفها، حيث شهد المسيحيون ظلم المأمورين والجنود وتهرّب العديد من جيرانهم المسلمين من الالتفات إليهم قبل أن يقعوا ضحية اعتداءات العشائر العربية والكردية والتركمانية. وبدلاً من أن يصبح هذا الكتاب موضوع مراجعة واعتبار لإشكالات الماضي القريب، تحوّل وحسب إلى مادة شحن طائفي في أوساط مسيحية تفاقم شعورها بالمظلومية.
والخوف في أوساط المكشوفين للأذى من أهل المنطقة له ما يبرره. فيما يتعدى رواية هذا الكتاب، يمكن العودة إلى الخلف قليلاً، إلى الحوادث التي وقعت بين العامين ١٨٤٠ و١٨٦٠ في لبنان ودمشق، أو إلى الغزوات الحميدية التي استهدفت الأرمن وغيرهم من مسيحيي الأناضول في تسعينات القرن التاسع عشر، أو التقدم إلى الأمام قليلاً، للوصول إلى نكبة الأشوريين في العراق عام ١٩٣٣، أو الفرهود الذي فتك بيهود بغداد عام ١٩٤١، ومن هذه إلى فظائع الحرب الأهلية في لبنان، حيث شهدت الجماعات المعزولة، من مسلمين ومسيحيين، المجازر والاستباحة من وحي عصور الظلام، إلى حرب الاستنزاف البشري بين العراق وإيران في الثمانينات من القرن الماضي، وما تلاها من عدوان كيماوي على حلبچة كفاتحة لعمليات الأنفال والتي أقدم من خلالها نظام البعث على أعمال إبادية بحق الأكراد. فمع هذا كله يتضح أن ما أقدم عليه نظام دمشق من شناعات وما اقترفه تنظيم الدولة الإسلامية من أذى ليس من الشواذ، بل دور آخر من أدوار واقع متناوب.
أحد الاستعمالات العديدة لمصاب الفلسطينيين هو في تمكين صمت لاأخلاقي في عموم المنطقة. فكلما جرى اعتبار حالة من حالات القسوة الصادمة، والتي لا تزال في الذاكرة، كالعشرية السوداء في الجزائر أو حملة الإبادة الجماعية التي تعرضت لها دارفور في السودان، جاء الرد الكابح أن في هذا الذكر المرفوض تمييعاً للتركيز على مسؤولية إسرائيل عن الألم الفلسطيني. وآخر هذه الحالات، بل أكثرها قباحة ووقاحة، هي حول سوريا اليوم، إذ يعترض المعترضون في بعض الصف التقدمي على تبديد الإدانة التي تستحقها إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة لإساءتهما للحق الفلسطيني، من خلال إكثار الحديث عن مسألة ما يقارب من مليون قتيل و١٢ مليون مهجّر وبلاد قد دمرّت ودكّت وروّعت.
والواقع أنه في كل من التجاهل والإنكار لمسلسل الفظائع التاريخية، وفي الصمت اللاأخلاقي إزاء الجرائم الحالية، استهتار وإهمال لإنسانية ضحايا هذه الوقائع وحقوقهم، بمن فيهم الفلسطينيين، والذين ارتكب النظام السوري في حق المقيمين منهم في مخيم اليرموك قرب دمشق ما ينحدر إلى جرائم حرب إضافية. فالتاريخ هنا ليس إلا جملة أدوات للسجاليات الحامية، يستدعى منه وحسب ما يدعم المواقف السياسية.
أما الأرمن، فهم للثقافة السياسية العربية طرف غير قابل للإدانة. إذ ليس لدى أي من الأطراف المتناحرة في هذه الثقافة من الطعن الذي يمكن إلقاؤه على الأرمن. والأرمن لم يكونوا يوماً عائقاً أمام أية قضية عربية. وجريمة الإبادة التي وقعت بحق الأرمن قد تراجع الاهتمام بها، مقارنة مع يوم كانت تركيا صديقة لإسرائيل وهدفاً محموداً، ولكن الثقافة السياسية العربية لم تشهد إنكاراً يذكر لهذه الجريمة. فلو أن العودة إليها لاعتبارها تنجو من تهمة تبديد الاهتمام بالقضية المركزية، قد تكون هذه الجريمة مدخلاً صالحاً للثقافة العربية، وللثقافة الكردية، للمباشرة بإعادة النظر بتاريخ توحش وقسوة غير قابل للتسطيح على قاعدة ثنائيات الأخيار والأشرار.