- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دور المحكمة الاتحادية العليا في العراق في تقويض العملية الديمقراطية
يواجه العراق خطرًا حقيقيًا يتمثل في فقدان جميع الضوابط والتوازنات، وفي الفشل كدولة ديمقراطية دستورية بسبب الانهيار السريع لنظام الفصل بين السلطات.
تُعتبَر المحكمة الدستورية عمومًا أعلى سلطة قضائية في كل دولة، وتكون قراراتها نهائية وغير قابلة للاستئناف. وتُعَدّ المحكمة حصنًا وجهة ضامنة لكفاءة النظام الدستوري واستمراريته ونجاحه، خاصةً في الدول الفيدرالية. وإذا لم تتجاوز المحكمة دورها ومهمتها، فهي أساس نجاح النظام الفيدرالي. لكن عندما تكون أداة سياسية تتدخل في الخلافات السياسية، فهي تصبح وسيلة خطيرة تقوّض العملية برمتها، وستؤدي على الأرجح إلى إسقاط النظام في نهاية المطاف.
بينما نرى أمثلة متعددة عن محاكم دستورية تعمل بنجاح في الدول الفيدرالية، قد يشكل الوضع الحالي في العراق التجلي الأوضح للخطر الذي تمثّله الحالة المعاكسة. فأعلى محكمة في العراق غير دستورية بحد ذاتها لأنها لم تُدرَج في أحكام الدستور، وقد انحرفت المحكمة مؤخرًا عن سلطتها المحددة سابقًا من خلال العمل كأداة سياسية تقهر من تعتبرهم خصومًا في الخلافات السياسية.
خلفية إنشاء "المحكمة الاتحادية" والعيوب التي تشوبه
أنشئت المحكمة الدستورية الأولى في العراق بموجب المواد 81-87 من دستور عام 1925. وكانت المحكمة بمثابة مؤسسة مستقلة في العراق حتى عام 1979، عندما دُمِج "مجلس القضاء" العراقي مع وزارة العدل أثناء عملية التطهير في عهد صدام، وفقدت المحكمة مكانتها وقيمتها. وبعد عام 2003، شكلت "سلطة الائتلاف المؤقتة" لجنة عليا لمراجعة المحاكم والقضاة، وعزلت القضاة الذين كانوا مقربين من نظام "البعث" السابق، فأنشأت بالتالي فرصًا لإجراء تعيينات جديدة. واستعاد "مجلس القضاء الأعلى" استقلاليته، ففُصِل عن وزارة العدل. وأدى الأمر رقم 35 الصادر عن "سلطة الائتلاف المؤقتة" في عام 2003 إلى إنشاء "مجلس القضاء الأعلى" برئاسة رئيس القضاة مدحت المحمود.
بعد إنشاء "مجلس الحكم العراقي" وسن "قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية" وتأكيد الفيدرالية، نصت أحكام المادة 44 من "قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية" على أن المحكمة الدستورية هي التي ستشكل أساس النظام الفيدرالي. وأصدرت الحكومة العراقية برئاسة إياد علاوي القانون رقم 30 لعام 2005، فأنشئت بموجبه "المحكمة الاتحادية العليا" التي يرأسها أيضًا رئيس القضاة مدحت المحمود صراحةً لفترة ما قبل الدستور في العراق.
عندما أنشئت المحكمة، كانت المناقشات حول صياغة دستور دائم قد بدأت. وبعد مرور عشرة أشهرٍ على تشكيل المحكمة، طُرِح الدستور العراقي الدائم للاستفتاء وتم التصديق عليه في تشرين الأول/أكتوبر 2005. وفي هذه المرحلة، كان من المقرر أن تنتهي صلاحية "المحكمة الاتحادية العليا"، وكان تشكيل نسخة دائمة منها يتطلب إقرار قانون. وعلاوةً على ذلك، أُبطِل الأساس القانوني الوحيد لها، أي المادة 44 من "قانون إدارة الدولة للفترة الانتقالية"، بموجب المادة 143 من الدستور. وعلى عكس "المحكمة الجنائية العراقية العليا"، الممدد لها صراحةً في المادة 134 من الدستور الذي تم إقراره حديثًا، اشترطت المادة 92 صراحةً إعادة تشكيل "المحكمة الاتحادية العليا" من خلال إقرار قانون جديد بأغلبية ثلثي الأصوات البرلمانية، وهي عملية لم تحدث قط.
