- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل فشلت السودان في سعيها إلى تحقيق الديمقراطية؟
تفاقم النزاع الحالي في السودان لأن العملية الديمقراطية المحدودة التي برزت بعد سقوط عمر البشير لم تشمل مجموعة متنوعة من الأصوات المدنية السودانية.
قبل عامين من استقلال السودان في عام 1956 عن الحكم الإنكليزي-المصري، أُجريت انتخابات لتشكيل حكومة مؤقتة مهدت الطريق أمام دولة مستقلة كاملة الأركان. فأتت نتائج الانتخابات العامة بهذه الحكومة الانتقالية التي استمرت بالحكم كحكومة منتخبة شرعيًا حتى بعد تحقيق الاستقلال.
ورغم صعود الجنرال إبراهيم عبود للسلطة نتيجة انقلاب عسكري بعد بضع سنوات فقط في عام 1958، وبدأ معه أول حكم عسكري في السودان المستقل، إلا أن الشعب أطاح في نهاية المطاف بهذا النظام في عام 1964، وأعاد الانتخابات العامة ومعها الديمقراطية الفعلية. وعلى الرغم من أن الانقلاب العسكري اللاحق بقيادة الجنرال جعفر النميري، الذي حكم على مدى ستة عشر عامًا، من سنة 1969 إلى سنة 1985، أعاد البلاد إلى الوراء، نجح الشعب السوداني مرة أخرى في إحداث التغيير من خلال الانتفاضة العامة. وفي غضون اثني عشر شهرًا من نهاية نظام النميري، نُظمت انتخابات ديمقراطية غير متنازع عليها في السودان أفضت إلى انتخاب الصادق المهدي رئيسًا للوزراء.
إن القاسم المشترك بين هذه الاحقاب من تاريخ السودان هو أن الشعب السوداني استطاع أن ينتقل بشكل ناجح وسلمي من الدكتاتورية إلى الحكم المدني من خلال آلية الانتخابات الديمقراطية ومن دون تدخل القوى الإقليمية أو الدولية. ويُعد هذا النجاح المتكرر دليلًا على رغبة الشعب السوداني الشديدة في إرساء الديمقراطية وقدرته على القيام بذلك. كما أنه يتعارض مع أي سرديات تشير إلى فشل الديمقراطية في سياق الصراع الحالي بين "القوات المسلحة السودانية" بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو.
عند التمعّن في الأزمة الداخلية في السودان، التي أدت إلى نزوح الملايين وحرمان المواطنين من الغذاء والرعاية الصحية والمسكن وتعريض النساء والأطفال للاعتداءات الوحشية، من الضروري الإشارة إلى السياسات المحددة التي ساهمت في انهيار الديمقراطية في البلاد على الرغم من استعداد الشعب السوداني للالتزام بالديمقراطية. ولا شك في أن "قوات الدعم السريع" هي التي حرضت على العنف الحالي، إلا أن الإحباط والمخاوف الشعبية انتشرت على نطاق واسع حتى قبل الأزمة العسكرية.
وبدلًا من الإشراف على الانتقال الداخلي السلس من نظام عمر البشير إلى حكومة ديمقراطية، كما حصل في السودان في ما مضى، دعا رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، الأمم المتحدة فعليًا إلى تولي منصبه. ثم أنشأت الأمم المتحدة بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان برئاسة الممثل الخاص للسودان، فولكر بيرتس، في ما كان من المفترض أن يكون محاولة لتنظيم انتخابات عامة بالتشاور مع السودانيين من جميع شرائح المجتمع.
لكن بيرتس وبعثة الأمم المتحدة اختارا بدلًا من ذلك أفرادًا من طيف واحد فقط من المشهد السياسي السوداني، يُعرف باسم "قوى إعلان الحرية والتغيير"("قحت")، للتشاور حول إبرام "اتفاق إطاري"، واستبعدا المجموعات والأفراد الرئيسيين الآخرين. واعتُبر هؤلاء المحاورون المختارون أصحاب المصلحة الوحيدين في السودان الديمقراطي المستقبلي. ومن خلال استبعاد شرائح كبرى من الشعب السوداني ودعوة الأطراف الدولية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى المشاركة في صنع القرار في الوقت عينه، أثار الاتفاق الذي أبرمته بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان و"قوى إعلان الحرية والتغيير" غضب غالبية السودانيين الذين اعتبروا أن الرؤيا الديمقراطية المنبثقة عن الاتفاق لا تخدم سوى أيديولوجيات ومصالح المجموعات القليلة المشاركة في تشكيل الحكومة.
