- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
دعوة للإصلاح السلمي والدستوري في العراق
يعاني المشهد العراقي حالياً مأزقاً سياسياً خطيراً، غير أن هذا الوضع في حد ذاته هو فرصة للعراقيين المعتدلين للعمل على تضافر الجهود، من أجل تجاوز الانزلاق إلى أزمة، قد تتسبب فيها الأحزاب الإسلامية الطائفية، بل وقد تكون أكثر خطورة من تلك التي نجمت عما يسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية».
لقد حان الوقت لكي يضغط المجتمع المدني العراقي بكل قواه من أجل تحقيق الإصلاح، فهناك تزايد ملحوظ في الوعي بأهمية التخلي عن الأسس الطائفية والعرقية القائمة على نظام الحصص، والتي تُدار بها العملية السياسية في العراق. إذ بدأ الناخبون من الشباب يركزون على حشد التأييد الشعبي لدعم الإصلاح على نطاق واسع، إلى جانب ما تم تشكيله من "تحالف الإصلاح"، والذي يعكس معارضة برلمانية واضحة لنظام الحصص.
وتعكس هذه الدعوات للإصلاح كيف أن الأحزاب الإسلامية العراقية الرئيسية قد فقدت مصداقيتها وشعبيتها، وعلى أن خطابها الطائفي القائم على تعبئة المجتمعات المحلية ضد بعضها البعض، لم يعد له تأثير كبير، خاصة بعد أن تم تقويض سمعة هذه الكتل السياسية، جراء حمايتها لكبار المسؤولين الفاسدين، في ظل وجود دعوات متعددة تطالب بوضع أي مسؤول موضع المساءلة والمحاسبة.
إن عراق اليوم في أمس الحاجة للإصلاح على مستويات متعددة، وذلك لضمان الاستقلال والمهنية في قطاعات مختلفة من الحكومة العراقية. وإذا كان انتخاب حكومة إصلاحية في الانتخابات المقبلة، من شأنه أن يحدث نوعاً من هذا التغيير، فإنه من المهم أن تكون هناك عملية إصلاح قبلي، أي: قبل بدء العملية الانتخابية، وذلك لكسب ثقة أولية لدى الناخبين، تُشْعِرُهُمْ بأن الانتخابات سوف تعبّر فعلاً، عن رغباتهم واختياراتهم.
وإذا تطرقنا إلى الحديث عن "المفوضية العليا للانتخابات"، فسنكتشف بأنها تعاني إلى حد بعيد من نظام الحصص الذي شكل طريقة عملها منذ إنشائها. فقد سمح هذا النظام للأحزاب السياسية المختلفة باكتساب بعض النفوذ لدى مسؤولي المفوضية، والذين أصبحوا يدعمونهم بطريقة أو بأخرى، لتغيب بذلك استقلالية ونزاهة المفوضية. ولتجاوز هذا الخلل، يتعين على الحكومة أن تضع الجهات القضائية في موقع الإشراف على إعداد وإجراء الانتخابات التشريعية، لكي تمر العملية في جو من الرقابة الحقة.
لقد كان الغرض من الدعوة لتشكيل حكومة ذات ولاية محددة برئاسة العبادي أو غيره إلى جانب التعامل مع المسائل الاقتصادية والأمنية الملحة، هو ضمان سلامة ونزاهة وحرية الانتخابات المقبلة من خلال حزمة من التدابير. ومن الضروري أن يتم تطبيق تلك الإصلاحات في الهيئات الاتحادية الأخرى. فعلى سبيل المثال، يتعين إعادة النظر في "هيئة النزاهة العراقية" - المعنية بمكافحة الفساد- وذلك لضمان استقلالها عن تدخل الأحزاب. وبالمثل، يتوجب إلغاء "هيئة المساءلة والعدالة"، المسؤولة عن اجتثاث الفكر البعثي، أو على الأقل، إصلاحها جذرياً، وذلك باختيار أعضائها ممن يُشهدُ لهم بالمهنية والاستقلالية، لكي تحافظ هذه الهيئة على حيادها، فتكف بذلك عن التدخل في السياسة الحزبية.