تعديل متسرع وغير دستوري بشأن "المحكمة الاتحادية العليا" من خلال القانون رقم 25 لعام 2021
بعد الأزمة السياسية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وسقوط حكومة عادل عبد المهدي، أدى تقاعد القاضي فاروق سامي ووفاة القاضي عبود التميمي إلى شلل "المحكمة الاتحادية العليا". فتتطلب هذه المحكمة، التي لا تزال قائمة على أساس القانون رقم 30، حضور جميع القضاة في القضايا. ولم يتسنَّ ملء المقعدين الشاغرين بسبب الخلافات حول آلية التعيينات.
في الوقت نفسه، لم تتم تلبية مطالب المتظاهرين بإجراء انتخابات مبكرة بسبب شلل "المحكمة الاتحادية العليا"، نظرًا إلى الشرط الدستوري الذي يقضي بضرورة موافقتها على النتائج النهائية للانتخابات. وقد فشلت محاولات الأحزاب السياسية للتوصل إلى تسوية وإقرار قانون بشأن "المحكمة الاتحادية العليا". فبهدف معالجة هذه المسألة، تم أخيرًا تعديل القانون رقم 30 لعام 2005 في 18 آذار/مارس 2021 بأغلبية بسيطة بلغت 204 نواب من خلال إقرار القانون رقم 25 لعام 2021. وشابت هذا التعديل عدة عيوب أساسية هي:
- الافتقار إلى الأغلبية العظمى اللازمة. أصدرت "المحكمة الاتحادية العليا" بنفسها القرار رقم 107 لعام 2012، حيث أكدت على أن إقرار التشريع المتعلق بها أو تعديله يجب أن يراعي أحكام الفقرة الثانية من المادة 92 في الدستور، التي تقضي بأن التعديل يتم إقراره بأغلبية الثلثين. وبالتالي، لم يكن الهامش الذي مثّلته الأغلبية البسيطة كافيًا لتعديل الأمر رقم 30.
- تجاوُز الرئاسة. بموجب الدستور، يجب أن يُصدر رئيس العراق مراسيم عند إقرار القوانين أو التعديلات. لكن بالنسبة إلى هذا القانون غير الدستوري، صدر المرسوم من رئيس مجلس النواب الذي لا يتمتع بهذه الصلاحية.
- انخفاض التمثيل في "المحكمة الاتحادية العليا" ما بعد عام 2021. في التعديل الذي أُقرّ عام 2021 والذي تشوبه العيوب، تم تعديل المادة 3 من القانون رقم 30 لعام 2005 من أجل إنشاء إجراءات جديدة لتعيين أعضاء المحكمة، مما أدى إلى إلغاء حق إقليم كردستان في تعيين أعضاء في "المحكمة الاتحادية العليا" بالتنسيق مع "مجلس القضاء" في إقليم كردستان. فأسقط التعديل هذا الحق، مما أخل بالتوازن العرقي والطائفي والديني في العراق.
تجاوُز نطاق الدعاوى والادعاءات ما بعد عام 2021
أحد المبادئ الملزِمة في العملية القضائية وعمل المحاكم هو التزام المحكمة بنطاق الدعوى والادعاء. إلا أن "المحكمة الاتحادية العليا" في تشكيلتها الحالية تنتهك هذا المبدأ الملزِم في "قانون المرافعات المدنية" العراقي رقم 83 لسنة 1969. فقد رأت المحكمة في بعض الادعاءات فرصةً لتوسيع نطاق شكوى المدعي، واستخدامها للتحكم بأجندات سياسية وتنفيذها.
على سبيل المثال، لم تدعُ شكوى "الاتحاد الوطني الكردستاني" الأخيرة ضد "قانون انتخابات برلمان كردستان" إلى إزالة المقاعد المخصصة للمكونات العرقية والدينية في إقليم كردستان، بل إلى توزيع تلك المقاعد على الدوائر الانتخابية. وبموجب المبدأ الراسخ في القانون والعدالة، يقتصر الادعاء على نطاق الاستدعاء، ولا ينبغي الحكم عليه بما يتجاوز ادعاءات المدعي. فبدلًا من ذلك، أعطت "المحكمة الاتحادية العليا" لنفسها دور الجهة الواضعة والمعدِّلة للقانون. ويتجسد أحدث مثال على المخالفات القانونية والدستورية في الحكم الصادر بشأن الوحدتين 131 و185 من الدعوى رقم 83 لعام 2023 حول "قانون انتخابات برلمان كردستان"، في النقاط 2 و3 و4 و5 من الحكم. وقد أشار "مجلس شورى إقليم كردستان" إلى عدم دستورية نقاط الحكم ومخالفاته الدستورية.
صلاحيات غير متناسقة وتوسعية وضعتها "المحكمة الاتحادية العليا" بنفسها
في غضون ذلك، اعتمدت "المحكمة الاتحادية العليا" النظام الداخلي الخاص بها، الذي كان وسيبقى له تداعيات قانونية وسياسية كبيرة. وتنتهك هذه القواعد الداخلية الدستور وحتى القانون نفسه، وكذلك "قانون المرافعات المدنية" العراقي. فقد أعطت المحكمة لنفسها حقين في قواعدها وهما: حق التصدي وحق العدول، وكلاهما مفهومان قانونيان لا أساس لهما، ويسمحان لها بأن تكون أكثر نشاطًا وتطفلًا مما قصده واضعو الأطر الدستورية.
إحدى صلاحيات المحكمة بموجب المادة 93 من الدستور هي مراقبة دستورية القوانين. وقد تجاوزت المحكمة هذه الصلاحية فمنحت نفسها حق الفصل في مشاريع القوانين الأولية التي لم تتحول حتى إلى قوانين. لكن لا يتم تطبيق ذلك بشكل متناسق: ففي بعض الحالات، تضغط المحكمة لإلغاء المشاريع التشريعية قبل إقرارها (عندما يناسب ذلك الفصائل السياسية الشيعية المهيمنة)، بينما تشير إلى أن بعض المشاريع القانونية الأخرى (التي تدعمها الفصائل الشيعية) لا يمكن الطعن فيها إلا بعد إقرارها.
على سبيل المثال، في الولاية الخامسة لبرلمان كردستان، تم تقديم مشروع قانون من أجل إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة قادة تنظيم "الدولة الإسلامية". وبينما كان مشروع القانون لا يزال في مرحلة الصياغة ضمن اللجان البرلمانية، قضت "المحكمة الاتحادية العليا" بعدم دستورية مشروع القانون هذا. وفي المقابل، عندما أُقرّ "قانون الإدارة المالية للدولة" في البرلمان العراقي عام 2019، كان يتضمن عدة مواد غير دستورية. وتم إقرار القانون وإصدار المرسوم الرئاسي، لكن المحكمة لم ترفع أي دعوى ضد عدم دستوريته، بحجة أنه لا يجوز الطعن في القانون إلا بعد تنفيذه. فيسلّط هذان المثلان المتضاربان الضوء على الغموض وازدواجية المعايير التي تستخدمها المحكمة.
تعدّي "المحكمة الاتحادية العليا" على التعديل الدستوري
أعطت هذه "المحكمة الاتحادية العليا" لنفسها أيضًا دور تعديل الدستور. فبينما فُرضت قيود صارمة على تعديلات الدستور العراقي بموجب المادتين 126 و142 لحماية الحقوق والصلاحيات، منحت التشكيلة الحالية في "المحكمة الاتحادية العليا" نفسها صلاحية تعديل نصوص الدستور.
على سبيل المثال، لا تنص المادة 110 من الدستور العراقي على أن إدارة الموارد الطبيعية، بما فيها النفط والغاز، هي سلطة حصرية تتمتع بها الحكومة الفيدرالية. وتنص المادة 112 (1) على أن إدارة النفط والغاز هي سلطة مشتركة بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم، التي تُعتبَر مسؤولة بشكلٍ مشتركٍ عن إدارة حقول النفط الموجودة مسبقًا. ومع ذلك، في 15 شباط/فبراير 2022، أصدرت "المحكمة الاتحادية العليا" قرارًا أعلنت بموجبه عدم دستورية كامل قانون النفط والغاز لإقليم كردستان العراق رقم 22 لسنة 2007، على أساس أن إدارة النفط والغاز هي سلطة حصرية تتمتع بها الحكومة الفيدرالية. فلاقى هذا القرار رفضًا من قِبل جميع السلطات الأربع في إقليم كردستان، أي البرلمان والحكومة والرئاسة ومجلس القضاء.
