- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل ينذر التدخل الروسي في أوكرانيا بإنهاء المساعدة الإنسانية المقدمة للسوريين؟
بدأت الحرب في سوريا كانتفاضة داخلية ديمقراطية ضد حكومة مركزية غاشمة وفاسدة، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى أحد أكثر الصراعات الدولية تعقيدًا في التاريخ المعاصر.
وبالفعل، فقد انخرطت قوى إقليمية وعالمية شيئًا فشيئًا في الصراع الدائر في سوريا، مُشكّلةً شبكات بالغة التعقيد في سوريا، وحاشدةً قدراتها العسكرية لمساندة عدد لا يستهان به من الوكلاء في الميدان.
ومع ذلك، فقد تمكنت الأمم المتحدة وشركاؤها من التفاوض مع الجهات الفاعلة الرئيسية في النظام ومع عدد من القوى المعارضة ودول مجاورة وقوى عالمية للحفاظ على مستوى معين، على الأقل، من عمليات إيصال المساعدات الضرورية للشعب السوري المتضرر، ما يثبت فائدة مبدأ "الحياد" في العمل الإنساني، وهو المبدأ الذي غالبًا ما يتعرض للانتقادات والتشكيك. أما الآن فقد تُحقق تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا ما لم تستطع عشر سنوات على الأقل من الانتهاكات المستمرة للمبادئ الإنسانية تحقيقه، ألا وهو إنهاء المساعدة الإنسانية برمتها في سوريا.
علاوة على ذلك، قد يؤدي تطور الأوضاع هذا إلى حدوث مأساة ذات أبعاد هائلة. تشير بيانات صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن 14.6 مليون سوري يحتاجون حاليًا إلى المساعدة الإنسانية، وهي زيادة قدرها 1.2 مليون شخص منذ العام 2021. إلا أن التمويل المخصص للاستجابة الإنسانية بشكله الحالي لا يغطي سوى جزءًا من هذه الاحتياجات. وبصورة أدقّ، لم يتم منذ 30 أيلول/سبتمبر تمويل خطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية بشأن سوريا سوى بنسبة 26.7 بالمئة منها، وذلك مقارنة بالعام السابق حيث وصل حجم تمويل الخطة إلى 46 في المائة. ومن الجدير بالذكر أن الحاجة في شمال غرب سوريا وحدها وصلت إلى مستوى هائل. فمن بين 4.6 ملايين نسمة يعيشون في المنطقة، ثمة 4.1 ملايين شخص بحاجة إلى المساعدة، بينما تم تصنيف 3.3 ملايين شخص على أنهم "لا يتمتعون بالأمن الغذائي" و2.9 مليون شخص على أنهم "نازحون داخليًا"، وهناك 1.8 مليون شخص يعيشون في مخيمات النازحين.
وبينما يتخوف الأوروبيون من ارتفاع أسعار النفط والغاز، يواجه سكان شمال غرب سوريا برد الشتاء القارص ونقص الوقود في خيمهم المغطاة بالغبار والطين والتي لا تزال تحمل شعار المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين المتآكل بسبب عوامل الطقس، وهو ما يُعتبر تذكيرًا دائمًا بوعود المجتمع الدولي التي لم يتم الوفاء بالكثير منها حتى الآن. من جانب آخر وردت تقارير في الأشهر الأخيرة عن انتشار داء الكوليرا في جميع المحافظات السورية، ما اعتبره الاختصاصيون مؤشرًا على الانهيار التام للبنية التحتية للرعاية الصحية وشبكات المياه الصالحة للشرب.
وحاليًا يتعرض شمال غرب سوريا وشمال شرق سوريا للقصف من طائرات مقاتلة روسية وإسرائيلية وتركية، الأمر الذي يفاقم الكارثة الإنسانية الرهيبة التي أصاب تلك المناطق. تجدر الإشارة إلى أن تركيا تخوض معارك مباشرة وبالوكالة ضد القوات الكردية في سوريا حيث تدير قواعد عدة وتُعنى بدحر القوات الكردية ووقف الهجرة. أما عن سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه تركيا الشريكة في حلف الناتو، فهي تشدد تركيزها على دور تركيا كحاجز لوقف الهجرة إلى القارة الأوربية، وهي الآن مهتمة بشكل أساسي بموقف تركيا في مواجهة روسيا وغزو أوكرانيا. فبالنسبة إلى دول الاتحاد الأوروبي، فإن محنة السوريين هي في أحسن الأحوال مسألة ثانوية.