وعلى مستوى أوسع، يجب إعادة تقييم قطاعات كاملة من الحكومة العراقية، مثل القضاء، وذلك لضمان الاستقلالية والنزاهة. وإذا ما تحقق ذلك، فإنه يمكن للسلطة القضائية أن تستعيد دورها في توازن السلطات مع الهيئة التشريعية، وأن تباشر عملها الرقابي على العملية الانتخابية.
ولضمان التزام عام من جميع الأطراف باحترام العملية الانتخابية، لابد للحكومة العراقية أن تطلب رعاية دولية، للمساعدة في الإعداد لتلك الانتخابات. كما يتعين على الحكومة أن تعيد للأمم المتحدة دورها الهام، بعدما تم تهميشها في السنوات الأخيرة، وذلك بالعمل على إشراكها في عمليات المراقبة، إذ من شأن ذلك أن يوفر شعوراً متزايداً بشرعية الحكومات في المستقبل.
ومن جهة أخرى يمكن لهذه المشاركة الدولية على مستوى الإعداد والتوجيه والمراقبة، أن تساهم في نقل الخبرات أثناء سيرورة العملية الانتخابية، الشيء الذي سينعكس إيجاباً على الوضع الداخلي، مما سيؤدي إلى إنشاء وترسيخ نظام أكثر عدالة في توزيع المقاعد التشريعية. كما سيشكل فرصة لحركة الإصلاح، للاستفادة من العملية الانتخابية العادلة والشفافة، وكل ذلك سيساهم لا محالة، في بناء عراق حداثي، ينعم بحكومة إصلاحية حقيقية، أساسها الديمقراطية الحقة.
لقد بدأ العمل على المستوى الشعبي لتشكيل ائتلاف سياسي واسع، يضم الأفراد وجماعات المجتمع المدني الذين يعتزمون خوض الانتخابات القادمة، ككتلة موحدة، لمناهضة الفساد ومكافحة الطائفية. وقد بادرت تلك المجموعات بالإعلان عن هذه "المبادرة الوطنية" خلال المؤتمر الأول للإئتلاف الذي عقد في كانون الأول/ ديسمبر 2015، ثم تمت بلورة تلك المبادرة خلال المؤتمر الثاني الذي عقد في أيار الماضي، من خلال تحديد الإطار المبدئي لعملية الإصلاح التي سيقوم بها الائتلاف، إذا ما تم انتخابه.
وتتسم تلك الإصلاحات الواسعة بدرجة كبيرة من الطموح، حيث تدعو المبادرة إلى تفعيل مواد الدستور العراقي التي تم تجاهلها، مثل: إنشاء المجلس الاتحادي، وإبرام تغييرات في نظام المساءلة والعدالة التي تعرضت لاعتداء من قبل الأحزاب السياسية التي كانت تسعى إلى تهميش قوى المعارضة، وهو ما أدى بدوره إلى نمو بيئة خالية من الحقوق السياسية، ساهمت في تغذية الإرهاب. وفي نهاية المطاف، يأمل التحالف أن تقوم الحكومة بالتحول من نظام التمثيل النسبي الحالي إلى نظام القانون الانتخابي المختلط، مثلما هو الحال في ألمانيا، والذي من شأنه أن يسمح بمزيد من التمثيل المباشر لمحافظات العراق الفردية، والحد من قوة الكتل السياسية الكبيرة.
ولا يجب الاكتفاء بالعمل الإعدادي فقط من أجل تشكيل حكومة إصلاح، بل لابد من التواصل المباشر مع الناخبين، بغية إقناعهم بأن انتخابات مجالس المحافظات في 2017 والانتخابات البرلمانية في 2018 ستكون فعلاً، حرة ونزيهة وشفافة. وفي الواقع، فإن استعادة ثقة الناخبين في الانتخابات والمسؤولين المنتخبين، لهو أمر حاسم وضروري لحل الأزمة الحالية في العراق.
