- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دور الدروس المستخلصة من الجزائر في رسم المشهد العراقي
تحوّل تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش") في العراق من كيانٍ حاكمٍ إلى تنظيم مبعثر بعد الهزيمة العسكرية التي مُني بها. مع ذلك، وبسبب تفشي التطرف في كل أرجاء العالم، لا يزال من الضروري مكافحة إيديولوجية هذا التنظيم بحكم سهولة تطورها وانتشارها على يد التنظيمات المتطرفة الأخرى. لحسن الحظ أن المعركة الناجحة ضد الإيديولوجيات الراديكالية خلال الحرب الأهلية التي دامت لعقدٍ كامل من الزمن في الجزائر تشكل نموذجًا يمكن لكل من يسعى إلى مكافحة الإرهاب في العراق اليوم أن يقتدي به.
فقد بدأ الصراع الجزائري مع التطرف في العام 1990 بعد أن أعلن حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الجهاد على الحكومة الجزائرية مشعلاً بذلك فتيل الحرب الأهلية. وبعد أن تمحورت جهود الإدارة الجزائرية حول قمع التنظيمات المتطرفة من خلال الجيش الجزائري، سرعان ما اكتشفت الحكومة أن التركيز على القمع العسكري وحده كان يغذّي التطرف وأن مكافحة الإرهاب تتطلب مكافحة الجاذبية الإيديولوجية التي تملكها هذه التنظيمات.
والجدير بالذكر هو أن المقاربة المختلطة المنتهجة للتعامل مع المحفزات السياسية والعسكرية والاقتصادية والدينية للتطرف حققت نجاحًا كبيرًا في الجزائر على المستويين الداخلي والخارجي. فالراديكالية اليوم، وبعد مرور عشرين سنة، لم تعد تتمتع بجاذبية تُذكر في الجزائر، و"الجماعة الإسلامية المسلّحة" قُمعت بنجاح، وحتى التنظيم الذي خلفها – أي "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" – افتقر إلى العديد والموارد اللازمة لمحاربة الجيش الجزائري إلى أن انتهى به المطاف إلى الرحيل عن البلد بأسره ومبايعة تنظيم "القاعدة" وإنشاء شبكة ناجحة في منطقة الساحل الأفريقي. بمعنى آخر، لم تنجح الجزائر في قمع تنظيماتها المتطرفة فحسب بل حصنت نفسها أيضًا ضد أي تطرف مستقبلي.
والواقع أن "داعش" لم تنجح في تجنيد الجزائريين للانضمام إلى قضيتها، إذ لم ينضمّ إليها سوى 170 جزائريًا في الوقت الذي بلغ عدد التونسيين والمغربيين المنضمين إلى "داعش" 3 آلاف وألفًا وخمسمائة على التوالي، علمًا بأن الكثيرين غيرهم ألقي القبض عليهم فيما كانوا يحاولون الانضمام إلى التنظيم. وحتى فرع "داعش" الجزائري الملقب "جُند الخلافة" لم يستطع أن يشكل تهديدًا فعليًا في البلاد. تبيّن هذه الأرقام اختلافًا ملحوظًا عن الفترات الماضية التي سبقت حرب الجزائر الممنهجة على الإرهاب: فالجزائريون كانوا من أوائل المقاتلين الذين انتقلوا إلى أفغانستان للانضمام إلى حركة الجهاد العالمية ضد الاتحاد السوفياتي، وقد انضم هؤلاء المقاتلين المتمرسين إلى التنظيمات المتطرفة خلال الحرب الأهلية التي شهدتها تسعينات القرن العشرين.
نظرًا إلى فعالية الاستراتيجية الجزائرية داخل الجزائر، وإذا طُبّقت هذه التدابير في الدول التي تسبب فيها "داعش" مشكلة محلية على غرار العراق، من الممكن أن تتمتع هذه التدابير بفعالية أكبر في دعم الجهود التي تبذل حاليًا لمواصلة القمع العسكري. فنشاط "داعش" المستمر في العراق يبرهن أن التحديات التي يواجهها البلد مع الإرهاب – وإن كانت مستترة في الوقت الراهن – بعيدة كل البعد عن النهاية.
وبفعل أوجه الشبه الرئيسية بين "داعش" والتنظيمات الأخرى المماثلة لـ "الجماعة الإسلامية المسلّحة" – ومنها إعلان دولة الخلافة لتحميس الأتباع – يمكن الاسترشاد بجهود الجزائر السابقة لقمع التوجه الراديكالي في الاستراتيجية المعاصرة المتبعة ضد "داعش". بمعنىً آخر، إذا استندت بغداد إلى النجاح الذي حققته الجزائر، قد تتمكّن من إضعاف قدرة "داعش" على نشر إيديولوجيتها بشكل ملحوظ ومن إضعاف قدرات التنظيمات المتطرفة الأخرى على استقطاب المواطنين.
