- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دراسة تدخّل روسيا الإنساني في سوريا
في خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2015، نجح تدخّل روسيا العسكري في الحرب الأهلية السورية في قلب زخم الصراع من المعارضة إلى الحكومة السورية مجددًا. غير أنّه في خلال السنوات القليلة الماضية، اعتمدت روسيا في الوقت عينه نهجًا أكثر هدوءًا في تدخلها في الصراع السوري من خلال المؤسسات الإنسانية.
وفي حين شهدت مؤخرًا المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا زيادة في العدد الإجمالي للمنظمات الإنسانية الدولية التي تسعى إلى التسجيل والعمل فيها، ضاعفت روسيا بشكل خاص جهودها الإنسانية على مدار السنتَين الأخيرتَين. فقد عملت ثلاثة عشر منظمة إنسانية روسية على الأقل في البلاد منذ عام 2016 مع العلم أن كل هذه المجموعات تقريباً قد بدأت عملياتها في سوريا بعيْد تدخّل روسيا العسكري. وعلى غرار الجهود العسكرية الروسية، من المرجّح أن يكون لهذا "التدخّل الناعم" عواقب وخيمة على مستقبل سوريا لاسيّما في تحديد أوجه مستقبل المساعدات الإنسانية للبلاد.
وفي بعض الحالات، يظهر الرابط بين الجهود العسكرية والإنسانية الروسية جليًا: تستخدم روسيا في المقام الأول مركز المصالحة الروسي في سوريا التابع لوزارة دفاعها للقيام بعمليات توزيع بارزة للمساعدات في أنحاء البلاد. ومنذ تأسيس المركز الإنساني الروسي الأرميني في أوائل عام 2016، وزّعت روسيا أيضًا عدد كبير من شحنات المساعدات في سوريا عن طريقه.
غير أنّه هناك عدد من الكيانات الإنسانية الروسية الأخرى التي لها روابط أقلّ وضوحًا بالعمليات العسكرية على الأرض. وتشمل هذه المجموعات البعثة الإنسانية الروسية، ومؤسسة أحمد قديروف، والمؤسسة الدولية للمساعدات العادلة، وصندوق روسار الخيري، ومنظمة قدامى المحاربين الروس. وأجرت أيضًا ست كيانات روسية منحازة دينيًا على الأقلّ عمليات في سوريا في خلال الصراع، بما فيها مركز تنسيق شؤون مسلمي شمال القوقاز، والكنيسة الروسية الأرثوذكسية، والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الروسية الفلسطنية، والكنيسة الروسية للمسيحيين الإنجيليين، ومؤسسة بولس الرسول للإرث الروحي، ومؤسسة القديس أندراوس المدعو أوّلًا.
وتشمل أسباب وجود هذا العدد من المنظمات سهولة العمل النسبية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. ففي حين يتوجّب على نظيراتها الغربية اتباع عملية معقّدة ومرهقة وطويلة بهدف الحصول على إذن بالعمل رسمياً داخل المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، لا تتمتع المنظمات الروسية بوضع تسجيل واضح في البلاد. من بين الدلائل الأخرى على أن هذه المجموعات تعمل خارج نطاق عملية التسجيل الرسمية للمنظمات غير الحكومية الدولية، هو أن المجموعات الروسية لا تشارك في الاجتماعات المخصصة للمنظمات غير الحكومية المسجلة رسميًا في سوريا.
ونظرًا لهذا الالتباس، ليست القوانين المفروضة على المنظمات الدولية غير الحكومية التي تعمل في المناطق الجغرافية ذاتها هي نفسها المفروضة على منظمات روسية في بعض الحالات. فعلى سبيل المثال، يبدو أنّ "مركز المصالحة الروسي" "والمركز الإنساني الروسي الأرميني" يعملان من دون شريك محلّي مثل "الهلال الأحمر العربي السوري" أو "الأمانة السورية للتنمية،" في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مع العلم أن هذا شرط عام مفروض على المنظمات الدولية غير الحكومية.