وبدون هذه التدابير، ستكون الانتخابات البرلمانية المقبلة مجرد مكافأة للمتطرفين وليس للمعتدلين المحرومين من حقوقهم السياسية. إذ في غياب انتخابات عادلة وحرة ونزيهة، سيمتنع المعتدلون المحبطون عن التصويت، وفي المقابل، فإن مؤيدي الأحزاب المرتبطة بالميليشيات الشيعية الناجحة، سينزلون بثقلهم للمشاركة المكثفة في التصويت. ونتيجة لذلك، يمكن أن ينزلق العراق إلى صراع دموي آخر، شبيه بالوضع في سوريا، وربما يكون عاملاً محفزاً لبروز جيل جديد من المنظمات الإرهابية.
إن المصلحة الوطنية تقتضي اليوم، أن تقوم الأغلبية البرلمانية بدعم تلك المبادرة، لأنها ستساهم بذلك في استعادة مكانة البرلمان كممثل للشعب، بدلاً من الانسياق وراء مصالح الكتل البرلمانية والطوائف، أو الأحزاب السياسية. وحتى لا يُساء فهم هذه الدعوة باعتبارها مبادرة حزبية، يجب على أعضاء تحالف الإصلاح أن يتعهدوا بألا يقدموا أنفسهم كمرشحين لعضوية الحكومة الانتقالية.
إن نجاح عملية الإصلاح في العراق، يعتمد بشكل كبير على وجود بيئة إقليمية داعمة. ويجب إقناع الأطراف الإقليمية أن مصالحها، ستتحقق بشكل أفضل في ظل وجود عراق متعاون وسلمي.
وفى جميع الأحوال، إذا كان الصراع الطائفي يمثل مشكلة إقليمية، فإن وحدة العراق وتماسكه لا علاقة لها بذلك. إذ لا يمكن للعراق أن يبقى مسرحاً، تستخدمه دول الخليج وإيران للتصعيد بينهما، وإنما يتحتم عليه أن يصبح إقليماً محايداً على غرار سلطنة عُمان.
وحالياً، هناك فرصة لتسوية سياسية في العراق، حيث إن التحول في سياسة تركيا تجاه المنطقة سيعزز من إمكانية التحول السياسي في العلاقات بين بلدان المنطقة؛ ومن مصلحة جميع المعتدلين في الدول المجاورة للعراق أن يبحثوا عن حلول مماثلة، قبل أن ينزلق هذا البلد إلى المستنقع نفسه الذي انزلقت إليه سوريا واليمن. وبالإضافة إلى ذلك، فإن نجاح أي حل سياسي في العراق سيفتح الباب لتطبيقه في سوريا واليمن.
وختاماً، يحتاج العراق والمنطقة بأكملها؛ إلى حزمة كبيرة من الإصلاحات الداخلية، وذلك لإعادته إلى سكة الطريق الصحيح، حيث أن هذا البلد لديه مشاكل مميتة تتخطى الحدود. كما ينبغي أيضاً، أن تكون هناك محاولات قوية لإقناع الرأي العام العالمي - خاصة في أوروبا وأمريكا وروسيا - بضرورة دعم الجهود الرامية إلى مكافحة الطائفية في العراق، وفي المنطقة بأكملها. فبدون إجراء تغيير جذري ينأى بالعراق والمنطقة عن الطائفية، ستستمر الحركات المتطرفة، وسيظل الإرهاب والحرب ينخران معاً الجسد العراقي، وستكون لذلك تداعيات على باقي المنطقة. وهذا ليس في صالح المجتمع الدولي بأسره، إذ أن المصلحة العالمية تقتضي أن يسود السلام في المنطقة بصفة عامة، وفي العراق بصفة خاصة. وكما أظهرت السنوات السابقة لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالتخلي عن الخطاب القومي والمذهبي المتطرف، وعن الأيديولوجيات والأحزاب الإسلامية.