التدابير السياسية
بادرت الجزائر إلى تسوية سياسية ("ميثاق السلم والمصالحة الوطنية") شملت كل المعارضين السياسيين في حوار هدف إلى استعادة الأمان في البلاد. وفي محاولة لإنهاء الحرب الأهلية، عرضت الجزائر عفوًا غير مشروط عن كل المقاتلين الذين سلّموا سلاحهم بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 2006، وفضلاً عن ذلك باشرت الحكومة ببرنامج مبتكر لإعادة التأهيل أتيح من خلاله للمقاتلين والسجناء الذين كانوا متورطين في أنشطة إرهابية إلى التعبير عن ندمهم والتخلي عن أيديولوجيتهم العنيفة.
والآن وقد نجح العراق في استعادة الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرة "داعش"، أصبح أخيرًا بالإمكان تطبيق برنامج لإعادة التأهيل السياسي. وإعادة التأهيل لا تنجح بدون حوار سياسي جامع وقادر على شمل مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية العراقية. ولهذه الغاية، تعتبر تشكيلة الحكومة العراقية المقبلة عاملاً جوهريًا في نجاح التنفيذ السياسي. لذلك، وفيما تعمل الإدارة المقبلة على وضع جدول بأعمال الحكم التي ستنفّذها، ستتسنى للعراق فرصة تأمين الظروف والشروط اللازمة لإنجاح برنامج الابتعاد عن الراديكالية وفق ما أثبتته التجربة الجزائرية.
التدابير الأمنية
اتّبعت الجزائر منهجًا أمنيًا مشدّدًا يقوم على استراتيجيتين هما الردع والإجبار. ففي ذروة المخاوف من "داعش"، عمد الجيش الجزائري إلى التصرف باستباقية فضاعف إنفاقه العسكري وإمكانياته العسكرية بنسبة 176 في المائة ليصل إجمالي الإنفاق السنوي إلى 10.4 مليار دولار، وركّزت القوات الجزائرية على حماية الحدود لتضمن بذلك عدم تمكّن التنظيمات الإرهابية الناشطة في المنطقة من الدخول إلى أراضيها.
والواقع أن استراتيجية الردع هذه لم تنجح تمامًا في الجزائر إلا بعد أن أكرهت الحكومة العناصر المتبقين من "الجماعة الإسلامية المسلحة" على الاستسلام عبر ضمان العفو لهم، ما دفع ستة آلاف متطرف إلى تسليم سلاحهم وأدّى إلى تسريع العملية السياسية الآيلة إلى إنهاء الحرب الأهلية. ويمكن تطبيق الأمر نفسه في العراق إذا بادرت بغداد إلى عملية مصالحة تنطوي على وعدٍ محتمل بالعفو عن العناصر المتبقين من "داعش" فيما تتبع استراتيجية قائمة على الردع والإجبار.
واليوم تعتبر هذه السياسات أساسية مع مشارفة حرب العراق ضد "داعش" على نهايتها. ومن الممكن تطبيق كلتا الطريقتين بواسطة قوات اتحادية لمكافحة الإرهاب تكون مرتبطة بالجيش العراقي إنما مستقلة عنه، على أن تكون هذه القوات مكوّنة عن قصد من مختلف الأطياف وأن تنسّق مع "حكومة إقليم كردستان" والحكومة العراقية والعشائر السنية لتضمن سلامة إمكانياتها من العراقيل التي تسببها المخاوف الداخلية. ومتى طوّر العراق هذه القوات عند حدوده مع سوريا، استطاع تعزيز الجهود الأخرى التي يبذلها لمنع الإرهابيين من تجاوز حدوده، بما في ذلك السور الأمني الجاري بناؤه. وإذا مارست هذه القوات ضغطًا متواصلاً في تلك المناطق، قد تتمكّن من إرغام التجمّعات الصغيرة لأتباع "داعش" على تسليم سلاحها في الوقت الذي تؤمّن فيه للمقاتلين العراقيين فرصة التوبة والانضمام إلى عائلاتهم.
التدابير الاقتصادية
في العام 2000، بدأت الحكومة الجزائرية إصلاحات اقتصادية مكثفة تضمّنت مشاريع ضخمة وبنى تحتية هدفت إلى منح المواطنين فرصًا اقتصادية جديدة. ورمت هذه التدابير الاقتصادية إلى استقطاب نسبة أكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتوطيد العلاقة بين الحكومة والسكان بعد أن تدهورت خلال ما عُرف بالعشرية السوداء. وكذلك عالجت الجزائر مشكلة ضحايا المأساة الوطنية عبر تقديم تعويضات مالية لأسر الضحايا والمفقودين مداواةً لجروحهم.
