- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل بوسع أنطونيو غوتيريس أن «ينقذ العالم»؟
غير أن الأهم هو أنه على غوتيريس أن ينجز مهمة الأمم المتحدة، ليس كحكومة عالمية، بل كمؤسسة مولجة بالوصاية على تجسيد على القيم العالمية
هو طبعاً تساؤل يحاكي الخيال، وقد جهد أنطونيو غوتيريس، الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، أن يبدده من خلال التنبيه إلى أنه لا يمكن توقع المعجزات. إذ أن الأمم المتحدة كمنظومة جامعة للمؤسسات الدولية ليست لديها القوة التنفيذية التي من شأنها أن تتيح لأمينها العام القدرة على رسم السياسات المختلفة وتطبيقها. ولا هي أنشئت لترتقي إلى هذا الدور، على الرغم من الانطباع الشائع في مختلف الأصقاع أنها بمثابة حكومة عالمية وأن الجمعية العمومية هي مجلسها التشريعي. ومع هذا الخطأ في التصوّر، تكثر خيبات الأمل. فصرخات الاستغاثة التي أطلقها أهالي حلب مثلاً، فيما آلة النظام القاتلة تفتك بهم بدعم جوي روسي وبري من إيران وأدواتها. مطالبةً «الأمم المتحدة» التدخل، تبقى حكماً دون استجابة. ذلك أن الواقع الفعلي يقصر دور الأمم المتحدة وحسب على إدارة التوافق العالمي حين يحضر، وعلى تلطيف مساوئ غيابه حين يغيب. ورغم ذلك فإن الأمم المتحدة ليست مجرد «نادٍ» كما يتفقّه البعض، ولكنها المنبر الأول لإشهار القيم العالمية وطرح الانشغالات الدولية. وهنا، في هذا الدور، يمكن لأنطونيو غوتيريس أن يبرز، وصولاً إلى «إنقاذ العالم»، وإن على قدر من المجاز في الزعم.
فالحروب والأزمات المستعرة في منطقة الشرق الأوسط قد كشفت أن الاطمئنان الذي ابتدأ مع انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، والذي وصل إلى حد إعلان «نهاية التاريخ»، انطلاقاً من افتراض الانتصار النهائي لقيم الحرية والإنصاف والتنوير في المعترك الفكري، هو اطمئنان سابق لأوانه بل مفرط بالتفاؤل في قراءته للتطورات المتتابعة. فبعد فترة وجيزة من الغبطة، تصدع التواؤم العالمي وتلاشت الثقة بالقيم المشتركة، بل يبدو وكأن التوافق على المبادئ الثابتة لم يعد متحققاً، ولا سيما مفهوم الإنصاف والعدالة وحتى قيمة الحياة الإنسانية. ومع تراجع هذا التوافق، تغلب الانطوائية، والتي تجسدها الطروحات الفئوية بنبرة قومية أو وطنية أو دينية، على الثقافة والمجتمع والسياسة.
