- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل هي عودة الدكتاتورية؟ حرية التعبير في العراق مهدَّدة
أدت المؤسسات المهنية والحماية القانونية - التي يُزعم أنها مُنحت للصحفيين العراقيين- الى خُذلانهم مراراً وتكراراً.
بينما يواصل السياسيون التحذير من مخاطر الخطاب البعثي ونزعته التخريبية، تَسُرُّهم جدًا الاستفادة من الإطار القانوني القمعي الذي كان قائمًا في النظام القديم ولا يزال ساريًا، وهو يضمن قدرتهم على إسكات الخصوم السياسيين متى شاءوا. فما زال السياسيون الحساسون إزاء النقد الذين يستهدفون الخصوم السياسيين، ويُسكِتون المنتقدين، ويكبتون عملية المساءلة التي يقودها المواطنون يستخدمون غالبًا بعض الأقسام من قانون عقوبات عام 1969 التي سعت إلى الدفاع عن "حزب البعث" الاستبدادي وأجهزته الحكومية من الانتقادات.
يؤكد القمع الحالي الذي تعاني منه وسائل الإعلام القول المأثور العراقي بأن عام 2003 أسقط صدام ليستبدله بألف صدام. وفي حين اتضحت الخطوط التي لا يستطيع النقاد تجاوزها علنًا، لا يمكن الآن توقُّع ما يستطيع الإعلاميون والمحللون والناشطون قوله وما لا يمكنهم قوله من دون التعرض لخطر العقاب. وركّز البعض في الأشهر الأخيرة على تراجُع حرية التعبير في إقليم كردستان - ولكن يمكن أن ينطبق الأمر نفسه، بشكل انتقائي، على العراق الفيدرالي أيضًا. ويعتمد بدرجة كبيرة احتمال وقوع المتحدث في أفخاخ الملاحقة القانونية غير المكتوبة على خمسة أبعاد هي: الوزن السياسي للشخص الذي ينتقده، ومدى حساسية ذلك الشخص إزاء النقد، وتفضيله الملاحقة القانونية بدلًا من التخويف الشخصي، وحجم الجمهور الذي يطاله الناقد، وخطورة النقد الموجه ضد خصمه.
يُعد إصلاح قانون العقوبات عملية سهلة من الناحية النظرية، إذ يستطيع مجلس النواب تعديل القانون متى شاء أو يقوم القضاء بإلغاء المواد إذا طُعِن في دستوريتها بشكل مناسب. إلا أن هذين الطريقين مسدودان بالكامل. ففي الأشهر الأخيرة (وعلى مر السنين)، ازداد انخراط القضاء العراقي في السياسة وأصبح، على الرغم من سعيه وراء الأضواء السياسية، يخاف من النقد العام الذي تتعرض له حتمًا أي شخصية عامة. وحتى إذا رُفعت قضية إلى "المحكمة الاتحادية العليا" من أجل إلغاء أقسام قانون العقوبات التي تنتهك حرية التعبير و/أو تشكل آثار النزعة الاستبدادية البعثية، من غير المحتمل أن يتحقق ذلك نظرًا إلى الحماية التي توفرها تلك الأقسام. وبالنسبة إلى البرلمان، يُعَدّ تعديل القوانين أمرًا روتينيًا، ولكن يبدو من المستحيل تصديق أن 165 نائبًا سيسعون إلى إلغاء أقسام قانون العقوبات التي تسمح لهم بملاحقة الخصوم السياسيين والناشطين الفاعلين على حدٍ سواء.