وفي أواخر عام 2017 ومجددًا في منتصف عام 2018، عرضت روسيا المساعدة على عدد من المنظمات الغربية غير الحكومية بما فيها الكثير من الجهات الفاعلة عبر الحدود التي تسعى إلى التسجيل والعمل في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. غير أنّه وبالرغم من عقد اجتماعات عدّة، لم تحظَ المنظمات بأي مكاسب ملموسة بعد ثمانية عشر شهرًا- أي الفترة عينها التي تستغرقها عملية التسجيل السورية الرسمية.
ويعني أيضًا إطار العمل المبهم للمنظمات الإنسانية الروسية داخل سوريا أنّها تعمل غالبًا خارج أطر التنسيق الإنساني الأوسع نطاقًا، لا سيّما أطر عمل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وبالرغم من أن تنسيق الأمم المتحدة يعاني من مشاكله الخاصة، إلّا أنّه يضمن وصول المساعدات في أوانها وإعطاء الأولوية لمن هم بأمسّ الحاجة إليها وعدم ازدواجية جهود المساعدات بين المنظمات. وبدلًا من ذلك، ينافس النظام الروسي البديل الأنظمة الإنسانية القائمة على غرار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. وفي حين يتواجد حاليًا هذان النظامان في الوقت عينه، قد يصبح النظام الروسي بسهولة أداة تستخدمها روسيا لتقويض خصومها- كما استخدمت محادثات أستانا لإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة في خلال محادثات السلام السورية.
ونجحت قدرة روسيا على التحايل على عملية التسجيل الرسمية التابعة للحكومة السورية والعمل خارج آليّات تنسيق الأمم المتحدة النموذجية في خلق نظام ظلّ لإيصال المساعدات في سوريا غير مُتاح للمنظمات الخارجية. ولا يبرز هذا النظام الموازي المعايير المزدوجة للحكومة السورية في تعاملها التفضيلي مع المنظمات الإنسانية الروسية فحسب، بل يشكّل أيضًا المشهد الإنساني الحالي ككل في سوريا بطريقة ترجّح الكفة لصالح جهود التدخّل الروسية الأخرى.
أهداف روسيا الإنسانية والسياسية
في حين استُخدمت المساعدة لأغراض إنسانية فعلية من دون شكّ، إلّا أنّ روسيا تنظر إلى استخدام المساعدات الاستراتيجي في السياقات السورية على أنّه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بجهود "قوة الإقناع" التي تبذلها. ففي عام 2007، أشارت صحيفة سياسية روسية رسمية إلى أنّ دور مساعداتها الخارجية هو "... تعزيز مصداقية روسيا وتعزيز سلوك غير متحيّز للاتحاد الروسي في المجتمع الدولي." ويلفت أيضًا خبراء روس إلى أنّ النشاط الإنساني الروسي في سوريا يهدف إلى "... تحسين صورة روسيا في الشرق الأوسط والعالم العربي ككل بدرجة كبيرة، وذلك بهدف إظهار اهتمام روسيا بالناس أيضًا."
ويظهر رابط بين الدولة والمساعدات في بنية الكثير من المنظمات الإنسانية الروسية. فعلى سبيل المثال، إنّ رئيس البعثة الإنسانية الروسية هو إفجيني ألكسندروفيتش بريماكوف - وهو عضو حالي في مجلس الدوما الروسي (البرلمان) وعضو في لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما. أمّا مؤسسة أحمد قديروف فترأسها أيمني نيسيفنا قديروفا، والدة رمضان قديروف رئيس جمهورية الشيشان المستبد الذي تدعمه روسيا. وتجمع أيضًا روابط قوية بين "المؤسسة الدولية للمساعدات العادلة" والكرملين من خلال فيدوتوف ميخاييل ألكسندروفيتش، الرئيس المؤسسة ومستشار الرئيس بوتين. أمّا رئيس "صندوق روسار الخيري" أوليغ إيفانوفيتش فومين فهو عضو "مجلس الخبراء" في منظمة "قدامى المحاربين الروس." وغالبًا ما تعمل منظمات لا ترتبط حتى ارتباطًا مباشرًا بالدولة بالتوافق مع أهداف الدولة في سوريا. فمؤسسة القديس أندراوس المدعو أوّلًا مثلًا تعلن بشكل صريح على موقعها الإلكتروني أنّها تهدف إلى "تعزيز الانتماء للدولة الروسية" ولديها مشروع وطني عسكري محدد لتعزيز تماثل الشباب الروسي مع الجيش.
