- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3819
فهم قرارات "المحكمة الاتحادية العليا" المسيسة في العراق
من خلال قيام "المحكمة الاتحادية العليا" في العراق باتخاذ عدة قرارات بدءً من عزل رئيس "مجلس النواب" وإلى إلغاء نتائج الانتخابات، تجاوزت المحكمة دورها مراراً وتكراراً إلى درجة تستدعي المزيد من الضغوط الدولية.
في 14 تشرين الثاني/نوفمبر، أثارت "المحكمة الاتحادية العليا" في العراق ضجة عندما حكمت في شكوى ضد "رئيس مجلس النواب" محمد الحلبوسي، وقررت في النهاية إنهاء عضويته في المجلس التشريعي. وفي غياب أي آلية استئناف، سيتعين على الحلبوسي التنحي عن منصب "رئيس مجلس النواب" الذي يشغله منذ عام 2018، في تطور سيكون له آثار مضاعفة على انتخابات مجالس المحافظات المقرر إجراؤها في 18 كانون الأول/ديسمبر.
مؤسسة مثيرة للجدل منذ البداية
عندما أنشأ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة "المحكمة الاتحادية العليا" في عام 2003، كان الهدف منها أن تكون بمثابة خط الدفاع الأول عن سيادة القانون في العراق ما بعد صدام. وبعد ذلك بعامين، وعلى وجه التحديد قبل اعتماد الدستور الجديد مباشرةً، تم إقرار قانون "المحكمة الاتحادية العليا" ("القانون رقم 30")، الذي يمنح هذه "المحكمة" صلاحيات واسعة النطاق لتحديد دستورية القوانين التشريعية والتنظيمية، والتحكيم في المنازعات بين بغداد والمحافظات، والمصادقة على نتائج انتخابات "مجلس النواب"، وممارسة الولاية القضائية الحصرية على الملاحقات القضائية ضد السلطات الحكومية العليا. كما مُنحت المحكمة عدة ضمانات لاستقلالها (كسلطة قضائية)، بما في ذلك على المستويين الإداري والمالي.
ولطالما كانت شرعية "المحكمة الاتحادية العليا" مثيرة للجدل، حتى أن دستوريتها تبقى موضع نقاشات قانونية مستمرة. وأمرت "المادة 92" من دستور عام 2005 "مجلس النواب" بإقرار قانون يحدد وضع المحكمة، إلا أن ذلك لم يحدث قط. ونتيجة لذلك، لا تزال "المحكمة الاتحادية العليا" تعمل بموجب "القانون رقم 30" لعام 2005.
وتعرضت المحكمة أيضاً لانتقادات منتظمة باعتبارها رمزاً للطائفية. ويعود ذلك جزئياً إلى أن "مجلس النواب" والجهات الفاعلة الأخرى قد حوّلوا عملية تعيين القضاة إلى معركة محتدمة لتحقيق التوازن الطائفي، ولكن أيضاً لأن "المحكمة الاتحادية العليا" تدخّلت بشكل حاسم في العملية السياسية، خاصة خلال حالة الجمود التي غالباً ما تظهر أثناء تشكيل الحكومة بعد الانتخابات والمساومات الطائفية.
وأبرز مثال على ذلك هو سماح المحكمة بإعادة تعيين نوري المالكي رئيساً للوزراء في عام 2010 على الرغم من فوز حزب إياد علاوي بأغلبية الأصوات في المنافسة البرلمانية في ذلك العام. وفي تفسير للدستور مثير للجدل للغاية، قرر القضاة أن الحزب الفائز في الانتخابات الوطنية لا يتمتع بالحق الحصري في تشكيل الحكومة المقبلة - وبدلاً من ذلك، يمكن منح هذه السلطة لائتلاف من الأحزاب، حتى لو ظهر الإئتلاف موضع البحث بعد الانتخابات. ويعتقد العديد من المراقبين أنه تم التأثير على هذا القرار من قبل الأحزاب الشيعية التي عارضت علاوي بسبب خروجه عن صفوفها وقيادته ائتلاف علماني.
"المحكمة الاتحادية العليا" بقيادة فائق زيدان
أصبحت "المحكمة الاتحادية العليا" أكثر إثارة للجدل في السنوات الأخيرة تحت قيادة القاضي فائق زيدان. ففي عام 2017، أصبح رئيساً لـ "مجلس القضاء الأعلى"، وهو الهيئة التي تشرف على معظم السلطة القضائية وتمنحه نفوذاً معيناً على "المحكمة الاتحادية العليا" المستقلة نظرياً. وبلغ نفوذه آفاقاً جديدة في عام 2021، عندما أُرغم منافسه الوحيد المتبقي في المناصب القضائية العليا وهو رئيس "المحكمة الاتحادية العليا" مدحت المحمود، على التقاعد قسراً بموجب تعديل على "القانون رقم 30" الذي فرض حداً جديداً لسن قضاة "المحكمة الاتحادية العليا". وبينما كان زيدان متحالفاً على ما يبدو مع المعسكر الموالي لإيران في البلاد، أثار محمود غضب هذه الفصائل من خلال إظهار تفضيله للتيار الشيعي المنافس برئاسة مقتدى الصدر. ويجدر بالذكر أن التعديل نفسه الذي أدى إلى تهميش محمود، أرسى أيضاً مبدأ التوازن الطائفي في تشكيل "المحكمة الاتحادية العليا"، مما أدى إلى زيادة عدد القضاة الشيعة من المحافظات الجنوبية.