وعلى وجه الخصوص، شعر الكثيرون من السودانيين بالإحباط من النسخة المتطرفة من الديمقراطية الليبرالية التي يفرضها الاتفاق على ما يبدو. لم تعترف هذه النسخة بالأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية التي تلعب حتما دورًا مركزيًا في نمط حياة السودانيين. وعلى الرغم من أن "قوى إعلان الحرية والتغيير" زعمت أنها تمنع في عملية صنع القرار بروز "الإسلاميين" الخطير، وتحججت بهذا السبب للتخلص من آلاف السفراء والقضاة وضباط الشرطة والموظفين الحكوميين وأساتذة الجامعات لأنهم حصلوا ببساطة على مناصبهم في عهد البشير، لا يتماشى هذا التبرير مع واقع الثقافة الدينية والتقليدية في السودان. ووفق تقارير إعلامية صدرت آنذاك، زعم شيخ قبيلة البجا في شرق السودان، أن سفيرًا من هيئة رباعية هدده بحرمانه من حق الترشح في الانتخابات العامة المقبلة إذا لم يوقع الاتفاق الإطاري.
يُعتبر المواطنون السودانيون محافظين إلى حد كبير، ولكنهم أفراد متسامحون وعصريون وغير عنيفين يتوقون ببساطة إلى حكومة تحكمهم يختارونها من خلال الاقتراع. فهم ليسوا مناهضين للديمقراطية، بل يرغبون في ديمقراطية تنسجم مع واقعهم الثقافي. وفي المقابل، بدا الإطار الديمقراطي الذي فرضته بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان و"قوى إعلان الحرية والتغيير" غريبًا وغير مناسب.
ومهد هذا التخطيط الدولي الفاشل للانتقال إلى الحكم المدني، الطريق أمام تمرد "قوات الدعم السريع" الذي أشعل فتيل الصراع. وفي أيار/مايو، أقرت على ما يبدو وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية بنفسه بهذا الخطأ، ووعد بتوسيع قاعدة المحاورين لتشمل المزيد من شرائح المجتمع السوداني. ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الأوان قد فات.
لسوء الحظ، هذه ليست المرة الأولى التي تستند فيها سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان إلى محاورين مضلَلين أو من جانب واحد. في الواقع، حصل ذلك أيضًا طوال فترة الحرب الأهلية السودانية الثانية. في ذلك الحين، اعتمد صانعو السياسة الأمريكيون بشكل مفرط على جماعات الضغط الحزبية والمخبرين غير الموثوق بهم لتشكيل الآراء حول النزاع، ما أفضى إلى سردية مبسطة بشكل مفرط، ولكن قابلة للاستيعاب، مفادها أن الحرب الأهلية وضعت جنوب السودان المسيحي الضعيف في مواجهة مع شمال السودان المسلم. وبعد تقييم لاحق، اعتراف علنًا دبلوماسيون برزوا في مراحل متنوعة من النزاع السوداني بهذه التقديرات الخاطئة، ومن بينهم سفير الولايات المتحدة السابق في السودان دونالد بيترسون، والدبلوماسية إليزابيث شاكلفورد، ومدير قسم السياسات لدى المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، زاك فيرتين، والمبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، السفير برينستون ليمان.
عندما لا تشمل السياسة تجاه السودان أصوات عدد كبير من أصحاب المصلحة، يُحجَب واقع المشهد السياسي السوداني وتزداد معاناة الشعب السوداني. ومع استمرار المعركة بين "القوات المسلحة السودانية" و"قوات الدعم السريع"، لا بد من أن يعيد المجتمع الدولي جديًا تقييم نظرته إلى البيئة السياسية والثقافية في السودان حرصًا على رؤية الصورة الكاملة لما يمكن أن تبدو عليه الديمقراطية في السودان.