وفي ظل انسداد هذين الطريقين الداخليين، لا بد من إيجاد بديل. وفي بعض البلدان، تمكنت الضغوط الخارجية التي مارسها نشطاء المغتربين من إثارة دعم الشارع والمطالبة بتغيير القوانين القمعية المماثلة. ولكن في السياق العراقي، أدى تشويه سمعة المغتربين على نطاق واسع في أعقاب نصائحهم السيئة والنفعية للحكومات الغربية قبل غزو العراق مباشرةً إلى إعاقة قدرة هذه المجتمعات على التأثير في السياسة الداخلية. وفي سياق متصل، يرى الكثيرون في القيادة العراقية وفي الشارع أن المغتربين والسياسيين المزدوجي الجنسية هم بعيدين عن الوضع، ما يقلل من احتمال قدرتهم على إحداث تغيير. وإلى جانب حقيقة أن حتى حملات الدعوة الأكثر نجاحًا ستظل تواجه المسارين الحكوميين المشار إليهما سابقًا، يُطرَح السؤال الآتي: كيف يمكن بالفعل إحداث تغيير حقيقي؟ إن الحكمة التقليدية المتمثلة في سيطرة الإصلاحيين على السلطة بناء على طلب الناخبين المحبطين هي بديل محتمل (ضعيف)، ولكن بعد مرور ثمانية أشهر من الانتخابات التي أُشيد بها كعامل تغيير أساسي، من الصعب رؤية مثل هذا التحول في مستقبل العراق.
في أوائل حزيران/يونيو، استهدفت السلطة القضائية مرة أخرى الكاتب والصحافي العراقي البارز سرمد الطائي بسبب تعليقاته السياسية – وهو يقيم أساسًا في شبه منفى في أربيل منذ عهد المالكي بسبب مضايقة رئيس الوزراء السابق له ومذكرات التوقيف بحقة لانتقاده الصريح لتشكيل الحكومة. ففي برنامج "المحايد"، انتقد الطائي "مجلس القضاء الأعلى" ورئيسه فائق زيدان نفسه بسبب تدخلهما السياسي طوال فترة تشكيل الحكومة. وتجنب أيضًا بجهدٍ الحديث عن "المحكمة الاتحادية العليا" – في إشارة إلى أن المسألة غير ضرورية نظرًا إلى سيطرة زيدان على المؤسسة. وذهب الطائي، الثائر الدائم، إلى أبعد من ذلك قائلًا إن فيض النشاط المدني والرغبة في تحقيق تغيير سياسي حقيقي لا يمكن لأحد أن يردعهما... بما في ذلك المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، أو "الحرس الثوري الإيراني"، أو الجنرال الراحل قاسم سليماني (في إشارة على الأرجح إلى الميليشيات التي كان يقودها سابقًا).
من المستبعد أن تنفذ السلطات مذكرة التوقيف التي أصدرتها بحق الطائي (ما لم يدخل مجددًا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الفيدرالية)، ولكن الضرر لحق بمئات الصحافيين والإعلاميين الذين وقّعوا للتو بيان تحذير بشأن حرية التعبير في العراق، ويعتقدون الآن أنهم قد يكونون الضحية التالية. والبيان الذي صدر في 3 حزيران/يونيو تحت عنوان "دفاعًا عن حرية التعبير"، والذي لا يزال عدد الموقعين عليه يتزايد بعد أن تجاوز ألفَي موقع، هو على الأرجح مبادرة أطلقها صحافيون بارزون. ويسعى الموقعون عليه إلى الدفاع عن حرية التعبير لدى العراقيين، عبر دعوة المؤسسات الحكومية، وخاصةً القضاء، إلى احترام الحق الذي يضمنه الدستور في التحدث بحرية وانتقاد استخدام لغة ذاتية للغاية في مختلف الشكاوى القانونية. ويستنكر البيان الجهود التي يبذلها المسؤولون في سبيل الحد من التعليقات العامة، معلنًا أن وظيفتهم هي خدمة ناخبيهم، وليس ضبط أفكارهم. ومع ذلك، يبدو أن مذكرة توقيف الطائي هي أقرب ما سيصل إليه الصحافيون كرد رسمي.