وينكشف هذا التباعد في أكثر من موقع. وهو لا يقتصر على الممارسات الشاذة والمقيتة لتنظيم «الدولة الإسلامية» وما شابهه من التشكيلات، ولا العجز الطارئ في المؤسسات الدينية الإسلامية على تأصيل النقض لهذا السلوك، ولا في الارتباك والخوف والتردد في المجتمعات المسلمة لإدانته. بل يظهر جلياً كذلك حين يبدي الرئيس باراك أوباما صادقاً أسفه وألمه وفرط حزنه على الضحايا الغربيين غير المتعمدين لضربات الطائرات دون الطيار التابعة لقواته في اليمن، فيما يغيب عن خطابه ووعيه بل عن إحصائيات أجهزته مصاب الضحايا العرضيين الكثر من أهل البلاد. ويتبدى في السخط والإدانة إزاء مصير اليزيديين، وما تعرضوا له من قتل واغتصاب وتشريد، وفي المواقف المشرّفة للتنبيه إلى نكبتهم، فيما كارثة الروهينغا في ميانمار، إذ تحاكي نوعاً وكمّاً ما عاناه اليزيديون، وتتواصل في بلاد ترأسها سيدة حائزة على جائزة نوبل للسلام، تبقى مطموسة. ويظهر كذلك في مواقف مجلس الأمن الدولي، إذ يدين بقرار تاريخي إسرائيل لتجاوزات مادية في الضفة الغربية، فيما هو صامت عن مجازر بحق الإنسانية تشارك بها روسيا في سوريا. فلا حاجة إلى الإحصائيات العلمية لتبين أن الثقة بالنظام العالمي تتردى، وأن القناعة المرّة المتصاعدة هي أن القوة الباطشة هي ما يحكم التاريخ. وغيما ڤلاديمير پوتين، والذي تسلّق على الانتقال المأزوم لروسيا من النظام الشيوعي ليعيد تشكيل سلطوية فظّة، كان بالأمس محاصراً ومنبوذاً، إذ هو اليوم نموذج للقائد القوي وقدوة للعديد من الطامحين، حتى في واشنطن نفسها.
وانتخاب دوتالد ترامپ للرئاسة ليس سبباً لهذه التحولات الدولية بل عارضاً من عوارضها. فترامپ انعزالي فئوي في خطابه، مشكك وتهكمي في مقاربته للتواصل الدولي إلا من منطق التعامل المصلحي. وليس في كلامه المتناثر أو تغريداته المقتضبة ما يشير إلى أي اكتراث لحقوق الإنسان أو القيم العالمية. غير أن ترامپ في واقع الحال هو نموذج متكرر للقائد بل للمواطن في مختلف أرجاء العالم في القرن الواحد والعشرين، كرد فعل على العمولة التي أودت بالعديدين إلى التهميش.
فأنطونيو غوتيريس يتولى منصبه الجديد في عالم تراجعت فيه الثقة إزاء الأمم المتحدة وما تجسده من قيم عالمية. غير أن سجله الشخصي وهويته العقائدية من شأنهما إنقاذ مهمته من الفشل. فسلفه كان رجل إدارة بامتياز، أدّى واجبه بتفانٍ ودقة. أما ما يضيفه غرتيريس، فهو إقدامية شذّبتها خلفيته الاشتراكية والكاثوليكية، وطوّرتها تجربته الطويلة مع المهاجرين واللاجئين. ومهته تتضمن إصلاح مؤسسة مترهلة تعاني من مسائل متشابكة باعتبارات اقتصادية وسياسية وشخصية. وقدرته على الإنجاز موضوع اختبار في المرحلة المقبلة. غير أن الأهم هو أنه على غوتيريس أن ينجز مهمة الأمم المتحدة، ليس كحكومة عالمية، بل كمؤسسة مولجة بالوصاية على تجسيد على القيم العالمية. ومؤهلاته في هذا الصدد مشهودة.
فمع غوتيريس، كما مع البابا فرنسيس، والذي يشدد على قيمة التراحم الإنساني كأساس أخلاقي وروحي، يتحقق للأوساط المجتهدة بالتصدي لتجاوزات الانطوائيات الذاتية بمختلف أشكالها، حليفين طبيعيين ومبدئيين. وكلاهما يأتي من الغرب. فهذه المواجهة العالمية تستفيد طبعاً من أن تبرز أصوات قوية من خارج الغرب. وبشكل خاص، من فائق الأهمية أن يبرز في العالمين العربي والإسلامي من يؤكد جهاراً على أصالة الحقوق والقيم في انطباقها على الجميع، مسلمين ومسيحيين ويهود وملحدين وغيرهم، سنة وشيعة، سلفيين وصوفيين، رجال ونساء، عرب وإسرائيليين وغيرهم، دون اعتبار للتوجهات الجنسية، وللطبقات الاجتماعية، ولأماكن السكن.
وقد يكون هذا هو الشرط اللازم ليتمكن فوتيريس من إنقاذ العالم.