واستغل زيدان لاحقاً سلطته الجديدة لتنفيذ تغييرات قضائية رئيسية وتسهيل القوانين التي من شأنها تعزيز سلطته ونفوذه. على سبيل المثال، أنشأ "مجلس القضاء الأعلى" لجنة لـ "إدارة المهن" وتم منحها صلاحيات واسعة لترقية وتمديد ولاية ونقل وإحالة القضاة والمدّعين العامين إلى التقاعد، مما أعطى زيدان بشكل أساسي صلاحية تعيين وإقالة جميع قضاة البلاد. كما استخدم نفوذه للتأثير على عملية اختيار أعضاء "المحكمة الاتحادية العليا"، بما في ذلك تعيين رئيس "المحكمة الاتحادية العليا" الجديد جاسم محمد عبود، الذي يشتهر بولائه لزيدان.
مِن ترجيح كفة الانتخابات إلى النشاط القضائي غير المقيد
عندما دعا العراق إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في عام 2021 بعد أشهر من الاحتجاجات العامة، تضمنت استعدادات الحكومة لهذا التصويت إصلاح "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات". وسرعان ما استغل زيدان هذه العملية وحرص على أن يتكون مجلس "المفوضية" من قضاة لكي يتمكن هو ودائرته من التأثير على القرارات المهمة السابقة للانتخابات.
وفي الأسابيع التي تلت التصويت في تشرين الأول/أكتوبر، وجّه زيدان "المحكمة الاتحادية العليا" بأساليب دعمت الكتلة الموالية لإيران. وفي البداية، بدا أن المحكمة اتخذت موقفاً متوازناً من خلال إقرار النصر الانتخابي الذي حققته الكتلة الصدرية ووضع حد لمزاعم الاحتيال من قبل الجماعات الشيعية المتنافسة. ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى أصدرت "المحكمة الاتحادية العليا" سلسلة من القرارات لصالح "الإطار التنسيقي"، وهو الكتلة الشيعية الموالية لإيران والمعارضة للصدر.
ولعل القرار الأكثر أهمية يتعلق باختيار "مجلس النواب" لرئيس جديد، وهو الخطوة الأولى في عملية تشكيل الحكومة. بعبارات بسيطة، أخذت المحكمة شرطاً قائماً منذ فترة طويلة بالحصول على أغلبية الثلثين من الأصوات، ثم حرّفته إلى شرط نصاب الثلثين. ووفقاً لهذا التفسير غير المسبوق، يجب أن يكون ثلثا المشرعين على الأقل حاضرين للتصديق على التصويت لمنصب الرئيس، وهذا القرار مكّن الكتلة الموالية لإيران من العمل كأقلية معرقِلة من خلال مقاطعة جلسات "مجلس النواب" ذات الصلة ببساطة. وهذا بدوره مهد الطريق لاستقالة فصيل الصدر ووصول "الإطار التنسيقي" إلى السلطة.
كما أصدرت "المحكمة الاتحادية العليا" أحكاماً أدت إلى معاقبة المعارضين السياسيين للمعسكر الموالي لإيران. ففي شباط/فبراير 2022، أعلنت المحكمة أن قانون الموارد الطبيعية الذي أصدرته" حكومة إقليم كردستان" عام 2007 غير دستوري، مما أدى فعلياً إلى تفكيك الإطار الذي تم تصميمه للتعويض عن غياب القانون الاتحادي للمواد الهيدروكربونية وتمكين "حكومة إقليم كردستان" من المضي قدماً في مبيعات النفط. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك جدال في نقاط الضعف القائمة في إطار عام 2007، إلا أن حكم "المحكمة الاتحادية العليا" كان له دافع سياسي واضح أيضاً وهو: الضغط على "الحزب الديمقراطي الكردستاني" لحمله على التخلي عن معسكر الصدر، وبالتالي منعه من تشكيل حكومة كانت ستستبعد الفصائل الموالية لإيران. واستمر هذا التدخل العقابي لفترة طويلة بعد أن حقق "الإطار التنسيقي" هدفه وشكل الحكومة. وفي كانون الثاني/يناير 2023، قضت "المحكمة الاتحادية العليا" بعدم دستورية التحويلات من الموازنة الاتحادية إلى "حكومة إقليم كردستان"، وفي أيار/مايو، نقضت محاولة تمديد ولاية مجلس نواب "حكومة إقليم كردستان".