إن مخاوف الصحافيين لها ما يبررها، نظرًا إلى الطبيعة المتقلبة التي تتسم بها عملية مقاضاتهم (واضطهادهم). وتصدّرت عناوين الأخبار قضية التشهير الجارية ضد العضو السابق في "مفوضية حقوق الإنسان"، علي البياتي، بسبب تعليقاته على مزاعم التعذيب الذي يُمارَس بحق معتقَلي الحكومة، وأدت هذه القضية إلى نفيه الاختياري. ورُفضت أخيرًا القضيةالمرفوعة ضد المعلّق أحمد ملا طلال بسبب إحضاره ممثلًا لتجسيد دور عميد فاسد في الجيش - مع أنه رفض بجرأة الاعتذار من وزارة الدفاع.
لا يشمل نطاق هذه القضايا المتعلقة بحرية التعبير بأي حال من الأحوال أولئك الذين يشغلون مناصب بارزة حصرًا – ومن بين المستهدَفين الآخرين الناشط المقيم في صلاح الدين يزيد الحسون، الذي استهدفه المحافظ بسبب انتقاداتٍ أدلى بها على وسائل التواصل الاجتماعي (مع أن المحافظ أسقط الدعوى في وقت لاحق)، وصالح الحمداني الذي استُهدف كذلك بعد إعادة نشر منشور قديم على موقع "فيسبوك" فسّره أنصار التيار الصدري على أنه يشكل إهانة لأسرة مقتدى الصدر. وأدت هذه الحادثة إلى إقالة الحمداني من "شبكة الإعلام العراقي" التي تملكها الدولة. ويمكن تعداد عشرات القضايا الأخرى المشابهة - وفي كل حالة، تعتمد النتيجة على احتساب الأبعاد الخمسة المذكورة أعلاه، ما يترك النتائج غير واضحة أبدًا.
وعلى الرغم من الإحباط الواضح الذي يشعر به الصحافيون من الوضع الحالي في العراق، والذي عبروا عنه في بيانهم الأخير، لا تزال المؤسسات المهنية المصممة لحمايتهم غير كافية، تمامًا مثل الحماية القانونية الممنوحة لهم. ومن الجدير بالذكر أن مؤيد اللامي أُعيد انتخابه لولاية رابعة في نيسان/أبريل الماضي كنقيب الصحافيين العراقيين بنسبة 77% من الأصوات. ومع هذا الهامش الواسع من الدعم، قد تشير إعادة انتخابه إلى أن الصحافيين مرتاحون للوضع الراهن، وإلى عدم وجود مشاكل جوهرية تتعلق بحرية التعبير في العراق. ولكن كما توضح القضايا المذكورة أعلاه، يشير الواقع إلى عكس ذلك تمامًا، ويثير ذلك التساؤلات عن سبب تصويت 1184 صحافيًا لإبقاء اللامي ممثلًا عنهم.
في عدة بلدان أخرى، يعتمد المهنيون على نقابات الصحافيين من أجل الدفاع عنهم في حال ارتكاب الحكومة للتجاوزات. ويختلف الواقع في العراق، إذ تشير حقيقة أن عدد الصحافيين الذين وقّعوا على بيان التحذير غير الرسمي يفوق عدد أصوات اللامي إلى أن عدة صحافيين وإعلاميين لا يعتبرون أن النقابة هي المدافع عنهم. والحقيقة المُرّة بشأن النقابات العراقية هي أنها تعمل كمدافع آخر عن الوضع الراهن. ففي الواقع، لم تُصدِر "نقابة الصحافيين" سوى بيانات روتينية حول حرية التعبير، من دون الدفاع فعليًا عن المتهَمين باستخدام هذه المواد الجائرة من قانون العقوبات التي تعود إلى عهد صدام.
لا يستطيع الصحافيون العراقيون الاعتماد إلا على قلة قليلة للدفاع عنهم. واستمرار هؤلاء الصحافيين في القيام بعملهم والضغط من أجل تحقيق المزيد من الحريات هو شهادة على شجاعتهم. ومع ذلك، لن تكون سلامتهم مضمونة ما لم توضَع أطر قانونية وغير رسمية أفضل، إلا أن هذا الاحتمال يبقى بعيد المنال للأسف في عراق اليوم.