والإصلاحات الاقتصادية ممكنة في العراق، فموارده الطبيعية جعلته وجهةً مستقطبة لتدفق أموال إعادة الإعمار. من الناحية العملية، يجب على الحكومة العراقية إقامة حوار مع السكان السنّة وتطبيق سياسات موجّهة نحو المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة "داعش". فأحد المحفزات التي دفعت العراقيين إلى الانشقاق عن الدولة والانضمام إلى "داعش" هو شعور أبناء شمالي العراق بتعرّضهم للتهميش الاجتماعي الاقتصادي. وبالتالي لابد لحكومة بغداد أن تركّز على تبنّي حوكمة رشيدة في الأراضي الخاضعة سابقًا لـ "داعش" وعلى تغيير التحديات الاقتصادية ومشاعر الإقصاء الطائفي التي أدّت إلى التوجه نحو الراديكالية. فالأمن العسكري لن يستتبّ إلا إذا ترافق مع الأمن الاقتصادي.
التدابير الدينية
يتمحور الحيّز الرابع من التدابير حول التحكم بالخطاب الديني المحلي لمنع الرسائل التي تحث على التطرف. فقد أحكمت الجزائر سيطرتها على كافة المؤسسات الدينية وكفّت يد الدعاة المتطرفين الذين كانوا يروّجون لنسخة متطرفة من الإسلام من داخل المساجد والمدارس القرآنية. ولكن القمع وحده لا يكفي، فالحكومة الجزائرية عمدت أيضًا إلى استبدال هذه الإيديولوجية السامّة عبر تشجيع نسخة مختلفة من الإسلام، وهي السلفية العلمية أو السلمية. فقد قدّمت السلفية العلمية وجهات نظر معتدلة كبدائل للأشخاص المستائين من عنف التنظيمات الإرهابية. ويركز علماء السلفية العلمية على الممارسات الدينية الشخصية ويرفضون مذهب الجهاد السياسي، مع التركيز على دور تفوّق هدفهم المتمثل "بالتطهير والتعليم" الفردي في الوصول بنهاية المطاف إلى دولة إسلامية بدون عنف.
واليوم تشكل المفاهيم التي تنطوي عليها السلفية العلمية سبيلاً ليضعف العراق عوامل الجذب والدفع المحددة التي تؤدي إلى الراديكالية. ولذلك، عوضًا عن وصف جهود مكافحة الإرهاب بـ "الإيدلوجية المعتدلة ضد الإيديولوجية الإرهابية"، يجب على المؤسسات الدينية في العراق أن تضع معركة الأفكار هذه في إطار تسمية "العناصر الإرهابية مقابل الإسلام".
وفي معركة الأفكار هذه، من الضروري التصدي للخطابات من أجل نشر ذرائع معتدلة صادرة عن علماء السلفية العلمية الذين طعنوا في تفسير "داعش" للدين الإسلامي ورفضوا نظرة التنظيم للجهاد. وهنا يجب على المؤسسات الدينية العراقية أن ترحّب بهؤلاء العلماء وتشجّع على نشر هذه الآراء داخل المساجد وعلى شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي من أجل تقديم بديل غني وقابل للتطبيق عن إيديولوجية "داعش".
قد يعتبر البعض أن نجاح الجزائر في حربها على الإرهاب نتج عن حقبة مختلفة، إلا أن العوامل التي رسمت المواجهة بين الجزائر والإرهاب يجب أن تكون مصدر إلهام للعراق. فصحيحٌ أن الحربين مختلفتان في الجوهر من حيث المسببات والنتائج، ولكنها تنطويان مع ذلك على دروس يمكن تعلّمها من الأساليب غير العسكرية التي استُخدمت خلال الحرب الأهلية الجزائرية. فتجربة الجزائر تثبت أن مكافحة الإرهاب تتطلب أكثر من مجرد طمر الخلافة قسرًا تحت التراب، فهي تستدعي حلاًّ يتمثل بمكافحة التوجهات الراديكالية ويؤدي إلى هزيمة إيديولوجية. من هذا المنطلق، فإن الطريقة الفضلى للتصدي لإيديولوجية "داعش" هي بالدمج بين التدابير القاسية والخفيفة على المدى الطويل وبالإيمان بإمكانية هزيمة عقيدة التطرف والاستعاضة عنها بأهداف أفضل.