ولطالما أدى نقص التمويل والقيود الصارمة، الى جانب السياسات الإقليمية إلى إعاقة المساعي الإنسانية في سوريا، ولكن مع التوجه أكثر فأكثر إلى تخصيص أموال المساعدات لأوكرانيا، باتت المساعي في مجال المساعدات تواجه ضغوطًا غير مسبوقة. وقد أشارت شبكة التعلم النشط للمساءلة والأداء (ALNAP )، وهي منظمة تسعى إلى تعزيز التعليم داخل قطاع المساعدات، إلى أن الجهات المانحة غالبًا ما تقوم بإعادة تخصيص التمويل من حالات الطوارئ غير البارزة إلى حالات الطوارئ الاكثر ظهوراً والتي تحظى باهتمام جيوسياسي وإعلامي كبير. علاوة على ذلك، تخصص معظم الجهات المانحة الأموال للحالات الطارئة مع بداية كل عام، لكن غالبا ما تحظى الازمات واسعة النطاق بالأولوية من حيث التمويل والخبرات. ومن المتوقع أن تصل التكلفة الإجمالية للمساعدات المقدمة لأوكرانيا خلال السنة المالية 2022 إلى أكثر من ربع إجمالي تكلفة المساعدات الإنمائية التي توفرها دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وبحسب ما أفاد به زائرو مخيمات النازحين الممتدة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ثمة أماكن يحصل فيها السكان على الحد الأدنى من المساعدات ليبقوا على قيد الحياة لا أكثر. ولكن حتى هذا الهدف المتواضع بات الآن في خطر. فعلى سبيل المثال، اضطر برنامج الغذاء العالمي إلى القيام تدريجيًا بتقليص الحصص الغذائية التي يقدمها، ما يعني أن السوريين المعرضين للخطر في شمال غرب سوريا لا يحصلون إلا على حوالي 1,177 من السعرات الحرارية، أي نصف الكمية المُوصى بها. وفي السياق ذاته، أرجع برنامج الغذاء العالمي التخفيضات التي طرأت على كمية المواد الغذائية المقدمة إلى نقص التمويل العالمي. وفي ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لم يتلق البرنامج سوى 27 في المائة من التمويل المطلوب بحلول شهر تشرين الأول/ أكتوبر.
ولا يتوقف الأمر عند انعدام التمويل لسوريا، ولكن قد يصعب أيضًا على المنظمات الوصول إلى شمال غرب البلاد حيث يعيش هناك الكثير من السوريين، والذين يُعتبرون من الفئات الأكثر ضعفاً وعرضةً للخطر. وهنا يجدر الذكر أن مجلس الأمن و الأمم المتحدة قد واجهوا مرارًا وتكراراً صعوبات كثيرة في تجديد الآلية الأممية بشأن "قرار إرسال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا" نتيجة الضغوطات التي مارستها روسيا في مجلس الأمن باستخدامها حق النقض "الفيتو"، وهذا ما يمكنها كعضو في مجلس الأمن من إيقاف المساعدات من خلال التهديد المستمر باستخدامه. أيضاً برز الدور الروسي خلال الحرب في سوريا بعد تدخلها العسكري المباشر لمساعدة نظام الأسد في العام 2015، حيث ساهمت بإنقاذه من السقوط بعد خسارته معارك أساسية ضد قوات المعارضة السورية، كما ساعدته في استعادة السيطرة على ثلثي الأراضي السورية. وخلال هذه الفترة أيضًا، قصف الطيران الروسي المرافق الصحية والتعليمية والطرقات ومعامل الطاقة، إضافةً إلى تشريد مئات الآلاف من السوريين.
وقد أتاح القرار الحالي بشأن الأنشطة العابرة للحدود، الذي وُضع بدايةً في العام 2014 كقرار الأمم المتحدة رقم 2165، إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخاضعة لمجموعات المعارضة في سوريا عبر المعابر الحدودية بين تركيا وسوريا. ولكن على حدّ تعبير مارك كاتس، النائب السابق للمنسق الإقليمي إلى سوريا في مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، "ثمة احتمال بعدم تجديد القرار كل عام، وهذا الاحتمال يزداد عامًا تلو العام".
وبذلك سيكون لعدم التجديد وإغلاق المعبر الحدودي الوحيد المتبقي حتى الآن-علما بأن روسيا قد أزالت معبر حدودي أخر من القرار في العام 2020- تأثيرات فورية مباشرة. وفي هذا الإطار، أشار أحد الموظفين، في منظمة دولية غير حكومية، يقوم بالإشراف على مشروع الرعاية الصحية في سوريا، طالبًا عدم الكشف عن اسمه، إلى أنه "إذا لم يتم تجديد القرار، سنفقد نحن والشركاء الآخرون في مجال الصحة إمكانية الحصول على تمويل ضروري من الأمم المتحدة. وهذه كارثة لخدمات الرعاية الصحية التي تدعم الناس في شمال غرب سوريا". وبالتالي، إذا قررت المنظمة نقل أنشطتها إلى دمشق، ستصبح رشوة النظام السوري أمرًا لا مفر منه، فضلاً عن مصادرة وسرقة شحنات المساعدات. كما سيصبح من المستبعد وصول المساعدات إلى شمال غرب سوريا، على الرغم من الوعود الصادرة عن مسؤولي النظام السوري.