كما أدت قضايا مسيّسة أخرى إلى صدور أحكام مثيرة للجدل (ومؤيدة لإيران على وجه الخصوص). ففي 4 أيلول/سبتمبر، ألغت "المحكمة الاتحادية العليا" قانون التصديق على الاتفاقية العراقية الكويتية لعام 2012 لتنظيم الملاحة البحرية في ممر "خور عبد الله" المائي. وقد رفع القضية نائب من "كتلة حقوق"، وهي جهاز سياسي تابع لميليشيا "كتائب حزب الله" المدعومة من إيران والمصنفة على قائمة الإرهاب الأمريكية. وإلى جانب العداء العام للمعسكر الموالي لإيران تجاه دول الخليج التي تحكمها الدول العربية السنية، ربما تكون القضية ناجمة عن التوترات الأخيرة بين طهران والكويت والمملكة العربية السعودية بشأن استغلال "حقل الدرة" للغاز الطبيعي. وعلى أي حال، هدّد الحكم بتعطيل العلاقات الدبلوماسية بين بغداد والكويت بشدة، مما دفع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى التدخل. وفي النهاية، أشار زيدان إلى إمكانية التراجع عن القرار.
وواصل الحكم الصادر ضد الحلبوسي في 14 تشرين الثاني/نوفمبر الاتجاه الذي اتخذته إجراءات "المحكمة الاتحادية العليا" المسيسة إلى حد كبير. وعلى مر السنين، تمكن من أن يصبح الزعيم السياسي السنّي العراقي بلا منازع ويحتفظ بدوره القيادي في "مجلس النواب" على الرغم من التغييرات العديدة في الحكومة والمحاولات المتكررة للإطاحة به. وفي النهاية، نحّته محكمة عليا نشطة - وعلى وجه التحديد، بعد أن اشتكى عليه أحد أعضاء تحالفه السياسي، "تقدم"، لدى المحكمة بتهمة تزوير كتاب استقالة لصالح المدعي.
التداعيات
على الرغم من الحالات المتعددة التي أصدر فيها القضاء تحت رئاسة فائق زيدان أحكاماً صبت في مصلحة طهران ووكلائها، فإن التحديد الدقيق لنطاق النفوذ الإيراني على "المحكمة العليا" ليس بهذه البساطة. وحتى أحكام "المحكمة الاتحادية العليا" التي تتماشى مع مصالح طهران غالباً ما تكشف عن نزعة نحو الأيديولوجية القومية العراقية - وخاصة أهداف إعادة مركزية السلطة في بغداد على حساب الحكم الذاتي الكردي وإصلاح الدستور لكسر الحلقة المزمنة من الأزمات وعدم الاستقرار بعد الانتخابات في البلاد. وقد عبّر زيدان بنفسه عن هذه الأفكار في مقال نشره في شباط/فبراير 2022 على موقع "مجلس القضاء الأعلى".
وفي سعيه لتحقيق التفوق القضائي، غالباً ما أظهر زيدان صبراً استراتيجياً من خلال التلاعب بالقواعد بدلاً من تجاهلها تماماً. وبالتالي، لا ينبغي الخلط بين نظامه القضائي الذي يطرح إشكاليات كبرى والميليشيات المدعومة من إيران في البلاد. فخلافاً لهذه الأخيرة، تظل مؤسسته شريكاً محتملاً للمجتمع الدولي. على سبيل المثال، كان التعاون مع القضاء العراقي مثمراً في القضايا المتعلقة بتنظيم "الدولة الإسلامية"، حيث نشر زيدان تحليلاً قانونياً في وقت سابق من هذا العام من شأنه أن يسهل التوثيق المدني للأطفال المولودين في ظل ما يسمى بـ "خلافة" التنظيم الجهادي.
وفي الوقت نفسه، سيكون من الحكمة أن يواصل الشركاء الذين يريدون تخفيف قبضة إيران على العراق الضغط والمراقبة الوثيقة على القضايا السياسية التي تجاوزت المحكمة حدودها فيها، أي الانتخابات وعمليات تشكيل الحكومة، والنزاعات المختلفة بين بغداد وأربيل، والتزامات العراق الدولية، التي تشمل الاتفاقيات مع دول الخليج. وستتطلب مواجهة النفوذ الإيراني داخل السلطة القضائية بذاتها أن يلعب الغرب لعبة طويلة الأمد، وجزئياً من خلال تطوير التعاون الأكاديمي وتدريب الجيل القادم من القضاة. ومن شأن هذه المقاربة أن تتماشى مع تطلع زيدان إلى الاعتراف الدولي، كما يتضح من رحلاته إلى لندن وباريس وطلبه الأخير لزيارة الولايات المتحدة.
سيلين أويسال هي زميلة زائرة في معهد واشنطن، ودبلوماسية في الإقامة من قبل "الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية".