- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
حدود الاتحاد الأوروبي تبدأ من الطريق "إم 4" في سوريا
نتيجة التجنيد الإجباري والتدهور الاقتصادي وتراجع الفرص، يعبر السوريين الطريق السريع "إم 4” في شمال سوريا بشكل متزايد خلال رحلتهم إلى أوروبا.
يصل أسبوعيًا آلاف السوريين، لا سيما من فئة الشباب، من مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد") والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام إلى منطقة رأس العين في شمال شرق سوريا، ويتوجه معظمهم إلى أوروبا، وتحديدًا إلى ألمانيا وهولندا. تبدأ مسيرتهم بعبور الطريق "إم 4" الذي يفصل بين المنطقة الخاضعة لقوات "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة في الجنوب والمنطقة التي يسيطر عليها الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في الشمال، وتنتشر على طوله القواعد الروسية أيضًا.
في خريف العام الفائت، لفت الكثير من الأكراد الذين تواصلت معهم في شمال شرق سوريا إلى أن عددًا كبيرًا من أصدقائهم ومعارفهم فقدوا الأمل وعزموا على الرحيل، ومن بينهم فاطمة من منطقة عامودا الواقعة على الحدود مع تركيا التي قالت لي في تشرين الثاني/نوفمبر، "وصل ابن نسيبي (16 عامًا) إلى ألمانيا يوم أمس. لقد ذهب أولًا إلى رأس العين (بلدة حدودية في منطقة خاضعة للجيش الوطني السوري)، ثم توجه إلى تركيا وبلغاريا ومن بعدها إلى رومانيا ليحط رحاله في ألمانيا". وذكرت أيضًا أن ابنة نسيب آخر تبلغ من العمر 14 سنة وصلت إلى ألمانيا قبل أسبوعين. وخلاصة القول، غادر عشرة من أقاربها خلال الأسبوعين الفائتين بينما وصل أقارب آخرون إلى بلغاريا. وأضافت: "يقوم الناس بإرسال أولادهم. إذا استمرت الحال في سوريا على هذا المنوال، ستقع كارثة. تخضع منطقتنا (شمال شرق سوريا) لحصار اقتصادي، فكل شيء أصبح باهظ الثمن، واليوم وصل سعر الدولار إلى 5,550 ليرة سورية".
وعلى حدّ تقديرها، بلغ عدد الذين غادروا عامودا في الآونة الأخيرة 200 شخص، وقالت، "يصل أولئك الذين يغادرون من عامودا والقامشلي ومناطق أخرى في شمال شرق سوريا إلى رأس العين عبر مهربين على صلة بمهربين آخرين في رأس العين. فيدفعون لهم المال ليسمحوا لهم بالدخول ثم يهرّبونهم إلى تركيا. تعمل جميع الجماعات المسلحة... على إدخال الناس إلى تركيا".
وصلتُ في شباط/فبراير الفائت إلى مقربة من طريق "إم 4" حيث يتحدث المسؤولون في منطقة رأس العين عن تدفق مستمر للأشخاص الآملين في الوصول إلى أوروبا في نهاية المطاف. وفي هذا الإطار، قال لي نائب رئيس شرطة رأس العين: "أوقفنا سبعين شخصًا ليلة أمس، وهذا العدد يتغير. نوقفهم ونحقق معهم للتأكد من أنهم لا ينوون شرًا [أو يعملون لصالح] داعش أو حزب العمال الكردستاني".
وهناك حصلنا أنا وعدد من الصحافيين المحليين على إذن من شرطة المنطقة لإجراء مقابلات مع عدد من الوافدين الجدد إلى رأس العين، الذين يأتي الكثير منهم من منطقة دير الزور الشرقية، من ضمنهم أكثر من 60 شخصًا تحدثت إليهم. تختلف الدوافع إلا أن الكثيرين من الشباب والقاصرين أفادوا أنهم هاربون من التجنيد الإجباري قبل أي شيء آخر. وتجدر الإشارة إلى أن "الإدارة الذاتية" سنّت في البداية قانون التجنيد الإجباري في العام 2014 عندما كانت المعركة بين "قسد" و"داعش" في ذروتها، ويُلزم حاليًا الشباب بين 18 و30 سنة بالخدمة لمدة عام أو الالتحاق في وحدات الدفاع عن النفس، وبعضهم كان قد شارك في القتال. ولكن مع استمرار الجهود الرامية إلى التجنيد الإجباري، أعرب المقيمون العرب والأكراد في منطقة "الإدارة الذاتية" تحديدًا عن شعورهم بأن هذه الجهود تستهدفهم.
وكان هناك امرأة عربية في العشرينات من العمر وصلت قبل يوم وحدها مع طفلين صغيرين من مدينة الحسكة. وتحدثت عن سبب مغادرتها قائلةً: "يفرضون التجنيد الإجباري، هذا هو السبب الأول، التجنيد الإجباري للفتيات... لا يمكن أن نبقى محبوسين في منازلنا بين أربعة جدران خوفًا من التجنيد الإجباري. نريد أن نعيش". كما أجرينا مقابلات مع تسعة شبان وصلوا حديثًا؛ يأتي خمسة منهم من (شرق) دير الزور، واثنان من الرقة، وواحد من الحسكة وواحد من ريف دمشق، من ضمنهم خمسة قاصرين تترواح أعمارهم بين 14 و16 سنة، بينما تتراوح أعمار الأربعة الآخرين بين 18 و23 سنة. وبعد أن دفع هؤلاء 100 إلى 200 دولار للوصول إلى رأس العين، لم يتبق لديهم المال لمواصلة مسيرتهم إلى تركيا أو أوروبا.
ولكن الوضع يختلف في مبروكة، وهي قرية صغيرة تقع في غرب رأس العين على بعد حوالي 13 كيلومترًا من الطريق "إم 4". فقد سمعنا أن الوافدين إلى مبروكة يزدادون عددًا، وفي هذا الإطار، أخبرنا شاب كردي من بلدة عامودا في الحسكة التقينا به في قرية مبروكة وهي أيضًا إحدى قرى محافظة الحسكة، ولكنها خاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري، بأن "حملة التجنيد الإجباري اشتدت منذ بداية العام". وفي ذلك المساء، قام صاحب المنزل بدعوة بعض الممثلين المحليين إلى تناول عشاء منسف معنا. وفي منتصف الليل بعد العشاء، اهتزت الأرض وهرعنا جميعنا إلى الخارج، لنعيش تجربتنا مع الزلزال المدمر.
وبعد ساعات قليلة في صباح ذلك اليوم، قابلنا محمد العبد، رئيس الشرطة المدنية في بلدة مبروكة. وصلنا إلى ميدان مكتب الشرطة لنرى حوالي مئة شخص يقفون هناك بعد أن تركوا المبنى خشيةً من الزلزال، مع العلم أنهم يُحتجزون في الداخل عادة. وبحسب ما أفاد به سكان المنطقة، تم خلال الليل إطلاق سراح أشخاص، من بينهم فتاة كردية تبلغ من العمر 12 سنة. وأشار العبد إلى أن المجلس المحلي يفرض عليهم رسمًا بقيمة 300 ليرة تركية لردع المحاولات الجديدة، إلا أن "الجوع الشديد" يدفعهم إلى ذلك. كما ذكر أن "معظمهم يقولون إنهم يريدون الذهاب إلى هولندا أو ألمانيا أو النمسا، هذه البلدان الثلاثة. لقد أوقفنا ألف شخص في يوم واحد، وأحيانًا يصل هذا العدد إلى ألفين، وينخفض في أيام أخرى، إنه يتغير... يشكون من التجنيد الإجباري المفروض في مناطق "قسد" (والنظام). (ويغادرون أيضًا لأنهم) يفتقرون إلى الغذاء أو الماء أو الكهرباء".
بعد بعض الإصرار والمفاوضات من جانبنا، سُمح لنا بالتحدث مع عدد من الأشخاص بالخارج، ولكن ليس أمام الكاميرا. فقابلنا أولًا ثلاث شابات من دير الزور، اثنتان منهن ترتديان النقاب، أفدن بأنهن غادرن دير الزور "خوفًا من عمليات الاختطاف في المقام الأول، وثانيًا، هربًا من التجنيد الإجباري في صفوف "قوات سوريا الديمقراطية" الذي تفرضه العصابات المسلحة". كما ذكرن أن وصولهن استغرق 15 يومًا ومبلغ 1500 دولار، وأضفن أن "الطريق لم تكن سهلة فهي مليئة بالتلال. لقد جئنا عبر تل تمر". وعندما سئلن عما إذا كن يردن المواصلة نحو أوروبا، أجبن: "نعم، نريد المواصلة". هن يأملن في الوصول إلى هولندا ويتوقعن أن تدفع كل منهن مبلغ 9 آلاف دولار مقابل ذلك.
كما قال رجل يبلغ من العمر 20 عامًا من قبيلة البقارة من قرية الحصان في دير الزور إن الطريق عبر تل تمر استغرق خمسة عشر يومًا، وسبق أن دفع مبلغ ألفي دولار ويتوقع أن يدفع ما مجموعه 9 آلاف دولار للوصول إلى ألمانيا. وعندما سئل عن سبب رحيله، أجاب: "لأرتاح من الشعور بالخوف من التجنيد الإجباري ولإيجاد عمل وإحضار عائلتي". وهو قد جاء برفقة شاب آخر من البلدة عينها وللأسباب عينها، "تتوفر فرص عمل هناك".
واصلنا استجواب الشبان الآخرين في مبروكة في ميدان الشرطة المدنية. تقوم الشرطة بالتحقيق معهم وتوثيق أقوالهم، بينما يفرض المجلس المحلي عليهم رسمًا بقيمة 300 ليرة تركية لدخولهم المنطقة. ويقول حسين الرعاد، عضو المجلس المحلي في رأس العين: "رفعنا قيمة الرسم من 200 إلى 300 لردع الناس عن الذهاب إلى تركيا وأوروبا". إلا أن جهودهم لم تنجح على ما يبدو.
تتشابه قصص الشبان هنا، إذ يهرب الكثيرون منهم من مناطق "قوات سوريا الديمقراطية"، ويشكلون الغالبية، ومن مناطق النظام خوفًا من التجنيد الإجباري أو غيره من الأنشطة الإجرامية وغياب فرص العمل والافتقار إلى الخدمات مثل المياه والكهرباء... ومن ناحية أخرى، يختلف المبلغ الذي يتقاضاه المهربون. فقد أخبرنا عدد من الرجال أيضًا أنهم دفعوا مقابل جزء من الرحلة، مبلغ 4 آلاف دولار مثلًا، على أن يدفعوا ما تبقى بمجرد وصولهم إلى ألمانيا أو هولندا. هم يتدينون للوصول إلى أوروبا.
أخبرنا رجل كردي (38 عامًا) أنه غادر بلدته عامودا (محافظة الحسكة) بسبب المناهج الدراسية في المدارس، حيث يقوم "حزب الاتحاد الديمقراطي" بتدريس منهج يتوافق مع أيديولوجية عبد الله أوجلان التي يرفضها هو وكثيرون من الأكراد في الحسكة، ويقول: "لدي طفلان، (غادرت) من أجلهما". وهو يأمل في الوصول إلى ألمانيا أو لوكسمبورغ ويتوقع دفع مبلغ 16 ألف دولار. "لقد دفعت جزءًا منه وعندما أصل، ستدفع شقيقاتي (في ألمانيا) المبلغ المتبقي".
والتقينا رجلاً كرديًا آخر (47 عامًا) وابنه البالغ من العمر 15 عامًا من مدينة الحسكة. “أنتمي لقبيلة بارزان ولا أتفق مع مشروع "حزب الاتحاد الديمقراطي" للمنطقة وأخشى أن يأخذوا أطفالي للتجنيد العسكري. يرافقني ابني، ولكن لدي ابن آخر (16 عامًا) وابنتان (19 و20 عامًا) في المنزل مع زوجتي في مدينة الحسكة. يبقون في المنزل خوفًا من التعرض للاختطاف، لأن مركز حركة الشبيبة الثورية، "جوانن شورشكر"، يقع على مسافة 500 متر فقط من منزلنا. وتضم هذه الحركة شبانًا ينتمون إلى أدنى طبقات المجتمع يقومون بخطف القاصرين وحرق مكاتب المعارضين (المجلس الوطني الكردي)، وما إلى ذلك. وهم تابعون لحزب الاتحاد الديمقراطي". وعند سؤاله عن عدد أفراد الحركة في مدينة الحسكة أجاب، "حوالي 1500 فرد في المدينة كلها". وأخبرنا معظم الناس أن جزءًا من الطريق من مدينة عامودا والحسكة يُسلك سيرًا على الأقدام، وجزءًا آخر بالسيارات أو الدراجات النارية ويستغرق من ثلاثة إلى أربعة أيام.
كما قابلنا شابًا كرديًا آخر (29) من عامودا يعمل كمصفف شعر، فقال لنا: "لم يمض وقت طويل منذ أن أوقفوا الكثيرين لإلحاقهم قسرًا بالتجنيد الإجباري. يختبئ الناس في منازلهم خوفًا من التجنيد الإجباري. لا يتوفر تعليم أو إمكانية للدراسة". وعند سؤاله عن إمكانية دفع رشوة لإعفائه من التجنيد الإجباري أجاب، "لا، هذا غير ممكن. لقد بعت آلة الحصاد للذهاب إلى أوروبا، إلى ألمانيا، شقيقي هناك". وأضاف في إجابة على سؤال عن عدد الأشخاص الذين يغادرون عامودا، قائلًا "لقد غادر نصف أصدقائي، كل شهر يغادر حوالي 50 شخصًا".
ورأينا أيضًا عائلة قادمة من دمشق يغطي طفلهم قدميه بالبلاستيك بعد أن فقد حذاءه على طول الطريق. لقد دفعت الظروف المعيشية الصعبة جدًا في دمشق الزوجين إلى اتخاذ قرار الهرب عبر دير الزور إلى مبروكة ومن ثم إلى تركيا وأوروبا.
وفي الوقت عينه في بلدي هولندا، ووفق ما عبّر عنه خبير الهجرة الهولندي ليو لوكاسين عبر تغريدته في أيلول/سبتمبر، "تعود زيادة عدد طلبات اللجوء في الأشهر الثلاثة الفائتة بشكل رئيسي إلى السوريين". لقد أدى قانون اللجوء الجديد إلى حدوث أزمة في أكبر حزب سياسي، حزب "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية الليبرالي" (Liberal VVD)، ما اضطر رئيس الوزراء مارك روته للعودة من قمة المناخ في شرم الشيخ في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت. ولكن إلى أن تتم معالجة الظروف الدافعة إلى الهرب، سيستمر اللاجئون في طلب اللجوء في أوروبا. وفي حين أن الولايات المتحدة تخصص الأموال لقوات "قسد"، فإن سياسات التجنيد في المنطقة، بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الحرجة والقيود الأمريكية على التمويل لرأس العين وتل أبيض، تساعد في تعزيز أنماط الهجرة هذه. ولذلك، إلى حين معالجة هذه الديناميكيات، من المرجح أن يستمر تدفق المهاجرين السوريين عبر الطريق السريع "إم 4" إلى أوروبا.