وتُضخَّم الاستخدامات السياسية هذه للمساعدات بفعل أن الكثير من أعمال روسيا الإنسانية في سوريا هي عمليات رمزية تحصل مرة واحدة فقط. ففي حين قد تتحوّل هذه الجهود إلى عناوين إخبارية، إلا أنها لا تتجّه نحو برامج طويلة الأمد ومستدامة. وكان هذا الحال مع القافلة الإنسانية الفرنسية/ الروسية المشتركة المتجهة نحو الغوطة الشرقية في تمّوز/ يوليو 2018. ولا تكون العمليات الروسية عادة صريحة بشأن المعلومات المتعلقة بامتداد المساعدات: فبدل اتباع طرق نموذجية لإيصال المساعدات تحدّد عدد مواد المساعدات التي جرى تسليمها، وأي مجالات من المساعدات جرى دعمها، وما هي المتطلّبات اللازمة لاستدامة العمليات المستقبلية، غالبًا ما تشير العمليات الروسية إلى عدد أطنان المساعدات التي جرى تسليمها والناس الذين استفادوا من الخدمات ليس إلا. وفي أفضل الأحوال، يعكس النقص في المعلومات ذات الصلة المتاحة للعامة عدم كفاءة الأعمال الإنسانية الروسية وقلّة خبرتها وغياب شفافيتها؛ وفي أسوأ الأحوال، يشير إلى أن هذه القوة الناعمة هي فقك قوة رمزية بحتة.
وفي النهاية، ومن خلال تفضيل الرمزية على الفعالية والفشل في ضمان سهولة وصول المنظمات الدولية، يبدو أنّه من المؤكّد أنّ جهود المساعدات الإنسانية الروسية الحالية في سوريا ستقوّض جهود المساعدات الحالية والمستقبلية الأخرى في البلاد.
تقويض العمليات الإنسانية
من خلال إعطاء الأولوية لصورة روسيا، يهدّد نظام الظلّ للمساعدات الروسية بتقويض قِيَم المساعدات الإنسانية في المشهد السوري. فعلى المستوى المعنوي والأخلاقي، ينبذ الرابط الوثيق بين الدولة الروسية والعمليات الإنسانية في سوريا المبادئ الإنسانية التي توجّه العمل الإنساني، لا سيّما الحياد والاستقلالية.
وتؤمّن هذه المبادئ التي تترسّخ في القانون الدولي الإنساني والتي أجهدتها الحكومة السورية في خلال الصراع إطار عمل معياري للسماح للناس الذين هم بحاجة إلى المساعدة والذين يقدّمون هذه المساعدة بالقيام بذلك بشكل متساو وآمن قدر المستطاع. وتُعدّ هذه المبادئ أساسية أيضًا لضمان الثقة المستمرّة بنظام المساعدات: فهي تُسهّل الثقة بالمجتمع المحلي وإمكانية الوصول المستدامة ووضع البرامج الفعّالة وتحسين التعاون وبناء أسس العمليات الطويلة الأمد في المناطق التي هي بأمسّ الحاجة إلى المساعدات.
وتسلّط المشاعر المتزايدة المناهضة لروسيا من قِبل كل من مجموعات المعارضة والقوّات الحكومية في جنوب سوريا حيث تسيطر الحكومة الضوء على آثار تجاهل هذه القِيَم. فسلوك روسيا المتحزّب الذي لا تحكمه المبادئ حيال المساعدات قد يؤثّر في وجهات النظر حيال روسيا اليوم، ولكنّه قد يؤدّي أيضًا إلى فقدان السوريين للثقة بأنظمة المساعدات الأخرى في المستقبل، ما يقوّض بالتالي الشروط اللازمة لمساعدات إنسانية مستدامة في المستقبل.