وكانت روسيا في الماضي تفرض مزيد من الصعوبات والتعقيدات والمطالب حول مسألة التجديد كل عام. ولكن في خضم التحول الكامل الذي يشهده المشهد الجيوسياسي، تتقلص الآن الفترة التي تفصل بين التجديد والآخر. ففي تموز/يوليو 2022، تمكن مجلس الأمن الدولي من تجديد عمليات المساعدة العابرة للحدود لمدة ستة أشهر لا أكثر. وفي ذلك الوقت، أي بعد مضي خمسة أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا، علّق ممثل إيرلندا في الأمم المتحدة الذي طرح مسودة القرار بالاشتراك مع النرويج، قائلًا: "لا يخفى أنها كانت مفاوضات صعبة".
من المقرر أن تنتهي عمليات المساعدة الحالية عبر الحدود في 10 كانون الثاني/يناير 2023. ويرجّح أن تمارس روسيا حق النقض أثناء المفاوضات القادمة، على خلفية ما عانته من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها الدول الغربية منذ غزوها لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022. كما أنه من المتوقع أن تطالب روسيا تركيا والولايات المتحدة خلال هذه المفاوضات بتقديم تنازلات كبيرة مثل تخفيف العقوبات على سوريا وتطبيع العلاقات مع نظام الأسد. ونتيجة للتفاهمات الروسية التركية، فضلاً عن الضغوط التركية الداخلية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، عملت أنقرة على تسريع تقاربها مع النظام السوري. ومؤخرًا، تم عقد لقاء بين وزراء الدفاع ورؤساء المخابرات التركية والسورية في موسكو، ومن المتوقع عقد اجتماع آخر لوزراء خارجية الدولتين في نهاية شهر كانون الثاني /يناير2023.
لطالما نددت المعارضة السورية بما آلت إليه السياسات داخل الحدود السورية وخارجها من تسييس للمساعدات الإنسانية إلى سوريا، وهو واقع يتسارع الآن نتيجة الحرب في أوكرانيا. اضافة إلى ذلك، يبدو أن قدرة روسيا على استخدام المساعدات كورقة مساومة آخذة في الازدياد، على الرغم من أن ذلك يتعارض مع الاتفاقيات الدولية وحق الإنسان في الحصول على المساعدة في الأزمات. ويتطابق هذا الواقع مع نزعة مأساوية لوحظت في مناطق مضطربة أخرى، بينما يحذر العلماء والعاملون في مجال الإغاثة من "تقلص المساحات الإنسانية".
يعتبر الوضع في سوريا، على أكثر من صعيد، نموذجًا مصغرًا لديناميكيات المناطق التي تعاني من الأزمات حول العالم. فقد أدى التقاء أحداث غير مترابطة بظاهرها، كالوباء والاحتباس الحراري والسياسات الحكومية لوقف الهجرة والاستقطاب السياسي الجغرافي الناجم عن الحرب في أوكرانيا، إلى خلق إعصار هائل يمكن أن يؤدي إلى مقتل ملايين المدنيين المحاصرين في مناطق الصراع والذين لم يشاركوا بأي شكل في إحداث هذه الأزمات. سوف يتطلب حلّ هذه المشاكل استثمارات عالمية ضخمة وتعاونًا دوليًا، علماً أنها معركة طويلة وشاقة لإيجاد الإرادة السياسية للقيام بذلك.
إلا أن السوريين، الذين يواجهون حاليًا أعلى مستويات الاحتياجات الإنسانية منذ العام 2011، لا يمكنهم الانتظار. ولذلك يعد تجديد الوصول إلى المناطق الأكثر احتياجًا في سوريا وتمويل المساعدات الكافية للمواطنين السوريين من أكثر الأولويات الإنسانية إلحاحًا للعام 2023. وفى هذا الصدد، هناك عدد من الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتجنب حدوث كارثة كبرى هذا الشتاء، بما في ذلك إعادة تخصيص المزيد من الأموال للمدنيين في سوريا، وزيادة الضغط على روسيا لإجبارها على عدم استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد تجديد القرار.