استخدام "المحكمة الاتحادية العليا" كسلاح فعّال في الخلافات السياسية الحالية في العراق
إن "المحكمة الاتحادية العليا" لها تأثير كبير في تنفيذ النظام الفيدرالي، ويؤدي عدم تحديد سلطتها وتنظيمها بعناية إلى ظهور "ديكتاتورية قضائية" خطيرة، على حد تعبير ويليام كويرك وراندال بريدويل. فمن المعروف أن القضاة التسعة يضمون خمسة من الشيعة واثنين من السنّة واثنين من الأكراد. وبموجب قانونهم الخاص، يتم اتخاذ قرارات المحكمة بالأغلبية البسيطة، مما سبق أن أدى عدة مرات إلى استغلال "المحكمة الاتحادية العليا" بشكل عنيف لصالح الفصيل السياسي الشيعي، وغالبًا ضد إقليم كردستان بالتحديد.
في السنوات الثلاث الماضية، أصدرت المحكمة عدة أحكام محورية تتعلق بالعملية السياسية العراقية، وهي تشمل على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
تعديل الآليات الدستورية الخاصة بالانتخابات الرئاسية، وذلك لاستبعاد مرشح لا يحظى بدعم الفصائل الشيعية المهيمنة، على الرغم من أن العرف يسمح باختيار الأكراد للمرشح الرئاسي؛
إعادة ابتكار آلية تشكيل الحكومة لتحديد الكتلة الفائزة في الانتخابات، مما أدى فعليًا إلى تغيير النتيجة في عام 2021، وتحقيق ما دعته وسائل الإعلام العراقية بـ"حُكم الخاسرين"، حيث يتم إقصاء الفائز في الانتخابات وإيصال منافسيه الخاسرين إلى السلطة.
الاستمرار في تقليص نطاق الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها إقليم كردستان لصالح تفوُّق الحكومة الفيدرالية، وذلك بما يتعارض مع مبدأ اللامركزية الإدارية الذي قام عليه المشروع الدستوري برمّته، والمنصوص عليه في الدستور العراقي المكتوب.
لقد استقال الآن أحد القاضيين الكرديين في "المحكمة الاتحادية العليا". وفي خطاب استقالته، ذكر القاضي عبد الرحمن زيباري بوضوح أن "المحكمة الاتحادية العليا" تجاوزت دورها الدستوري وأصبحت أداةً لتنفيذ الأجندات السياسية. فتم استخدامها لمنع الفائزين في الانتخابات من تشكيل حكومة، ولحرمان شريحة كبيرة في البلاد (أي سكان كردستان الذين يزيد عددهم عن خمسة ملايين نسمة) من الدخل، ولإقالة رئيس مجلس النواب العراقي السني محمد الحلبوسي، ولتجريد بعض النواب مثل مشعان الجبوري من عضويتهم إذا لم يلتزموا بتنفيذ أجندة معيّنة.
هذه أمثلة بارزة لكنها ليست سوى مجموعة فرعية صغيرة من المشاكل التي سببتها "المحكمة الاتحادية العليا". ومع المضي قدمًا، يواجه العراق خطرًا حقيقيًا يتمثل في فقدان جميع الضوابط والتوازنات، وفي الفشل كدولة ديمقراطية دستورية بسبب الانهيار السريع لنظام الفصل بين السلطات. وهذا الفصل بين السلطات منصوص عليه في المادة 47 من الدستور العراقي، وهو مبدأ دولي، ويشكل جوهر نظام الحكم الديمقراطي العالمي. فيجب إصلاح "المحكمة الاتحادية العليا" ومراجعة إجراءاتها السابقة بشكلٍ شاملٍ على ضوء عدم إنشائها بطريقة قانونية ودستورية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2005. وكما أوضح بيان المكتب السياسي في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بتاريخ 18 آذار/مارس 2024، يشكل حظر هذه المؤسسة القضائية المسيّسة مسؤولية وطنية. كذلك، يشكل الحفاظ على الفصل الوظيفي بين السلطات أيضًا مسؤولية دولية وخاصةً أمريكية، بما أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أقنعا كردستان بأن تبقى جزءًا من العراق ما بعد عام 2003 بشرط ضمان فيدرالية العراق في الدستور الجديد.