يزيد نظام الظلّ للمساعدات الروسية والمعاملة التفضيلية من قِبَل الحكومة السورية من تعقيد البيئة المعقدّة أصلًا التي تعمل في ظلّها المنظمات الإنسانية. وأُعرب عن مخاوف من الفساد والاحتيال واستغلال السلطة في صفوف عدد من الكيانات الروسية العاملة في سوريا، بما فيها "مؤسسة أحمد قديروف" "والمؤسسة الدولية للمساعدات العادلة." ففي بلد يستشري فيه الفساد أصلًا وحيث تُعتبر المساعدات الإنسانية مصدر دخل أساسي للنظام، قد يفاقم سجل ضعيف للعمليات الإنسانية الروسية ]متابعة سجل المساعدات؟ [هذه الممارسات المؤذية.
لقد أظهرت الدراسات أن المستفيدين من المساعدات لا يقدرون في معظم الأحيان على التمييز بين الكيانات الإنسانية المختلفة التي تمدّهم بالمساعدات. فإذا خسرت المنظمات الروسية الثقة في صفوف السوريين، قد تؤثّر هذه الأنشطة بشكل كبير على الرأي حيال المساعدات وسمعتها داخل سوريا ككل. وتشير دراسات الحالات إلى أن هذا النوع من فقدان الثقة قد يستغرق عقودًا لإصلاحه.
مواجهة التحدّي
يستلزم الردّ الدولي على نظام الظلّ للمساعدات الروسية نهجًا متعدد الأوجه. ويستلزم الأمر الحذر أيضًا لا سيّما من الممارسين على الأرض لأنهم الأكثر عرضة وعن غير قصد لتشريع استخدام روسيا السياسي للمساعدات وقد يكونون الأكثر تأثّرًا بوعود المنظمات الروسية غير الموفى بها. وإن لم تكن منظمات المساعدات حذرة، قد تثقل كاهلها شراكة غير متساوية مع جهة لا تتمتّع بالخبرة وتجري إدارتها بشكل ضعيف.
ويمكن تركيز الجهود المباشرة على تحسين فهم روسيا للمبادئ الإنسانية وكيف تُعتبر هذه المبادئ أداة قيّمة للقيام بعمليات فعّالة. وعلى الأقل، ينبغي على المنظمات الدولية دفع الكيانات الروسية إلى الابتعاد عن الدولة الروسية وجيشها وعن الجيش السوري أيضًا. وعلى وجه الخصوص، لا بدّ أن تبتعد هذه الكيانات عن الشخصيات التنفيذية أو أعضاء مجلس الإدارة أو الشخصيات التشغيلية داخل المنظمة. وقد يعزّز القيام بذلك الجوانب غير الحزبية لهذه الكيانات ويسمح لها ببناء الثقة والشراكات الطويلة الأمد والفعّالة على الأرض وقد يساعد أيضًا على بناء القدرة على التكيّف مع أي تغيير يطرأ على العلاقات الروسية السورية في المستقبل.
وينبغي القيام بمحاولات قوية للتشجيع على إدماج الكيانات الإنسانية الروسية في هيكليات تنسيق قائمة في سوريا، لا سيّما مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. ويشمل ذلك كيانات روسية مسجّلة رسميًا وتعمل في سوريا (مثل العمل مع شريك محلّي) كما تفعل المنظمات الغربية غير الحكومية. لن يسهم استبعاد هذه الكيانات الروسية عن هذه النظم سوى في تعزيز مكانتها وتقويض البُنى القائمة وترك نظام الظلّ للمساعدات عرضة للتلاعب السياسي من قِبَل الدولة الروسية أو السورية في المستقبل.
وفي النهاية، على الكيانات الدولية التي تتمتّع بخبرة أكبر محاولة تأمين دعم كافٍ لبناء قدرة الجهات الروسية على التركيز على الممارسات الفضلى لمكافحة الفساد وتحسين الشفافية وتطوير برامج طويلة الأمد ومستدامة.
إن هذه الجهود هي منوطة بالتطرّق إلى المشكلة الأكبر: لا يزال النظام السوري يسيطر بقوّة، والأرجح أنه سيظلّ كذلك، على المشهد الإنساني الحالي المعقّد في سوريا. وفي النهاية، إن لم يتغيّر شيء في كيفية تعامل النظام مع وجهات نظره حيال المساعدات الدولية، سيبقى المواطن السوري العادي هو من يعاني.